دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

ناموس المسيح

الإيجابية
سمة مسيحية

+ تعاريف:
الإيجاب
لغةً هو القبول والموافقة، والسلب هو الامتناع والرفض (ومعانٍ أخرى). وفي علم الحساب، فالموجب يعني الجمع والإضافة، والسالب يعني الطرح والخصم. وقد اتسع مفهوم الإيجابية والسلبية كاصطلاحين اتساعاً كبيراً ويستخدمان في دائرة رحبة من المعاني كاتجاهين في الفعل. فالإيجابية يُعبَّر عنها بالموافقة والإضافة والحركة والفاعلية، بينما السلبية يمثِّلها الرفض والامتناع والسكون وغياب التأثير.

ولو توسَّعنا في التعريف لرأينا نماذج من السلوك الإيجابي فيما يلي (وسيكون عكسه السلوك السلبي): الإقدام والمبادرة، المشاركة والعمل الجماعي، إبداء الاهتمام وتقديم المساعدة، الالتزام بالحق والعدل والقانون، الدقة والأمانة في العمل، الاعتراف بالخطأ، العطاء، المثابرة والاجتهاد، الشجاعة، وغيرها.

+ تحفُّظ:

ولكن هذه كلها لا تؤخذ على إطلاقها. فالمعاني تتداخل: فالمبادرة قد تكون اندفاعاً بغير دراسة وافية، ويصير التريث في هذه الحالة اتجاهاً إيجابياً. والهروب قد يكون موقفاً إيجابياً إذا كان إفلاتاً من الشر أو منعاً لكارثة. والسكون قد يكون موقفاً إيجابياً إذا قُصِدَ به الاستماع والتأمل، كما أن الصمت في ذاته قد يكون ردّاً بليغاً. ولكن ليس كل صمت ذهباً، وقد نندم أحياناً على سكوتنا حيث كان ينبغي الكلام.

والإيجابية تفترض اتفاق الوسيلة مع الغاية الطيبة وإلاَّ فقدت معناها. فلا يصحُّ أن ننشد الحق بوسائل تتنافى معه، أو أن نتحرك فنسحق الآخرين، أو أن نهتم فنقتحم خصوصية الآخرين ونعتدي على حريتهم.

+ إيجابية الحياة المسيحية:

لو انتقلنا إلى تطبيق ما تقدَّم على ما في الحياة المسيحية، فهذه جوانب من إيجابيتها كما تجلَّت في حياة الرب، وكما سجلتها البشائر والرسائل.

أولاً: كمال الوصية في المسيح:

في وصية المسيح، اكتملت توجُّهات العهد القديم، بمحاصرة الخطية في مهدها وبداياتها، واتساع قلب الإنسان ليشمل في اهتمامه وحبه كل البشر، متجاوزاً حواجز العداء والجنس والدين وغيره. فوصية «لا تقتل» أكملتها وصية «مَن يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحُكْم»؛ و«لا تزن» أكملتها الوصية «مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه»؛ و«لا تحنث، بل أوفِ للرب أقسامك» أكملتها الوصية «لا تحلفوا البتة»؛ و«عين بعين وسن بسن» أكملتها الوصية «لا تقاوموا الشر، بل مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً»؛ و«تحب قريبك وتبغض عدوك» أكملتها الوصية «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم» (مت 5: 21-46؛ لو 6: 27-35). فالوصية هنا تكسر حلقة الشر وتُظهر التسامح كموقف أقوى من الانتقام والعنف، وتجعل المحبة تصرع العداء، والبركة تُطوِّح باللعنة. والمؤمن المولود من الروح وُهب الحياة الجديدة التي فيها يستطيع أن يحب الوصية ويطيعها وينجح في تنفيذها بنعمة من فوق، فلا تصير وهماً كما هي لغير المؤمنين والسالكين حسب الجسد.

