+ «وكونوا... مُتسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح» (أف 4: 32). + «احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح» (غل 6: 2). - [في الجزء الأول من هذا المقال (عدد يناير 2007، ص 30) تناولنا معنى التسامح وعلاقته بالغفران، وبعض الجوانب المختلفة لهذه الفضيلة الغنية. ونستكمل هنا بالأسباب الموجبة للتسامح، ونختم ببعض المواقف التي قد لا يكون التسامح فيها هو الخيار الأفضل]. + لماذا التسامح؟ البعض يتساءل: هل من فائدة أو ميزة إنسانية للتسامح؟ أَلاَ يبدو توجُّهاً مضاداً للعقل والكرامة الإنسانية وحتى للسلام بين الناس، وتعبيراً عن الخنوع والخوف، أَلاَ يَسمح بانتشار الشر والعدوان وسطوة التجبُّر وضياع الحقوق؟ 1 - في الأساس: إن التسامح تعبير عن سلوك مسيحي أصيل واقتداء بشخص مخلِّصنا الذي ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته «... الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتم عِوَضاً، وإذ تألم لم يكن يُهدِّد بل كان يُسلِّم لمَن يقضي بعدل» (1بط 2: 23،21). فقد فتح قلبه لكل الخطاة من كل جنس ولون حتى قيل عنه إنه «محبٌّ للعشَّارين والخطاة» (مت 11: 19؛ لو 7: 34). وبهذا جذبهم إليه بمحبته وغفرانه. ولم تقف عقبة أمام اقترابه منهم حتى الناموس والتقاليد اليهودية، فهو تحادَث مع نساء بعضهن زانيات، ودخل بيوت الأُمميين، ولمس نعش ابن الأرملة، وسمح لنازفة الدم أن تلمسه، وتعامَل مع البُرص المنبوذين وذوي الأرواح النجسة، وسامح الذين أهانوه وعيَّروه ولطموه وتفلوا عليه وحتى الذين صلبوه. 2 - ووصية الكتاب الصريحة أن نسامح بعضنا بعضاً (كو 3: 13) كما سامحنا الله أيضاً في المسيح (أف 4: 32) «بجميع الخطايا» (كو 2: 13). والله يسامحنا كل يوم على خطايانا وتقصيراتنا في المحبة والعبادة والخدمة وعدم فعل الخير، وبالتالي فلكي نتمتع باستمرار الصفح الإلهي علينا أن نُمارس التسامح في حياتنا على كل مستوى، وإلاَّ يحدث لنا ما جرى للعبد الرديء الذي كان مديوناً بعشرة آلاف وزنة ولمَّا توسَّل إلى سيِّده أن يتمهَّل عليه تحنن عليه وأطلقه وترك له الدين. ولكن لما خرج العبد ولم يُسامح مَن كان مديوناً له بمئة دينار ولم يستجب لتوسلاته بل ألقاه في السجن حتى يُوفِي الدين، غَضِبَ السيد على العبد وسلَّمه للعقاب حتى يوفي ما كان عليه. وفي ختام هذا المَثَل قال الرب: «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته» (مت 18: 23-35). 3 - أتت شريعة العدل «عين بعين وسن بسن» (مت 5: 38) لتهذيب الميل للانتقام الساحق المضاعف الذي يشفي غليل الإنسان البدائي، حتى جاءت شريعة الكمال في عهد النعمة التي توصينا ألاَّ ننتقم لأنفسنا بل أن نترك النقمة والمجازاة لله وحده (رو 12: 19)؛ وتسعى لإيقاف عجلة الثأر التي لا تتوقف لتحل محلها قوة الحب والتسامح التي تئد تيار العداء وتسمح ببروز الأُخوَّة الإنسانية وتقديم المحبة والخدمة بدل البغضة والتربُّص. ولكن هذا يظل غير متاح للإنسان الطبيعي وإنما فقط للإنسان الجديد «المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 24). فمقاومة الشر تلهبه وتنعشه، أما عدم مقاومته مع الصمود أمامه فيُطفئه ويميته، وهكذا يغلب الخيرُ الشرَ «لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رو 12: 21). 