دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

     

المصادر الأساسية

لتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية

- 4 -

آباء الكنيسة

آباء الكنيسة وقراءة الكتاب المقدس
 

البشارة في غلاف فضي

1 - الاستعلان الإلهي (الوحي): أ - الكتاب المقدس، ب - التقليد؛ 2 - الليتورجية؛ 3 - المجامع؛
4 - آباء الكنيسة؛ 5 - القديسون؛ 6 - القوانين الكنسية؛ 7 - الفن المقدس (الأيقونات).

تنويـه:

+ كتكملة لموضوع الكتاب المقدس باعتباره الاستعلان الإلهي المدوَّن (مجلة مرقس - عدد يناير 2006، صفحة 33-37)، لابد أن ندرس معاً كيف كان آباء الكنيسة يقرأون الكتاب المقدس ويُفسِّرونه. لذلك قدَّمنا البند رقم (4) ”آباء الكنيسة“، على البند رقم (2) ”الليتورجية“ في هذه السلسلة.

لماذا يجب أن نقرأ آباء الكنيسة:

إن كنا نريد أن نقرأ الكتاب المقدس جيداً، فلابد أن نقرأ كتابات آباء الكنيسة وتفاسيرهم للكتاب المقدس. ففي كل مجالات الأعمال الخلاَّقة يصير الرجوع إلى التقليد، أي إلى الذين سبقوا في إتيان مثل هذه الأعمال الخلاَّقة. فهذا هو السبيل إلى التفوُّق والأصالة. فالذين يتعلَّمون الموسيقى أو الرسم أو الكتابة أو النحت يعرفون أن إلمامهم بهذا الفن أو ذاك يستلزم أولاً الرجوع إلى فنون الأقدمين بالسمع أو بالقراءة أو الرؤية وتقليدها، وهذا هو الطريق إلى إتيانهم فيما بعد التفوُّق والأصالة في إبداعاتهم.

ونفس الأمر يمكن أن يُقال على الحياة الروحية والأعمال اللاهوتية. فكما أنه لكي نتعلَّم أن نفكر لابد من قراءة الأعمال الأدبية لكبار المفكِّرين، ومِن جعل أفكارهم تكوِّن أفكارنا؛ هكذا لكي يجد المسيحي هويَّته الحقيقية لابد له من الرجوع إلى آبائه في العالم القديم، حيث كان الصفاء في التفكير والصدق والأمانة في نقل التعليم الرسولي عن شخص المسيح.

وسنلاحظ أننا قد نجد آباء الكنيسة ونحن نقرأ لهم لأول وهلة أنهم يتكلَّمون بطريقة تختلف عن طريقتنا، ولكن آباء الكنيسة هؤلاء عندهم ما يُعلِّموننا به حقاً. وتتوقف قدرتنا على التعلُّم منهم، على رغبتنا في أن ننصت إليهم ونكتشف ما لا نعرفه اليوم من معرفة.

ورغبتنا في الإنصات لآباء الكنيسة لا يجب أن تتأثر بما نتوقع أن نجده في تعليمهم. لذلك، يجب أن نثق في شهادة الذين سبقونا في اكتشاف غِنَى التعليم الآبائي.

لذلك فالإنصات إلى آباء الكنيسة مهم ونحن نريد أن نعرف حقيقة إيماننا المسيحي، ولكن بعضنا قد يتسرَّع ويُعلِّم الآخرين قبل أن ينصت ليتعلَّم، فيخرج تعليمه مبتوراً أو فاسداً أو مُفسِداً لأذهان الآخرين. لذلك ينصحنا القديس أمبروسيوس (أسقف ميلان في القرن الرابع):

[هناك معلِّم واحد فقط الذي لم يتعلَّم أبداً ما علَّمه للجميع (وهو المسيح). أما الناس فيجب أن يتعلَّموا أولاً ما سوف يُعلِّمون به الآخرين، وينالوا من هذا المعلم الواحد ما سوف يُعلِّمون به الآخرين. والآن ما الذي علينا أن نتعلَّمه قبل أي شيء إلاَّ بأن نصمت حتى يمكننا بعد ذلك أن نتكلَّم بعد أن نتعلَّم من المسيح؟ من النادر أن يصمت الإنسان، فإذا تكلَّم فإنه يخطئ كثيراً] - القديس أمبروسيوس(1).

إن الإنصات ليس بالأمر السهل. وكثيراً ما نجاهد لكي نتغلَّب على شكوك عويصة، أو نتصرف سريعاً لتصحيح ما نعتبره خطأ. لابد أن نطوِّع أنفسنا على استعمال كلمات جديدة، وطرق جديدة، ومفاهيم جديدة، والعاقبة لابد ستكون ثمينة. ولا شكَّ أن رجوعنا إلى آباء الكنيسة يحتاج إلى شيء من التواضع، وإلى أُذن صاغية، وصلاة. ومن الأفضل أن نتريث حتى نقرأ الآباء بدلاً من أن نترك لغضبنا النابع من البرِّ الذاتي أن يكون حائلاً أمام بصيرتنا الداخلية. فكلنا معرَّضون للخطأ. وكلنا نميل إلى أن نتعامى عن ضعفنا في أن نقرأ الكتاب المقدس صحيحاً. فكيف نفهم الإنجيل ونحن نستبعد عن أنفسنا ما علَّم به الأقدمون؟ إننا محتاجون بعضنا للبعض، قدامى كانوا أو حديثين، إن كنا نريد أن نفهم الإنجيل حسناً.