وقد قدَّم الرب نفسه مثالاً لِمَا أوصى به لكي نتبع خطواته (1بط 2: 21). فهو صاحب رسالة كلَّفته بأن يُخلي نفسه من مجده وينزل إلى البشر آخذاً صورة عبد مثلهم (في 2: 7). وجال بينهم يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس (أع 10: 38)، ومنادياً للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، ومُرسلاً المنسحقين في الحرية (إش 61: 1؛ لو 4: 18). وهو لم يعرف الراحة بل ظل يعمل كأبيه (يو 5: 17)، وشعاره: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمم عمله» (يو 4: 34). وكانت كلماته خلاصاً للخطاة وعزاء للمتعبين، وتبكيتاً للمتصلفين والمرائين والمعلِّمين الكَذَبَة. وفي كل ما عمل وتكلَّم «لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر» (1بط 2: 22)، وألزم نفسه بكل ما علَّم به. فعاش متجرِّداً بلا كيس ولا مزود (لو 10: 4؛ 22: 35)، ولم يكن له أين يسند رأسه (مت 8: 20؛ لو 9: 58). وهو قد أحب الجميع ومن أجل خلاصهم مضى إلى صليبه، ولم يسْعَ لإنقاذ نفسه بل أطاع حتى الموت (في 2: 8). فالمسيح هو لكل المؤمنين مثال المحبة، والبذل والعطاء، والتجرُّد، والاتضاع، والخدمة، والاحتمال، والجهاد، والغفران والتسامح، والطهارة، وكل جوانب الحياة المسيحية.

ثانياً: إيجابية العبادة والسلوك:

1. العبادة تُقدَّم لله، ليس للذات أو الناس. فلا يليق أن تكون الصلاة أو الصوم أو الصدقة قدَّام الناس، بل أن تُقدَّم لله ”في الخفاء“ وهو سيُجازي ”علانية“ (مت 6: 1-18). والذي يطلب مجد الناس يستوفي أجره ولا نصيب له عند الله. فالعبادة يمكن أن تُزيَّف وتصير جهداً ذاتياً شكلياً، وبغير أن تقصد العبادة وجه الله، يمكن أن تتحوَّل هي والدين كله إلى ممارسات لحساب الذات والناس والعالم والأرض ولا علاقة لها بالله أو بالملكوت. وفي مثل الفرِّيسي والعشار دان الرب البر الذاتي والتديُّن الشكلي وانقسام القلب، وامتدح الخاطئ المتضع التائب (لو 18: 14). وهو قد أوصى: «متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا: إننا عبيد بطَّالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» (لو 17: 10)، و«ليس كل مَن يقول لي: يا رب، يا رب، يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات» (مت 7: 21).

2. في الندم والرجوع والتوبة والاعتراف بالخطأ تصحيح للمسار وعودة إلى الحياة في النور (موقف داود - 2صم 12؛ الابن الضال - لو 15: 17-20؛ بطرس - مت 26: 75؛ مر 14: 72؛ لو 22: 62،61). على العكس من ذلك اليأس والخوف وفقدان الرجاء (موقف يهوذا - مت 27: 5؛ أع 1: 18)، أو التبرير والتهرُّب (موقف آدم وحواء - تك 3: 13،12)، أو المكابرة والإصرار على الخطأ (موقف قايين - تك 4: 9)، أو المراوغة (موقف فيلكس الوالي - أع 24: 25)، أو الرفض والمقاومة (الكتبة والفرِّيسيين)، فهذه كلها مواقف سلبية تضيع بها فرص النجاة. وبنفس القياس فإن الحذر والتحفُّظ من السقوط والسلوك بالتدقيق مواقف إيجابية تحفظ النعمة المسانِدَة، بينما الاستهتار والاستباحة نهايتها الهلاك (موقف امرأة لوط - تك 19: 26؛ عيسو - تك 25: 34،33؛ 27: 37-40؛ عب 12: 17،16).

3. لابد للحياة الجديدة أن تكون لها انعكاساتها التي يراها العالم فيمجِّد الله (مت 5: 16). وهكذا يُقدِّم المؤمنون شهادتهم كنور للعالم وملح للأرض. وهذه الأعمال هي ثمار الروح فيمَنْ يُسلِّمون حياتهم لله ولا ينسبونها لأنفسهم: «لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10). فإذا خبا نورها أو حجبناه بفتورنا وإهمالنا للوصية نحرم العالم من أن يرى الوجه الإيجابي المُشرق للحياة المسيحية، وربما اقتنع «أن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور» (لو 16: 8)، وهكذا نصير للعالم عثرة بدل أن نكون له نوراً هادياً.

