من تاريخ كنيستنا
|
|
|
بدء الآلام والضيقات على الكنيسة، كتأديب
من الله على الضعف الروحي للمؤمنين:
يبدأ كاتب سيرة البابا خريستوذولوس سرد أحداث الآلام والضيقات التي ألمَّت بالأقباط والبابا بهذه الكلمات:
[ولما صار جميع مقدَّمي المملكة والنُّظَّار (أي مديري المصالح الحكومية) وتدبير أمورها كلهم مسيحيين، وكانوا هم الذين يُنفَّذ أمرهم؛ تكبَّروا، وتجبَّروا، وبذخوا هم وجميع المسيحيين، وعزَّت نفوسهم، ووقع بينهم الحسد والبغضة وبين مقدَّميهم، وصار أكثر اهتمامهم بالأمور الدنيوية، والتجمُّل، والتفاخر والكبرياء بعضهم على البعض. فنزل التأديب من السماء من عند السيد المسيح على جميع المسيحيين... كما قال داود المغبوط: «طوبى للرجل الذي يؤدِّبه الرب، ومن ناموسه يُعلِّمه، ليُنجيه من اليوم السوء»، أي يوم القيامة].
فأول ما جرى للأب البطريرك وشاية وُشِي به فيها أنه يمنع ملك النوبة من إرسال ما سبق الاتفاق عليه من هدايا. وكان الواشي الوزير ”اليازوري“ الذي أرسل مَن يقبض على الأب البطريرك وهو في مقره في مدينة ”دمرو“، وسار به إلى القاهرة حيث الوزير ”عضد الدولة“ الذي خاطبه في هذه التهمة، لكنه نفاها. فأمر الوزير أي الوالي بالإفراج عنه. فعاد الأب البطريرك خريستوذولوس إلى دمرو.
تنقُّل رأس القديس مرقس الإنجيلي،
من بيت إلى بيت:
كانت رأس القديس مرقس الإنجيلي محفوظة في بيت أحد أراخنة الأقباط واسمه ”أبو يحيى زكريا“ الذي كان يعمل في خدمة ”القائد الأجلِّ عز الدولة“، منذ أن أخذها الأرخن ”بقيرة الرشيدي“ من أمير تركي بثلاثمائة دينار، وذلك في عصر البابا زخارياس (1003-1032م)(1).
ولما قارب أبو يحيى زكريا هذا على نهاية حياته، استدعى عشرة من كبار المسيحيين وقال لهم إنه يخشى بعد موته أن يتمَّ تفتيش بيته من قِبَل القائد، فيأخذ رأس القديس مرقس. فحملوا الرأس إلى بيت ”جبريل ابن قزمان“، لأن بيته قريب من بيت ”أبي يحيى“، لكنه رفض ذلك خوفاً من السلطان، إذ سبق مصادرة مقتنيات بيته. فأخذه قس اسمه ”سيمون“ الذي صار فيما بعد أسقفاً على ”تنِّيس“. ولكن الخبر كان قد وصل إلى ”القائد الأجلِّ معضاد الدولة“، فأمر بالقبض على ”جبريل ابن قزمان“ وطالبه برأس القديس مرقس مدَّعياً أنه كان مع الرأس عشرة آلاف دينار. فلما أنكر هذا أنه أخذها، اعتقله ووضعه في الحبس. ثم ساومه القائد ”معضاد الدولة“ على العشرة آلاف دينار إلى أن خفَّضها إلى خمسمائة دينار فقط، فأفرج عنه.
الوشاية بحق الأب البطريرك
وغلق جميع الكنائس:
إذ كان بمصر (القاهرة) قاضٍ اسمه ”القاضي أبو الحسين عبد الوهاب ابن على السيرافي“، وكان قد عُزل من خدمةٍ كان يتولاَّها، لكنه صار قاضياً بالإسكندرية، وكان يبغض المسيحيين؛ هذا مضى في أحد الأيام إلى ”دمرو“ حيث المقر البطريركي، فلم يوفِه البطريرك حقه، فاستخدمه الشيطان ليكتب إلى الوزير ”اليازوري“ وقال في حق الأب البطريرك أقوالاً كثيرة من بينها: إن ”دمرو“ بما فيها من مقر الأب البطريرك هي بمثابة القسطنطينية؛ وأن فيها 17 كنيسة أكثرها مبني حديثاً، وفيها كاتدرائية كبرى؛ وأن البطريرك بنى موضعاً لسكناه ونقش على بابه كلام ”الكُفْر“ وأهان الإسلام وأهله!! وأشار عليه أن يُغلِق الكنائس كلها ويهدم ما استجدَّ منها (أي عدم شرعية بناء كنائس جديدة).