4 - إن الانتقام ورد الإساءة بالإساءة - على عكس ما يبدو - علامة ضعف وخضوع لنوازع غريزية يغيب معها العقل، وهو رد الفعل الطبيعي لحماية الذات أخذاً بالثأر، وهو ما يطيل أمد العداء ويُعمِّقه، بينما التسامح هو علامة قوة ضبط ميول الجسد والانحياز لصوت الله وعمل الروح، وهو الذي يوقف متوالية الانتقام التعسة ويُطفئ نيران الغضب. إن الأقوى روحياً وشخصياً هو القادر على التسامح، ومَن يحوِّل الخد الآخر بعد اللطمة الأولى (فعلاً أو مجازاً) هو مَن يستطيع أن يردع نفسه عن الانتقام الفوري استجابةً لنداء الإنسان العتيق، وهو بهذا يصدُّ تيار الشر بكبح جماح نفسه كما ينقذ الآخر من مواصلة عدوانه الذي لا يفيد. 5 - إن العنف والعنف المضاد والسعي للانتقام، يقضي على كل ما هو إنساني. وكم من جرائم قتل كان السبب فيها كلمة طائشة أو شائعة أو سوء فهم أو خلاف على قروش قليلة أو غيرها من الأسباب التافهة، وكان يمكن تفاديها لو كان هناك قدر من التسامح وضبط النفس. وليس ما نراه حولنا من الحروب والقتل الجماعي اليومي إلاَّ الثمار المُرَّة لعدم القدرة على التسامح وقبول كل إنسانٍ للآخر، وكل جماعة للأخرى، وغياب حقيقة أن العالم يمكن أن يتسع للجميع(1). 6 - إن ردَّ الشر بالشر (أو مواجهة الخطأ أو التجاوز أو الاختلاف بمثله)، على عكس الوصية «لا تجازوا أحداً عن شرٍّ بشر» (رو 12: 17؛ 1بط 3: 9)، يُعطي لمَن بدأ الإساءة شيئاً من الرضا وبعض الحق فقد تساوى مع مَن أساء إليه (واحدة بواحدة)، بينما التسامح والتعفُّف ورد الشر بالخير يضع المعتدي في مأزق ويكشف خطأه ويُجبره على مراجعة نفسه ويوقف تداعيات الغضب. وهكذا فالمتسامح ينقذ أيضاً المخطئ من نفسه ويُحرره من قيود إبليس عدو كل خير. 7 - نحن إذ نسامح، نستجيب لوصية الرب المذكورة في الأناجيل الأربعة بأكثر من صورة، والتي يبدو أن الرب كررها كثيراً: «مَن وجد حياته يضيعها، ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها» (مت 10: 39)، «مَن يحب (طلب أو أراد أن يُخلِّص) نفسه يهلكها، ومَن يهلك نفسه من أجلي (ومن أجل الإنجيل) يجدها (فهو - أو فهذا - يُخلِّصها)» (مت 16: 25؛ مر 8: 35؛ لو 9: 24)، «مَن طلب أن يخلِّص نفسه يهلكها، ومَن أهلكها يُحييها» (لو 17: 33)، «مَن يحب نفسه يُهلكها، ومَن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياةٍ أبدية» (يو 12: 25). فإنَّ مَن عينه على خلاص نفسه وإنقاذها من الهلاك يهلكها هنا (أي يردعها ويمنعها من السلوك الجسدي - رو 8: 13)، فلا ينساق وراء صوت الشر ونزعة الانتقام بل بالنعمة يُسامح ويتنازل ويترك ويحتمل، فحياتنا الأبدية تستحق. 8 - التسامح يتناغم مع سلوك ”العين البسيطة“ التي أوصانا الرب أن تكون لنا، والتي تغض الطرف عن السيئات وتتجاوز عمَّا هو شرير إلى ما هو خيِّر (مت 6: 22؛ لو 11: 34). وفيه نلتفت إلى عيوبنا نحن إذا لم نلتفت إلى عيوب الآخرين، وهكذا نفلت من السقوط في الإدانة، وبالتالي سقوطنا تحت الدينونة «لا تدينوا لكي لا تُدانوا» (مت 7: 1؛ لو 6: 37). كما أن تسامحنا بإزاء تقصيرات الآخرين وتجاوزاتهم خلال الصلاة، يحفظ تركيزنا في العبادة ويحمينا من تشتُّت الفكر، ويحصر ذهننا في الله الذي نقف أمامه، ويملأ القلب