تدبير الروح القدس
|
|
|
قوة الصلاة بين المؤمنين بعضهم للبعض:
لقد رأينا أن قوة الصلاة من أجل الآخرين، أكَّدتها باستمرار كلمة الله. فالمخلِّص قال لبطرس الرسول: «ولكني طلبتُ من أجلك، لكي لا يَفْنَى إيمانك» (لو 22: 32 - قيلت بعد تأسيس سر الإفخارستيا يوم خميس العهد، والمشاجرة بين التلاميذ حول مَن يكون الأكبر فيهم، وقول الرب لبطرس: «سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يُغربلكم كالحنطة»).
والقديس بولس كثيراً ما ناشد المؤمنين أن يصلُّوا من أجله: «... أرجو أنني بصلواتكم سأُوهَب لكم» (فليمون 22)، «صلُّوا لأجلنا، لكي تَجري كلمة الرب وتتمجَّد، كما عندكم أيضاً، ولكي نُنقَذ من الناس الأردياء الأشرار» (2تس 3: 2،1). وإذ كان بعيداً عـن أبنائه، طلب مـن المؤمنين أن يشتركوا معاً في الصلاة مـن أجله:
+ «فأطلب إليكم، أيها الإخوة، بربنا يسوع المسيح، وبمحبة الروح، أن تُجاهدوا معي في الصلوات من أجلي إلى الله، لكي أُنقذ من الذين هم غير مؤمنين في اليهودية، ولكي تكون خدمتي لأجل أورشليم مقبولة عند القديسين» (رو 15: 31،30).
والقديس يعقوب الرسول يُعلِّم الذين أرسل لهم رسالته: «... صلُّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشْفَوْا. طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها» (يعقوب 5: 16).
والقديس يوحنا الرائي رأى في رؤياه في السماء كيف أن الأربعة والعشرين شيخاً الواقفين أمام عرش الله؛ انطرحوا أمام الحَمَل الإلهي، «ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوَّةٌ بخوراً هي صلوات القديسين» (رؤ 5: 8)، أي أنهم كانوا يرفعون صلوات القديسين على الأرض إلى العرش السماوي.
والصلاة من أجل الراقدين:
الجميع هم في نعمة وتحت رحمة الله، سواء وهم أحياء أو بعد موتهم: «ليس الله إله أموات بل إله أحياء» (مت 22: 32).
وفي الحياة الكنسية هناك الوعي والإحساس بأن الذين ماتوا، إنما يستمرون في الحياة بعد مـوت أجسادهم، ولكن في هيئة أخرى غير الهيئة التي عاشوا بها على الأرض، وأنهم لم يتجرَّدوا من قُرْبهم الروحي من العائشين على الأرض.
لذلك، فإنَّ رباط الصلاة معهم من جانب الكنيسة السائحة على الأرض لا تكفُّ أبداً: «لا موت، ولا حياة... تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 39،38).
وكما أن المؤمنين الأحياء يحتاجون إلى معونة الصلاة من بعضهم البعض، فهؤلاء الذين انتقلوا يظلون محتاجين إلى معونة الصلاة من إخوتهم على الأرض: الصلاة والتوسُّل إلى الله من أجل مغفرة خطاياهم. وحتى وإن قيل إن باب التوبة قد أُغلِقَ في وجههم بعد الموت، لكن الصلاة تلتمس رحمة الله التي لا يمكن أن تُغلَق في وجههم، ما دام زمان القيامة العامة والدينونة لم يحلَّ بعد.
وعن هذه الصلاة يُعلِّم القديس يوحنا الرسول ضمناً في رسالته:
+ «وهذه هي الثقة التي لنا عنده (عند ابن الله)، أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا. وإن كنَّا نعلم أنه مهما طلبنا يسمع لنا، نعلم أنَّ لنا الطلبات التي طلبناها منه. إن رأى أحدٌ أخاه يُخطئ خطية ليست للموت، يطلب، فيُعطيه حياةً للذين يُخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يُطلَب. كل إثم هو خطية، وتوجد خطية ليست للموت» (1يو 5: 14-17).
أما نموذج الصلاة على الراقدين فنجدها في صلاة القديس بولس الرسول من أجل تلميذه أُنيسيفورُس الذي أراح القديس بولس (غالباً وهو في السجن)، ولم يخجل بسلسلته (تلك التي كان مقيَّداً بها القديس بولس في الزنزانة)، حينما قال عنه: «ليُعْطِهِ الربُّ أن يجد رحمةً من الرب في ذلك اليوم (يوم الدينونة)» (2تي 1: 18).