فأجابه الوزير إلى ذلك، وكتب إليه أن يكشف عمَّا تضمنت شكواه بالشهود العادلين. فركب القاضي مع جماعة من الشهود وجاء إلى ”دمرو“، ودخل إلى مقر الأب البطريرك أنبا خريستوذولوس، فوجد على باب المقر كلاماً منقوشاً: ”باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد“، فكشطه بسيفه من على الباب. فردَّ عليه الأب البطريرك: ”إذا كشطته من على الباب، فهل تقدر أن تكشطه من قلبي؟“ فتعجَّب الحاضرون من قوة نفسه وجودة كلامه.
وبعد ذلك أمر الوزير ”اليازوري“ أن تُغلَق الكنائس في جميع بلاد مصر. وكان مساعد الوزير واسمه ”أبو الفرج البابلي“ يقوم بإغلاق الكنائس، وقد طالب الأب البطريرك بالمال، وكان ذلك سنة 773 للشهداء، وكان المال المقرر 70 ألف دينار. فنال المسيحيين من ذلك ومن غلق كنائسهم ضيق شديد.
- ثم قام إنسان يُعرف بـ ”ابن القائد الرحيم“، أخذ حق جباية الجزية. وكان رجلاً سيئاً، فأصاب الأقباط منه هوان عظيم. وفي يومٍ بينما كان راكباً حصاناً شرساً، وقع على الأرض وبقيت قدمه مشتبكة في ”الركاب“ (الدرجة التي يضع قدمه عليها للنزول من على الجواد)، وظل الجواد يجري ويرفسه، إلى أن مات. ولما دُفِنَ، رجم الناس - مسلمون ومسيحيون - قبره بالطوب عدة أيام.
ثم إن الخليفة ”المستنصر بالله“ سخط على الوزير ”اليازوري“، وأمر بنفيه إلى ”تنِّيس“، ثم أمر بقتله هناك. ثم أهانه الناس جداً بعد موته. وذلك لأن هؤلاء الطغاة كانوا لا يُفرِّقون بين مسيحي ومسلم في إذلالهم للمصريين. ولا عجب فهُم دخلاء وليسوا من المصريين.
- ثم إن مساعد الوزير ”أبو الفرج البابلي“، وبعد القبض على الوزير بسبعين يوماً، قبض عليه الخليفة واعتقله في سجن.
وكان المُقدَّمون المسلمون يقولون إن هذا من عجائب المسيحيين، يقصدون بذلك ما نال ”ابن القائد الرحيم“ أولاً، ثم اليازوري، ثم موت السيرافي، واعتقال البابلي.
- ويشهد كاتب سيرة الأب خريستوذولوس: إن ”ابن ميروا الكتامي كان مُحباً للمسيحيين ويُراعي كنائسهم، حتى أنه لما أمر "اليازوري" بغلق الكنائس ومصادرة جميع مقتنياتها وأموالها ومطالبة جميع مسيحيي الإسكندرية بعشرة آلاف دينار قائلاً: "يجب أن تمضوا الآن فوراً وتنقلوا جميع ما هو موجود في كنائسكم من أدوات وملابس وغيرها، وستروا ما سأفعله في الغد، لأن هذا أمر مخفي"!! ونحن فعلنا ذلك. فإنه في الغد، أحضر "الكتامي" والي الإسكندرية القاضي والشهود والمسئول عن التنسيق، وأظهر أمر الوزير "اليازوري" لكي يُسجِّلوا كل ما في الكنائس ويتحفَّظوا عليه“.
”فمضوا وعادوا إلى والي الإسكندرية وقدَّموا له ما أثبتوا وجوده في الكنائس: وهو مجرد حصير ومصائد للفئران (وهذا ما رأوه في كنيسة ”السوتير“ أي ”المخلِّص“). وقال الوالي: "إذا كان هذا هو الموجود في كنائسهم الصغيرة والكبيرة، فكيف يكون حال المسيحيين؟ ومن أين لهم هذا المال المطلوب (10 آلاف دينار)، وقد ثبت لي أنهم قوم فقراء ضعفاء لا مال لهم". فأمر الوالي أن تُغلق كنائسنا وكنائس الملكيين (أتباع مجمع خلقيدونية)، وكتب إلى الوزير بذلك. وظل يُرسل رسله إلى الوزير لإنقاص الغرامة المالية إلى أن استقرت عند 2000 دينار“.
ويقول كاتب السيرة في شهادته: ”إننا ذهبنا إلى والي الإسكندرية، والتمسنا منه أن يترك لنا ولو كنيسة واحدة، فأعطانا مفتاح كنيسة مار جرجس بالإسكندرية التي كانت قديماً بيت أنيانوس أول بطاركة الإسكندرية، وهي البيت الذي دخله مار مرقس البشير في أول يوم دخل فيه إلى الإسكندرية، عندما شفى كفَّ أنيانوس حينما أبرأه القديس مار مرقس، واستضافه أنيانوس في البيت“.