حضورُه المملوء مجداً. + ملاحظات: - التسامح شخصي، أي أنني أتسامح فيما يتعلَّق بي، ولكن ليس مقبولاً أن أتسامح في حق الغير وحق المجتمع. فاللص الذي يقتحم بيتي ينبغي تسليمه للشرطة ”ويُلقى في السجن حتى يُوفِي الفلس الأخير“ (مت 5: 26)، وفي ذلك حماية للآخرين. وربما أدَّى عقابه إلى ردعه وتوبته ورجوعه عن انحرافه إلى كرامة العيش الشريف والعطاء بعد الأخذ الحرام(2). وكانت هذه وصية القديس بولس: «لا يسرق السارق فيما بعد بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يُعطي مَن له احتياج» (أف 4: 28). والأمر بالضبط كما في وصية «أحبوا أعداءكم» (مت 5: 44). فالقصد أن أحب عدوي أنا وليس عدو غيري أو عدو وطني، وإلاَّ ضاعت الحدود بين المحبة والخيانة. كما أن التعدِّي على الذين يشغلون وظائف عامة، أثناء تأدية عملهم، ليس أمراً شخصياً يجوز التسامح فيه، لأن هؤلاء يمثِّلون المجتمع أو المؤسسة أو الدولة، والتسامح هنا يقف عند حدود التجرُّد من الخصومة الشخصية دون أن يعفي المعتدي من العقاب(3). فالهدف في النهاية هو الانتصار على الشر وحصاره، وهذا قد يكون بالتسامح أو يكون بالعقاب والردع. - التسامح ليس مطلقاً، أي مهما تكون النتائج، فهو لا يبرر أي خطأ أو انحراف، خاصةً لو امتدت آثاره إلى الآخرين. وهو لابد أن يُحقِّق غاية نبيلة. من هنا فالصرامة والشدة والمواجهة هي ضرورة في بعض الأحيان لإنقاذ شخص يتَّجه نحو الهلاك. فالأُم لن تسامح طفلها الذي يلعب بالنار لئلا يؤذي نفسه أو غيره، أو إذا اعتدى على أخيه أو صديقه، وستُطالبه بعد العقاب بالاعتذار والتعهُّد بالكفِّ عن هذا السلوك؛ والأب لن يتسامح مع ابنه الذي انزلق إلى الإدمان إلاَّ إذا استجاب للخضوع للعلاج والتأهيل لحمايته من تدمير نفسه ومستقبله؛ والمدرس لن يتسامح مع التلميذ المقصِّر في أداء واجباته إلاَّ إذا أدرك مغبَّة إهماله، أو التلميذ الذي يعتدي على زملائه إلاَّ إذا عاد إلى صوابه، وسيكون لومهما أو عقابهما خدمة لن ينسياها طول الحياة؛ والمراقب لن يتسامح مع الطالب الذي يغش في الامتحان لأنه يسرق زملاءه آخذاً ما لا يستحق، وسيكون حرمانه من الامتحان إنقاذاً له من أن يصير الغش قانون حياته في قادم الأيام بما يقوده إلى الظلام. فالتسامح في مثل هذه الحالات خطأ لا يُغتفر مهما توسَّل المخطئ، لأنه يضرُّ به كما يضرُّ بالآخرين، والعقاب أو اللوم مهما كانت شدته هو الطريق الصحيح لتقويم هؤلاء. والصديق الحقيقي يواجه صديقه المنحرف ولا يُمالئه خشية أن يفقد صداقته، فهو بمواجهته ينقذه من الضلال. فناثان النبي بيَّن محبته للملك داود بأن واجهه، مُرسَلاً من الله، بخطيته فغيَّر مسار حياته، وجعله يقرُّ بخطيته ويغسل انحرافه بدموع توبته (ولكنه لم يَسلَم أيضاً من التأديب الإلهي - 2صم 12). - لا تسامح في أمور الإيمان، أو فيما يهدد وحدة الكنيسة (لكن دون أن يبرر ذلك بالطبع استخدام العنف أو الانتقام أو القسوة أو الإهانة بأي نوع، فالوصايا لا تتجزأ). فالمبتدع يواجَه ويُنذَر ثم يُحاكَم بعدل، فإذا أصرَّ على انحرافه يُعاقَب لحثِّه على الرجوع إلى الحق. والذئاب الخاطفة تُطرد لحماية الرعية. والذي يُهاجِم العقيدة يُرَدُّ عليه لإظهار حق الإنجيل، مع الالتزام بالأدب المسيحي وعدم تجاوز وصية