من تاريخ كنيستنا
|
|
|
بعد وفاة البابا ثاوفانيوس، انتُخِبَ لكرسي البطريرك راهب قس كان أباً لدير من أديرة أنبا مقار، وكان قديساً بالحقيقة، وكان أيضاً عالماً.
فاجتمع الأساقفة والأراخنة - حسب التقليد القبطي في اختيار البطاركة - وتوجَّهوا إلى هذا الأب الفاضل (الذي لم يذكر كتاب ”تاريخ البطاركة“ اسمه) وخاطبوه بسَكِينة ووقار قائلين: ”قد أتيناك يا أبانا القديس، ندعوك إلى أمرٍ إلهي لتكون لنا أباً على الكرسي الرسولي، وها نحن جميعنا نصنع لك مطانوات لأجل الله. فلا تردَّنا خائبين، بل تتكلَّف وتقبل سَعْينا من جهة الرب“. وسجد جميعهم له.
استعفاء الأب الفاضل من هذا التكليف، وتزكيته لتلميذه ”مينا“:
فلما فعلوا ذلك ورأى هذا الأب أنه مغلوب لهم، قال لهم: ”ارفعوا رؤوسكم فأنا لا أُخالفكم قط“.
فلما رفعوا رؤوسهم وهمُّوا أن يضعوا أيديهم (أي أيدي الأساقفة. وهذا هو طقس الرسامة المسمَّى ”الشرطونية“(1)) ويقسموه، قال لهم: ”بأمر الله اسمعوا مني ما أقوله لكم، هوذا ترونني شيخاً طاعناً في السن، وما بَقِيَ فيَّ من حركة لهذا الأمر لأنه أمرٌ عظيم، وأنتم عارفون قوانين البيعة وما يجب فيها، وأنه ينبغي أن يكون مَن يُقدَّم إلى هذه الرتبة لا شيخا فانياً، ولا شاباً لئلا تُعذِّبه شهوة الجسد، ولا زائداً في الكِبَر لئلا يثقل عليه جسده ولا يقدر على القيام بمسئوليات عمله“ .
فلما رأى أنهم لن يتركوه إلاَّ إذا دلَّهم على غيره، قال لهم: ”إن ابني "مينا" يصلح لهذا الأمر، وأنا أشهد له بذلك وبحُسن طريقته الإلهية، وأنه عالم، وسنُّه متوسط“. فصاحوا جميعهم: ”مستحق، مستحق، مستحق“. وقاموا وأخذوا مينا قهراً وقيَّدوه بالحديد في رجليه، وحملوه إلى الإسكندرية، ورسموه بطريركاً هناك. وكان ذلك في شهر برموده سنة 672 للشهداء / 956 للميلاد .
قصة حياة الراهب ”مينا“ تُسبِّب عثرة، ثم تتضح براءته:
ذلك أن مينا كان من مدينة ”صندلا“ (مركز كفر الشيخ)، ولما ترهَّب تتلمذ لراهب قديس من دير أنبا مقار بوادي هبيب، من قلاية تُعرف باسم ”دربنا“ وكان هذا الأب مختاراً. أما سبب رهبانية ”مينا“ أنَّ أبويه ألزماه في شبابه بالزيجة بغير اختياره - كعادة أهل الريف في مصر - ولأنه كان طائعاً لهما جداً فقد أكملوا كل ما يحتاج إليه العُرس. فلما دخلوا به إلى بيت عُرسه مع عروسه وتركوه معها، وهي كانت من أهله وقريبته، جلس وقال لها: ”يا أختي، ماذا نربح في هذا العالم. فهُلمَّ نقول الآن قد اجتمعنا، ولكن فلنفعل الخير الذي يدوم إلى الأبد“. وأقام ثلاثة أيام يُكلِّمها ويعظها حتى قوَّى إيمانها. ثم قال لها: ”يا أختي، اجلسي أنتِ الآن في بيتكِ، وأنا أمضي إلى وادي "هبيب" لأترهَّب، واحفظي هذا السرَّ ولا تُعلِمي به أحداً“. فقَبِلَت.
وفي غَلَس (فجر) اليوم الرابع، نهض دون أن يعلم أحد، ومضى إلى الوادي المذكور، وسكن في القلاية التي ذكرناها - قلاية ”دربنا“ - عند الشيخ القديس أب المجموعة والذي تتلمذ على يديه، فعلَّمه مخافة الله. ولما عرَّفه مينا بالسر، ألبسه ثياب الرهبنة، وأخفى أمره ولم يعلم به أحد مِمَّن يعرفه.