4. السلوك المسيحي هو بالروح لا بالحرف «لأن الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي» (2كو 3: 6)، والرب يُنادي «إني أريد رحمة لا ذبيحة» (هو 6: 6؛ مت 9: 13؛ 12: 7). فالشكلية والحرفية تقتل الوصية لأنها تُفرغها من مضمونها. فالذين عشَّروا النعنع والسذَّاب والكمون ولم يبالوا بالحق والرحمة والإيمان، دانهم الرب إذ اهتموا بالقشور وتركوا أثقل الناموس (مت 23: 23؛ لو 11: 42). والعبادة القاصرة على أداء فرائض وتخلو من الحب وتسليم الحياة لا تؤدِّي إلاَّ إلى نمو الذات والتغرُّب عن الله، وليس الفعل في ذاته هو الأهم وإنما الهدف الذي يخدمه والروح الذي يؤدَّى به. فكل الأعمال كانت ممنوعة في السبت حتى عمل الخير، ولكن المسيح أكمل الناموس بقوله: «إذاً يحلُّ فِعل الخير في السبوت» (مت 12: 12) عندما شفى ذا اليد اليابسة في السبت.

5. الصمود أمام التجارب والشدائد واحتمال الآلام بشكر علامة عضوية حقيقية في جسد المسيح، والتزام بتبعيته، ورجاء يتجاوز الزمان الحاضر. الاضطراب وفقدان السلام، والضيق والتجربة، والانحصار في الحزن أمام الموت أو الفشل أو الخسائر؛ اتجاهات سلبية تشي بعلاقات زائفة لمؤمنين مدَّعين مهزومين داخلياً. والرب يحث مؤمنيه على الصمود إلى النهاية: «الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» (مت 10: 22؛ 24: 13؛ مر 13: 13). والقديس بولس يُعلن لكل مؤمن «فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا» (رو 8: 18)، ويُطالب الجميع «لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم» (1تس 4: 13).

6. النجاسة ليست فيما يدخل الفم بل فيما يخرج من الفم (مت 15: 11؛ مر 7: 15)، لأنه «مِن فضلة القلب يتكلم الفم» (مت 12: 34؛ لو 6: 45)، و«لأن من القلب تخرج أفكار شريرة مثل زنى، فسق، سرقة (طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، كبرياء، جهل) شهادة زور، تجديف؛ هذه هي التي تنجِّس الإنسان» (مت 15: 20،19؛ مر 7: 21-23).

وفي هذا السياق يُضيف معلِّمنا بولس أنَّ «كل شيء طاهر للطاهرين» (تي 1: 15)، وأنَّ «كل خليقة الله جيدة» (1تي 4: 4). وبالتالي فالأطعمة التي نمتنع عنها في الصوم ليست نجسة (وإلاَّ ما سُمح بها في غير أيام الصوم). ويتعلَّق بهذا أن الأشياء بذاتها ليست حراماً أو حلالاً لأنها محايدة، والأمر يتوقف على مجال استخدامها (أن يكون مقبولاً، وأن يبني وألاَّ يتسلَّط - 1كو 6: 12؛ 10: 23). وحتى الخمر والتبغ والمخدرات ليست مرفوضة في ذاتها، وإنما بسبب تغييبها للعقل وسلبها للإرادة وإيقاعها الإنسان في فخ الإدمان، وفي نفس الوقت لها فوائدها كدواء أو لتخفيف الآلام أو للتخدير أثناء الجراحات وغيرها، حتى أن القديس بولس نصح تلميذه الأسقف تيموثاوس، الذي كان يُعاني من أمراض كثيرة بأن «استعمل خمراً قليلاً لمعدتك وأسقامك الكثيرة» (1تي 5: 23)، ولكن هذا ليس تصريحاً بشرب الخمر دون دواعٍ صحية (كما يدَّعي بعض المستهترين)، لأن القديس بولس نفسه دان السُّكْر بالخمر «ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا بالروح» (أف 5: 18).