لقد كان آباء البرية حسَّاسين جداً للتواضع والشركة مع الآخر، إذا كان أحدهم يريد أن يفهم نصّاً في الإنجيل. وإليك هذا الخبر:

[حدَّثوا عن شيخ كان يحفظ الصوم إلى سبعين أسبوعاً، لا يأكل فيه إلاَّ مرة واحدة فقط كل أسبوع. ومرة سأل الله بخصوص آية في الأسفار المقدسة، ولم يُعلِن له الله معناها. فقال لنفسه: ”كم من التعب قد قاسيته ولم يكن بفائدة لي. أقوم الآن وأذهب إلى أخي وأسأله عن ذلك“. فخرج لتوِّه إلى الخارج، وأغلق الباب خلفه، وإذا ملاك الرب أُرسل إليه، قائلاً: ”السبعون أسبوعاً التي صُمتَها لم تجعلك أقرب إلى الله. ولكن الآن لأنك اتضعتَ وقمت لتذهب إلى أخيك، فقد أُرسِلتُ لك لأشرح لك الآية التي تطلبها“. وفتح ذهنه لِمَا كان يبحث عنه ومضى] - كتاب سِيَر الآباء(2).

وأحياناً قد نجد الآباء غير مفهومين. وأحياناً أخرى قد نتعجب، لماذا أنا لم أرَ هذه الآية في الكتاب المقدس من قبل؟ لماذا لم أتعلم هذا التعليم؟ لماذا كنت متعامياً هكذا؟ ولكن الآباء كثيراً ما سيقودوننا إلى معاني جديدة تثير فينا التعجُّب والرهبة والتوقير الشديد لله والإنجيل. وبسبب تأثير الآباء وصلواتهم وعبادتهم الصادقة لله سوف يصيرون رفقاءنا في دراستنا للكتاب المقدس.

وسوف يتضح لنا دائماً قصورنا في الفهم الروحي، حينما نقضي أوقاتاً مع شخصيات من الآباء مثل القديسين أوغسطينوس وذهبي الفم وأثناسيوس الرسولي وجيروم وغريغوريوس اللاهوتي وباسيليوس وأمبروسيوس وكيرلس الكبير.

قراءة الكتاب المقدس وحياتنا الروحية:

كان آباء الكنيسة يؤكِّدون دائماً على العلاقة بين صحتنا الروحية وبين قدرتنا على قراءة الكتاب المقدس جيداً. فالآباء يوصوننا أن ندرس ونقرأ الكتاب المقدس في إطار العبادة، وتوقير الله، والقداسة. الآباء يعتبرون الكتاب المقدس كتاباً مقدَّساً ينفتح لِمَن هم سائرون في سيرة القداسة من خلال نعمة وقوة الروح القدس، مهما كانوا مبتدئين أو صغاراً في المعرفة، لأن الكتاب نفسه سوف يُنميهم ويُدرِّبهم على الغوص في دُرَرِه وكنوزه.

وإليك هذا المثل من تعليم الآباء، في الكتاب المشهور ”تجسُّد الكلمة“ للقديس أثناسيوس الرسولي، فهو يصمم على أن:

[البحث في الكتاب المقدس وفهمه الصحيح يتطلبان حياةً صالحة ونفساً طاهرة... فلا يمكن للإنسان أن يفهم تعاليم القديسين ما لم يكن له ذهنٌ نقيٌّ ويجاهد ليتمثَّل بحياتهم... فأي إنسان يريد أن ينظر أشعة الشمس لابد أن يغسل عينه أولاً لكي يمكنه إلى حدٍّ ما أن يكون أهلاً لنقاوة ما سوف يراه، وإذا رغب إنسان في أن يرى مدينة أو بلداً فليذهب إلى المكان الذي يريد أن يراه. وهكذا، فكلُّ مَن يريد أن يفهم ذهن الكُتَّاب القديسين، عليه أولاً أن يُطهِّر حياته، ويقترب من القديسين بأن يقتدي بأفعالهم. وبهذا، فإنه حين يتحد بهم في شركة الحياة، فسوف يفهم ما قد أعلنه الله لهم، ثم إذ سينجو من الهلاك الذي يتهدد الخطاة في الدينونة، فسوف ينال ما وُضع للقديسين أن يروه في ملكوت السموات].

القديس أثناسيوس الرسولي(3)

قراءة الكتاب المقدس والحياة الكنسية:

كما أن القديسَيْن أثناسيوس وغريغوريوس اللاهوتي كانا يريان أن دراسة الكتاب المقدس يجب أن تكون في إطار الحياة الكنسية والتأهيل الروحي. فالأسفار المقدسة قُدِّمت للكنيسة أصلاً، وهي تُقرَأ، ويُكرزُ بها من على المنبر، وتُسمع من المؤمنين، وتُفهم من داخل جماعة المؤمنين في الكنيسة، ثم هي تفسَّر تفسيراً مضموناً فقط من الذين تتميز حياتهم وتتأسَّس في دوام حياة الصلاة والعبادة وفحص الذات والاعتراف وباقي الوسائط التي من خلالها تنسكب نعمة الله على جسد المسيح. وهذا يعني أن أي انفصال بين الحياة الشخصية والكنسية وبين دراسة الكتاب المقدس، سوف يكون وبالاً على أية محاولة لفهم الكتاب المقدس. هذه النصيحة الآبائية بالصحة الروحية والاتحاد بالكنيسة، مع قراءة الكتاب المقدس، لابد أن نحفظها جيداً.

(يتبع)


(1) Patrologia Latina, 16, col. 23.2.5-29.7.

(2) Des Vitis Patrum, Liber V. Verba Seniorum, 72; PL 73,966ab.

(3) Athanasius, On the Incarnation, SVS, 1982, p. 96.