ويستطرد كاتب السيرة أن الوالي قال لهم: ”امضوا وافتحوا هذه الكنيسة وصلُّوا فيها سرّاً، وادعوا لي“. ثم يُكمِل كاتب السيرة: ”فدعونا له، ومضينا كل الشعب إلى الكنيسة، وظللنا نحاول فتح الباب من الساعة الثالثة من النهار إلى الساعة التاسعة، ولم ينفتح لنا. فبكينا، وتضرعنا، وقلنا: "يا رب، قد عرفنا أنك أغلقتها لأجل خطايانا وآثامنا. فارحمنا، واعْفُ عنا". وأخيراً، انفتح لنا الباب. فدخلنا، وقدَّسنا، وتقرَّبنا (أي تناولنا)“.
إحياء طقس إسكندري ليلة أحد الشعانين:
فقد كان لدى المسيحيين الإسكندريين طقس بأن يخرجوا ليلة ”عيد الزيتونة“ أي ”عيد الشعانين“ في الليل، في طواف من كنيسة أبي سرجة إلى كنيسة ”السوتير“ أي ”المخلِّص“، بالصلوات والقراءات، إلى أن حدثت أحداث من المسلمين جعلتهم يتوقفون عن أداء هذا الطقس.
فيقول كاتب سيرة البابا خريستوذولوس: ”فلما ذكرنا ذلك للأمير "حصن الدولة بن مروا" والي الإسكندرية، أمر بخروج المسيرة الطقسية على جاري العادة. وأرسل إلى المسيحيين رجاله وأوصاهم بأن يفعلوا ما يقوله لهم: بأنَّ أيَّ بيت يُلقي حجارة على المحتفلين، يُختم بابه ويُعرف عنوانه. وأي إنسان من المسلمين تكلَّم بالشر، يمضوا به إلى الحبس. ونادى مُناديه بذلك في المدينة“.
وهكذا خرج المسيحيون في موكبهم وطافوا المدينة بالقراءة والتمجيد والصلبان والبخور كما جرت العادة. وكان في تلك السنة غلاء عظيم، حتى تم بيع القمح ليلة الزيتونة بدينار ونصف للويبة (مكيال الحبوب في ذلك الوقت وحتى الخمسينيات من القرن الماضي).
ويقول كاتب السيرة: ”إنه لما خرجنا في موكب الشعانين تلك الليلة، اتفق وصول شعير جديد من البحيرة، فرخص ثمن القمح، يوماً وراء يوم. وكان ذلك برحمة الله ورأفته“.
واعتقد المسلمون بالإسكندرية أن هذا حدث ببركة خروج موكب الزيتونة وتطوافه في المدينة. وصاروا يفرحون بخروجها في كل سنة في ليلة عيد الشعانين“.
(يتبع)
التوبة النقية مفتاح كل الفضائل
**************************************************
[اهتموا، يا أولادي، بخلاص أنفسكم، وارجعوا إلى الرب بتوبة نقية من الغش، وببكاء وتضرُّع اعترفوا بمناقصكم، ولا تكونوا كالبهيمة التي لا حس لها ولا حكمة عقل، تقع في حفرة وتعود إليها.
واعلموا أن التوبة قائمة الآن ومستعدَّة، وكل الفضائل تلحقها، لكل مَن يُجاهد فيها. لأن شأن التوبة جليل، وعظيمٌ هو حُسْن عاقبتها إلى الأبد. والذين يثبتون على مراراتها، ويتمسَّكون بمسلكها، ولا تتغيَّر قلوبهم عنها؛ يأخذون أجراً عظيماً عنها، وينالون الملكوت بسببها، لأن التوبة النقية مفتاح كل الفضائل، وبدء كل صلاح، وسُلَّم الخيرات الأبدية، والذي يقتنيها يسهل عليه باقي الوصايا شيئاً فشيئاً.
ولكن التوبة ليست هي عن خطايا الجسد فقط، وإنما عن كل الخطايا، سواء للجسد أو للنفس. وكل مَن اجتهد فيها فهو الرجل الكامل الذي بدأ يبني (بيته) على الصخر...
فمَن هو الجاهل إلاَّ الذي ترك عنه التوبة، واستكان إلى الاسترخاء والغفلة، فينهدم كل ما بناه بالتعب والدموع. أَحِبُّوا، إذن، حلاوة الجهاد، لأن التعب والحرص يأتي بالإنسان إلى النياح، ويشفي جميع أوجاع قلبه، ويجلب له خيرات السماء، وفي النهاية يصير مسكناً للروح القدس].
***********************************************
(القديس أنبا مقار الكبير - من خطابه الأخير قبل نياحته)
(1) ارجع إلى مقال: ”من تاريخ كنيستنا“ - ”البابا زخارياس (2)“، مجلة مرقس، نوفمبر 2008، ص 36،35.