المحبة. - التسامح لا يتعارض مع وجود القوانين ولوائح العقاب. والخارجون على القانون يُعاقبون من أجل إصلاحهم حمايةً للمجتمع، ولا تساهُل معهم ولا تسامُح، فهذا ليس مجاله. ولكن من الممكن الإفراج عن السجين قبل نهاية مدة العقوبة إذا أظهر حُسن سلوكه لتشجيعه على الاستقامة وتغيير نهج الحياة. - في رؤية لوصية المسيح «كُن مُراضياً لخصمك سريعاً ما دمتَ معه في الطريق» (مت 5: 25)، فإن كثيراً من الخلافات ”في الطريق“ لا تستحق التصعيد، لأنها عابرة؛ وخصمك جمعتك به المصادفة وحدها، فليمضِ كل منكما إلى حال سبيله وليُطرَح الأمر ليُنسى. إن التسامح - كالمحبة - أحد وجوه الحياة المسيحية الساطعة. والسبيل إليه لن يكون بالتدريب والمحاولة، وإنما بطلب مؤازرة النعمة أي عمل الروح القدس الذي صار لنا في المسيح. وهكذا بجهاد النفس المؤمنة - بالروح - ضد أهوائها، تتحوَّل من الحياة حسب الجسد لكي تحيا بالروح (رو 8: 13). فالمسيح هو الطريق لنوال كل هبات الروح، لأننا بأنفسنا لا نستطيع. وهذا هو قول الرب: «تكفيك نعمتي» (2كو 12: 9)، «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5). وهذه هي خبرة القديس بولس: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يُقويني» (في 4: 13). فإذا كنا في الجسد نميل إلى الانتقام والبغضة ومجازاة الشر بالشر، فنحن في الروح وبقوة الوصية نستطيع أن نحب عدونا ونسامح مَن يؤذينا. وهكذا نغلب الشر بالخير، ونوقِف تيار العداء بقوة المحبة. وهذه هي القوة الحقيقية للتسامح الذي يصنع المعجزات. دكتور جميل نجيب سليمان ******************************************************** دير القديس أنبا مقار بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي: 21.130.153 دير القديس أنبا مقار بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع النيل هيلتون |
|||
(1) في رواندا الأفريقية قتل الهوتو 800.000 من التوتسي في 100 يوم فقط سنة 1994. (2) ليس شائعاً أن يتواجه اللص مع مَن يسرقه في بيته، فهو عادة يدخل البيوت في غياب أصحابها. وإذا حدثت المواجهة في البيت أو في الطريق فستكون تحت التهديد، ومن حسن التصرُّف هنا إعطاء اللص ما يريد لإنقاذ الحياة، ثم إبلاغ الشرطة. ولكن بعض أصحاب القلوب الكبيرة استطاعوا أن يُغيِّروا حياة اللص الذي باغتهم، مثل هذه السيدة الأمريكية (آشلي سميث) التي قطع عليها الطريق لصٌّ قاتل هارب من محاكمته (برايان نيكولز) فجر أحد أيام الشتاء (12/3/2005) وهي عائدة إلى بيتها، وتبعها إلى الداخل وقيَّدها، ولكنها استجمعت شجاعتها وأخذت تُحدِّثه عن ظروفها القاسية وموت زوجها الشاب ضحية اعتداء، وكيف أن قتلها سيجعل ابنتها ذات الخمس سنوات يتيمة الأبوين، وبيَّنت له أنها الآن في طريق العودة إلى الله بعد تغرُّب طويل، وشجَّعته أن يحكي هو أيضاً قصته، وقرأت له فصلاً عن الخدمة المسيحية من كتاب ريك وارن ”الحياة الهادفة“. وبعد ساعات أعلن اللص توبته وسلَّم نفسه للشرطة طوعاً، وحوكم ودخل السجن، وأخذ يُبشِّر زملاءه المساجين بالخلاص. وهكذا وهو في السجن صار أكثر حرية من كثيرين خارجه. (3) فبابا روما الراحل يوحنا بولس الثاني سامح الشاب التركي الذي حاول قتله، بل وزاره في سجنه، ولكن هذا لم يعفِهِ من قضاء مدة العقوبة. |