7. الحرية الحقيقية هي في التحرُّر من الخطية. والقانون المسيحي يقول إن «كل مَن يعمل الخطية هو عبد للخطية» (يو 8: 34). فحرية الخطية هي في واقعها عبودية كاملة تسحق فيها الإرادة، والإيمان بالمسيح يُحرِّرنا من الخطية «إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 8: 36)، «وتعرفون الحق، والحق يُحرِّركم» (يو 8: 32). والوصية تنبهنا إلى حقوق الآخرين من حولنا «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً» (في 2: 4). فحدود حريتي تنتهي عند حدود حرية الآخرين، وهي تحذِّرنا أن نفقد حريتنا التي نلناها في المسيح: «فاثبتوا إذاً في الحرية التي قد حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبودية... فإنكم إنما دُعيتم للحرية... غير أنه لا تُصيِّروا الحرية فرصة للجسد» (غل 5: 13،1).

8. طبيعة الأشياء تجعل المسيحي في موقف مضاد للشر السائد في العالم، وهو بالتالي موضع اضطهاد العالم بشتَّى الوسائل، والحياة المسيحية تهيئ المؤمن لذلك بقوة الروح والاستعداد للموت وشجاعة المواجهة وتسليم الحياة لله. الانهيار والانطواء والجُبن والهروب من الاضطهاد ليس من الإيمان، هو سلوك جسدي منافٍ للوصية «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد... فكل مَن يعترف بي قدَّام الناس، أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السموات» (مت 10: 32،28). آلاف الشهداء على مدى العصور الذين قدَّموا حياتهم من أجل الإيمان دون أن يُقاوموا الشر بالشر أو يدافعوا عن أنفسهم بالسلاح؛ يؤكِّدون على أن الحق أقوى من العالم، وأن المسيح خرج غالباً ولكي يغلب (يو 16: 33؛ رؤ 6: 2).

9. استثمار المواهب واحترام العمل وأداء الواجب. في مَثَل الوزنات (مت 25؛ لو 19) كافأ الرب الذين استثمروا وزناتهم؛ أما مَن طَمَرَ وزنته فقد نعته بـ «الشرير والكسلان». فالرب مع استثمار مواهبنا بما يخدم الآخرين؛ أما تجميد الموهبة أو إهمالها فهو ليس كسلاً فقط، وإنما خطيئة يُعاقب عليها. والقديس بولس جعل العمل قانون الحياة «إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً» (2تس 3: 10)، ودان التواكل والبطالة، بل إنه شجَّع السارق أن يكفَّ عن السرقة ويجرب شرف العمل بعرق الجبين وبهجة العطاء «بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يُعطى مَن له احتياج» (أف 4: 28).

والمؤمن - سواء كان من أصحاب الكثير أو أصحاب القليل - فإنه يعمل ويستثمر ويؤدِّي واجبه قدر الاستطاعة «لا بخدمة العين كمَن يرضي الناس... وكل ما فعلتم، فاعملوا من القلب، كما للرب ليس للناس» (كو 3: 23،22)، ودون أن ينتظر المكافأة أو المديح هنا «لأنك تُكافَى في قيامة الأبرار» (لو 14: 14)، «عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث، لأنكم تخدمون الرب المسيح» (كو 3: 24).

10. الفصل وعدم الخلط بين الواجبات المدنية وأمور العبادة، بين الكنيسة والدولة. والقانون الساري هنا هو قول المسيح المشهور: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مت 22: 21؛ مر 12: 17؛ لو 20: 25). فلا توجد حجَّة للتحلُّل من واجبات العمل وحقوق الدولة باسم الدين والعبادة، وخدمة الوطن والأمانة في العمل هي جزء من تنفيذ الوصية. في القرون الوسطى اختلط ما لقيصر بما لله، والتحمت الكنيسة مع الدولة. وكانت النتيجة وبالاً وتحوَّلت الكنيسة إلى إحدى مؤسسات العالم وتنازلت عن رسالتها لخلاص العالم. وفيما بعد صار الفصل بين الدين والدولة، وبين الكنيسة والسلطة الزمنية هو التنفيذ العملي لهذه الوصية. فلم تَعُد المؤسسة الدينية تستند إلى السلطة الزمنية أو تسعى إليها، ولم يَعُد الحاكم يحكم باسم الله وإنما باسم الدستور والقانون، ونَأَتْ الكنيسة بنفسها عن السياسة وويلاتها لتصبح شاهدة فقط لحق الإنجيل، ومبشرة بالخلاص وبحياة أفضل لكل البشر على الأرض وبالحياة الأبدية لكل مَن يؤمن.

(بقية المقال العدد القادم)

دكتور جميل نجيب سليمان