وبناءً على هذه التعاليم التي من الرسل، وبصيغة صلاة القديس بولس، تُصلِّي الكنيسة من أجل كل أبنائها الذين ماتوا وهم في حال الإيمان بالمسيح. إنها تصلِّي من أجلهم كما تصلِّي من أجـل الأحياء، مقتفية أثـر كلمات الرسول بولس:
+ «... إن عشنا فللرب نعيش، وإن مُتنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن مُتنا فللرب نحن. لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش، لكي يسود على الأحياء والأموات» (رو 14: 9،8).
أما الذين ماتوا وهم خارج شركة الكنيسة، أو بخطايا رفضوا أن يتوبوا عنها، بالرغم من دعوة الكنيسة لهم للتوبة؛ فهؤلاء لا فائدة تُجْنَى لهم من هذه الصلوات، لأنها لن تفيدهم شيئاً، إذ أن الله يتعامل مع الإنسان من خلال حرية اختياره، حتى ولو كان ضعيفاً ولم يستطع؛ لأن رحمة الله تسنده وتُكْمِل ضعفه ليخلُص: «اِسندني، فأخلُص» (مز 119: 117).
أما مغفرة الخطايا للذين أخطأوا خطية ليست للموت، فهي تُمنح لهم سواء في هذه الحياة الحاضرة أو في الحياة الآتية، وذلك استنتاجاً من كلمات الرب نفسه: «... فلن يُغفَر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي» (مت 12: 32)، وكذلك من كلمات الصلاة على الراقدين:
- ”وإن كان قد لحقهم توانٍ أو تفريطٌ كبشر وقد لَبِسوا جسداً وسكنوا في هذا العالم، فأنت كصالح ومحب البشر، اللهم تفضَّل عبيدك المسيحيين الأرثوذكسيين الذين في المسكونة كلها، من مشارق الشمس إلى مغاربها، ومن الشمال إلى اليمين، كل واحد باسمه وكل واحدة باسمها، يا رب نيِّحهم واغفر لهم. فإنه ليس أحدٌ طاهراً من دنسٍ ولو كانت حياته يوماً واحداً على الأرض. أما هم يا رب الذين أخذتَ نفوسهم، فنيِّحهم، وليستحقوا ملكوت السموات“.
(أوشية الراقدين)
وكذلك من كلمات الرب نفسه في رؤيا يوحنا الرائي: «ولي مفاتيح الهاوية (الجحيم) والموت» (رؤ 1: 18). فالمسيح له السلطان أن يفتح أبواب الجحيم، بصلوات الكنيسة وبقوة الذبيحة غير الدموية التي تُقدَّم عن الأموات.
وتحفل كل ليتورجيات الكنائس المسيحية القديمة، سواء في الشرق أو في الغرب، بصلوات (”أوشية“ في الطقس القبطي، أو ”إفشين“ في الطقس البيزنطي) عن الراقدين؛ تشهد لتذكُّر الكنيسة للراقدين بالصلاة من أجل حلول رحمة الله عليهم؛ وكذلك شهادات آباء الكنيسة ومعلِّميها التي تتكلَّم عن نفس هذا الموضوع.
وفي صلوات الكنيسة عن الراقدين، تتشفَّع الكنيسة من أجلهم كما تتشفَّع عن الأحياء، ليس باسمها، بل باسم الرب يسوع المسيح (يو 14: 14،13)، وبقوة ذبيحته على الصليب، التي رُفِعَت أمام الآب من أجل خلاص الجميع.
هذه الصلوات الحارة تساعد على نمو بذار الحياة الجديدة التي سبق أن نالها في المعمودية أحبَّاؤنا الراقدون، أثناء حياتهم على الأرض، ثم أخذوها معهم عند انتقالهم إلى الحياة الأخرى؛ حتى وإن كانت لم تُزهِر هنا على الأرض بما فيه الكفاية، فإنها تُزهر وتنمو بتأثير صلوات الكنيسة وبموجب رحمة الله.
أما البذار التي تعطَّنت هنا على الأرض بسبب انصراف أصحابها عن سقيها وتعهُّدها، فتكون قد فقدت عنصر الحياة والإثمار. هذه البذار لا شيء يمكن أن يُحييها هناك.