فلما سأل عليه أهله ثاني يوم بعد مغادرته بيته وبلده، لم يجدوه. فسألوا زوجته عنه، فقالت لهم: ”خرج من عندي منذ وقت كبير من الليل“. فأخذوا يبحثون عنه كثيراً، فلم يجدوه، وتحوَّل ذلك العُرس حزناً وكآبة. فلما انقضت أيام حزنهم، أراد أهل المرأة أن يأخذوها عندهم ليُزوِّجوها لرجلٍ آخر، لكنها لم تستجب لرأيهم، وقالت لهم: ”أنا أُقيم في بيتي هذا حزينة على زوجي إلى يوم وفاتي“. وبعد ثلاث سنين مِن ترهُّب مينا دون أن يعرفه أحد، عرف أهله بعد ذلك خبره وأنه حيٌّ، وأنه قد ترهَّب في دير أنبا مقار؛ فأسرعوا إليه، ونظروه هناك حيّاً خادماً لله، فمجَّدوا اسم الله القدوس.
وحفظت المرأة العهد المستقر مع زوجها الذي ترهَّب ولم تنقضه. أما هو فقد أقام في برية أنبا مقار زماناً طويلاً، ثم صار سائحاً (أي خرج إلى البرية الجرداء يعيش فيها دون السكن بين أربعة جدران)، ويقتات مِمَّا يُصادفه من عشب، ويفترش الأرض ويلتحف السماء!
وعاش هذه الحياة النسكية إلى أن زكَّاه أبوه الروحي لأراخنة وأساقفة الكنيسة، فأخذوه معهم - كما ذكرنا - وقسموه (أي وضعوا عليه الأيادي ليحل عليه الروح القدس وينال قسمته من الله أسقفاً على مدينة الإسكندرية وبالتالي يُسمَّى رئيس أساقفة الكرازة المرقسية).
ولما عاد الأراخنة والأساقفة وجموع الشعب به إلى الإسكندرية، اجتاز بضيعته المذكورة ”صندلا“، فمال إليها ليُسلِّم على أهله. فلما سمع به أهل الضيعة، خرجوا للقائه بالمجامر والصلبان وأخذوه إلى المنزل ليستريح. ولكن حضر إنسان شرير من أهل الضيعة، وذكر لأحد الأساقفة أمره. فلما سمع ذلك الأسقف، أخبر بقية الأساقفة الذين معه. فلما رآهم ”مينا“ البطريرك أنهم يتشاورون معاً، عَلِمَ أنهم يتكلَّمون عنه. فسألوه عن حقيقة زواجه، فردَّ عليهم: ”الأمر صحيح، ولكن أَحضِروا المرأة“، فأحضروها. فقال لها البطريرك: ”عرِّفيهم السرَّ“! فأخبرتهم بذلك. فلما سمعوا قولها، مجَّدوا الله وانصرفوا معه إلى الإسكندرية.
وكانت تلك السنة التي جُعِلَ فيها الأب ”مينا“ بطريركاً سنة 672 للشهداء (أي سنة 956 لميلاد المسيح).
قلاقل تحدث في مصر، في عهد هذا الأب ”مينا“:
وفي عهد هذا الأب، حدثت قلاقل سياسية كثيرة. فقد مَلَكَ على البلاد ”كافور“ العبد الحبشي بعد أن اشترك مع ابن الأخشيد المسمَّى ”القاسم“ في تدبير الدولة. وبعد موت ابن الأخشيد، استقل ”كافور“ بالمُلك وحده.
ولكنه لم يهنأ طويلاً لأن جيشاً من ”الفاطميين“ زحف كالجراد على مصر من جهة بلاد المغرب تحت قيادة ”جوهر“ العبد الرومي للمعزِّ لدين الله الفاطمي. وفي زمنٍ قصير احتل الجيش الفاطمي الفيوم والثغر الإسكندري، ثم زحف على الفسطاط (القاهرة). وهكذا انتزع الخليفة الفاطمي مصر والخلافة من دولة الأخشيديين.
ولما دخل جوهر الصقلي الفسطاط شرع في إصلاح شئون البلاد وحفر الترع، كما بنى مدينة سمَّاها ”قاهرة المُعزِّ“. وكلمة ”قاهرة“ هي النُّطق العربي لاسمها الفرعوني القديم ”كاهي“ أي ”مدينة“، و”را“ أي ”الشمس“؛ أي ”مدينة الشمس“، أو باليونانية ”هليو“ أي ”الشمس“، و”بوليس“ أي ”مدينة“؛ أي ”مدينة الشمس“، وليس كما يذكرون أنها سُمِّيت على اسم كوكب يُسمَّى ”القاهر“!
كما بُنِيَ الجامع الأزهر، ليكون أثراً خالداً له، مثلما كان جامع عمرو بن العاص، وجامع أحمد بن طولون. وجعله أفخم وأعظم من سابِقَيْه.