وكذلك، وبنفس الطريقة، فإن الصلوات على الراقدين الذين ماتوا في الشر والإثم بدون توبة أو حتى بلا رغبة في التوبة، فإن الصلوات تكون بلا قوة لهم؛ إذ يكونون قد أطفأوا في نفوسهم روح المسيح (1تس 5: 19).
ومثل هؤلاء الناس يكونون قد رفضوا أن يصنعوا لأنفسهم أصدقاء «في المظال الأبدية» (لو 16: 9)، أصدقاء ولو بأموال هذا العالم التي يُسمِّيها المسيح ”مال الظلم“ أي ”الصَّدَقة“.
ولكن بالطبع، فإن لا أحد هنا يعرف ماذا سيكون نصيب كل واحد بعد الموت. لذلك فلابد أن يُصلَّى على الجميع(1) بعد رقادهم، بدافع الرحمة لهم، تاركين لله وحده أمر الحُكْم عليهم.
فصلوات الكنيسة من أجل أبنائها هي صلوات محبة ورحمة لا يمكن أن تكون بلا منفعة.
فإن كان أحبَّاؤنا الراقدون سيفوزون بملكوت السموات، فسوف يردُّون على صلواتنا بصلواتهم المُستجابة أمام العرش الإلهي من أجلنا.
وإن كانت صلوات الكنيسة لن تفيدهم بسبب أنهم أخطأوا خطية للموت، ففي هذه الحالة، نكون نحن قد أوفينا واجب المحبة والرحمة عليهم، وحينئذ تكون لنا الطوبَى من الله حسب القول الإلهي: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (مت 5:7)، أما الصلوات التي نرفعها أمام الله فستكون لعزائنا وعزاء أحبَّاء وأقارب المنتقل.
أما إذا تقسَّت قلوبنا، فرفضنا الصلاة طلباً للرحمة من أجل الراقدين، فسيجوز فينا قول يعقوب الرسول: «لأن الحُكْم هو بلا رحمة لمَن لم يعمل رحمةً، والرحمة تفتخر على الحُكْم» (يع 2: 13).
ويقول في هذا الصدد القديس أُغسطينوس:
[مهما قُدِّم من ذبائح للمسيح، أو وزِّع من الصدقات لأجل جميع الموتى المُعمَّدين؛ فهذه الذبائح إنْ قُدِّمت لأجل الموتى الصالحين، فتُعتَبَر أفعالاً شكرية لله تعالى على سعادتهم؛ وإن قُدِّمت من أجل قليلي الصلاح، فتُعدُّ أفعالاً استغفارية؛ وإن قُدِّمت من أجل الموتى الأشرار، فهي وإن كانت لا تسعفهم بشيء، إلاَّ أنها تؤتي الأحياء عزاءً](2).
كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إنَّ التذكارات للأموات توفِّر لهم ”ربحاً عظيماً، ومنافعَ جمَّة“(3).
وكذلك القديس إبيفانيوس الذي يعتبر أنَّ ”الصلاة نافعة لهم“(4).
ويقول أيضاً القديس كيرلس الأورشليمي: ”نؤمن بأنه سوف تكون للنفوس الذين تُرفع التوسُّلات من أجلهم، منفعة عظيمة، أثناء تقديم الذبيحة المقدسة المخوفة جداً“(5).
أما القديس ديونيسيوس الأريوباغي فهو يُقرِّر أن الصلوات عن الراقدين: ”تمحو الأدناس التي لطَّخت الطبيعة البشرية الفاسدة“(6).
ليُعطِنا الرب رحمة في حياتنا، ورحمة من لَدُنه بعد مماتنا. آمـين. +
(1) تستثني الكنيسة من الصلاة على الراقدين حالتين اثنتين فقط: الارتداد عن الإيمان؛ أو الانتحار عن يأس من رحمة الله، بشرط أن لا يكون الانتحار بسبب أذى أو ضعف أو مرض نفسي أو عقلي، وذلك بناء على مشورة طبيب متخصِّص.
(2) عن كتاب: ”القول اليقين في الصلاة على الراقدين“، لسمعان سليدس، صفحة 131.
(3) John Chrysostom, On Philippians, Homily 3. Migne PG 62,253.
(4) Epiphanius, On Panarias 75,8. Migne PG 42,513.
(5) Cyril of Jerusalem, Catechesis 23,9. Migne PG 62,203.
(6) Dionysius the Areopagite, On the Church Hierarchy 7:6-7. Migne PG 3,561.