وشاد جوهر الصقلي في القاهرة القصور والدور الجميلة، وغرس البساتين وأحاطها بسورٍ عالٍ. وقد أكمل كل ذلك في مدة 3 سنين. ثم دعا مولاه ”المعزّ“ ليجلس في عاصمة مُلْكه الجديد. فجاء من المغرب إلى القاهرة وسكن فيها. وكان المعزُّ يشتهر بقسوته وكرمه بآن واحد ليُدبِّر مملكته حتى اشتهر عنه القول: ”سيفُ المُعزِّ وذهبُه“. وذلك أنهم لما سألوه عن أصل لقبه ”الفاطمي“ وإلى مَن ينتسب؟ عقد مجلساً ودعا كبار الناس والأشراف وجلس معهم، واستلَّ سيفه وقال لهم: ”هذا نَسَبي“، ثم نثر عليهم ذهباً وقال: ”وهذا حَسَبي“. فقالوا له: ”سمعنا وأَطَعْنا“, وسنقرأ عن هذا العنف والكرم في حادثة نقل جبل المقطم فيما بعد.
ثم خَلَفَه بعد وفاته أو تنازُله ابنه العزيز ولم يكن على معرفة بأمور السياسة لصغر سنِّه، فعيَّن جوهر الصقلي قائداً للجند، وأقام ”يعقوب“ اليهودي وزيراً (وهو الذي سيُذكر اسمه في قصة معجزة نقل جبل المقطم، كما سنوردها في سيرة البابا أبرآم بن زرعة البابا الثاني والستين المعروف باسم: ”ابن زرعة“).
البابا ”مينا“ يواجه المآسي التي حدثت بعد دخول الفاطميين:
ففي أول سنة مَلَكَ فيها هؤلاء المغاربة على أرض مصر، أولئك الذين تسمَّوا باسم خليفتهم المُلقَّب بالفاطمي، تشرَّقت (أي جفَّت عن أن تُثمر) الأرض ولم تُروَ، فبدأ الغلاء.
وفي السنة الثانية أوفى النيل (أي فاض)، فزرع الناس وأثمر زرعهم. ولكن هاجمت الفئران المحاصيل. وفي السنة الثالثة هبَّت رياح أهلكت الزرع.
وفي السنة الرابعة نزل على الزرع جراد عظيم فأكله. وظل الغلاء سبع سنين متوالية، وكان الغلاء عظيماً في جميع أرض مصر، حتى أن كورة مصر خَلَت من الناس لكثرة الموتى والجائعين. وفي السنة السابعة، غلا ثمن القمح جداً.
وكان من نتيجة ذلك أن خربت إيبارشيات كثيرة من الأساقفة لخلوِّها من الناس، ولم يُقَم لها أساقفة بل أُضيفت رعايتها إلى الكراسي العامرة المجاورة لها وهذه البلاد هي: ترنوط، أوراط، نستروه، انحلو، اصطف، حريوط، أتوشو، أبورسا، دقهلة (أو دقهلية)، نقيوس، وأماكن كثيرة جداً.
وكان الأب مينا البطريرك في هذا كله مقيماً بالريف. إذ أنه لما اشتد الغلاء، انتقل من الإسكندرية وسكن في ضيعة بالقرب من ”تيدا“ (مركز كفر الشيخ) تُعرف بمحلة دانيال، وكانت امرأة غنية من أهل ”بلقونه“ (قرب سمنود) خائفة من الله اسمها ”دينا“ كانت تقوم كل أيام الغلاء بالصرف على البابا البطريرك وتلاميذه.
وأقام البابا مينا سنة لم يدخل الإسكندرية ولا إلى وادي هبيب. واضطر لكي يُقدِّس الميرون أن يبني مذبحاً صغيراً في محلة دانيال على اسم القديس مار مرقس، وقدَّس عليه الميرون.
ولما انقضت سنو الغلاء السبع وأنعم الله على الناس بالرخاء، عاد المتغرِّبون عن بلادهم إلى مواطنهم، وبدأوا يزرعون القمح.
ثم تنيح الأب البطريرك أنبا مينا بعد أن أقام ثماني عشرة سنة. وكان في آخر أيامه رخاء عظيم، وكان القمح يُرمَى على الناس رمياً بأمر السلطان لكثرته ووفرته.
وكانت نياحته في 3 كيهك عام 974م بحسب التقويم الشرقي.
حواشي المقال
(1) ”الشرطونية“ كلمة مستعربة عن اليونانية، وهي من مقطعين: ”شير“ أي يد، و”طونيا“ أي وضع. وهي التي تُقدِّس المختار بحلول الروح القدس عليه وتجعله أهلاً للقيام بالخدمة الإلهية التي دُعِيَ إليها.