دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من تاريخ كنيستنا

متابعة سِيَر البابوات البطاركة
البابا ألكسندروس الثاني
(الثالث والأربعون في عداد بطاركة الإسكندرية)
(695-720م)
- 2 -


سردنا في العدد الماضي (يناير 2005، من ص 31-34) إقامة ورسامة البابا ألكسندروس الثاني، ثم موت الوالي عبد العزيز وابنه "الأصبغ" الذي أذاق الأقباط الكثير من الاضطهاد وأهان الأيقونات والقديسة العذراء مريم، ثم تعيين الوالي الجديد "عبد الله" الذي أكمل سياسة التنكيل بالمصريين جميعاً مثل سابقه.

+ + +

وولَّى الخليفة عبد الملك بن مروان (ومركز إقامته في دمشق) ابنه عبد الله على مصر. ولما وصل الوالي الجديد إلى مصر، بدأ بأعمال التنكيل التي يُظهر بها جبروته أمام المصريين ليهابوه. وكالعادة المتَّبعة، توجَّه البابا ألكسندروس من الإسكندرية إلى الفسطاط (مركز إقامة الوالي) ليُسلِّم على الوالي الجديد. فلما دخل عليه البابا ورآه الأمير عبد الله سأل حاشيته: "مَن هو هذا"؟ فقالوا له: "هذا أب وبطريرك جميع الأقباط". فأمر حُجَّابه بالقبض عليه، وسلَّمه لأحدهم وقال له: "افعل به كل ما تريد من الهوان إلى أن يقوم بدفع ثلاثة آلاف دينار". فأخذه هذا الحاجب وأقام عنده ثلاثة أيام. وكان الأقباط يتابعون الموقف ويرجون أن يتنازل الوالي عن طلبه، فلم يفعل. وكان الجميع في قلق عظيم، وصار خوف على الأساقفة والرهبان لأجل هذه الغرامة المفروضة على الأب البطريرك.

وكان من بين مشاهير أراخنة الأقباط في ذلك الوقت الشماس جرجس التمراوي (وهو الذي سجَّل تاريخ البطاركة في الفترة من حبرية البابا كيرلس الكبير البطريرك الرابع والعشرين إلى البابا ألكسندروس الثاني معاصره. وقد أخذ عنه فيما بعد العالم ساويرس بن المقفع في القرن العاشر في تصنيف مؤلَّفه المشهور "تاريخ البطاركة". وقد كتب الشماس جرجس كتابه هذا وهو في دير الأمير تادرس وفي دير القديس مقاريوس بوادي النطرون). هذا الشماس العالِم توجَّه إلى الوالي عبد الله في شأن هذه المسألة وسأل الوالي: "يا سيدنا(1)، هل أنت تطلب نفس البطريرك أم تطلب مالاً"؟ وكان السؤال مُحرجاً وذكياً في الوقت نفسه. فرد عليه الوالي: "بل أريد مالاً". فردَّ عليه الشماس جرجس: "ضُمَّني إليه لمدة شهرين أطوف مع أبينا البطريرك الوجه البحري، وأطلب له من الأراخنة والمسيحيين، وأقوم أنا نيابة عنه بالثلاثة آلاف دينار". فأفرج الوالي عن البابا وسلَّمه إلى الشماس جرجس، حيث طاف الاثنان المدن والقرى على المؤمنين بالمسيح، حتى حصل على المال، فحمله وقدَّمه إلى الوالي الذي عفا عن البابا مقابل المال.

تذمُّر كهنة وشمامسة الإسكندرية على البطريرك:

ويبدو أن هذه الأزمة انعكست على الكهنة بكنائس الإسكندرية، إذ كان هؤلاء يتقاضون تبرُّعات من مقر الكرسي البطريركي منذ زمان الملك قسطنطين في القرن الرابع، الذي فرض على خزينة الحكومة أن تدفع مرتبات هؤلاء الكهنة، وصارت كعادة أن تدفع البطريركية هذه المرتبات للكهنة والشمامسة، حتى بعد زوال الحُكْم البيزنطي. فلما تعيَّن البابا ألكسندروس قطع هذه المرتبات عدة سنين بسبب الغرامات الباهظة والضرائب التي ألزمته بها الحكومة الجديدة بدفعها لخزينة الدولة. ومن شدَّة ضيقه أُجبـِر على بيع أواني الكنيسة الفضية والذهبية واستخدام أواني خشبية وزجاجية بدلاً منها، ثم لَمَّا لم تَقْوَ البطريركية بعد تلك الغرامات على سدِّ مصاريفها الضرورية؛ قَطَعَ البابا هذه المرتبات التي كانت تأتي من الحكم البيزنطي الذي ولَّى.

ولما ضاق الحال بكنائس الإسكندرية وتعطَّلت حركتها، وافتقر خدَّامها لعدم صرف مرتباتهم عدة سنين، اجتمع الكهنة والشمامسة في كنائس الإسكندرية وانطلقوا إلى الأب البطريرك، وطلبوا صرف مستحقاتهم والجري على عادة أسلافه. وردَّ الأب البطريرك بما جُبـِلَ عليه من الرفق شأن الأب المترفِّق على أولاده قائلاً: "إن البطريركية لِمَا طرأ عليها من البلايا، أصبحت محتاجة إلى مؤازرتكم ومساعدتكم، فمِدُّوا لها أيدي المساعدة كأبناء محبوبين يترفَّقون بأُمهم عند مرضها وشدَّتها". فلما لم يقتنعوا، أوضح لهم أن هذه المرتبات كانت تُصرف من خزينة الحكومة البيزنطية، إذ فرضها عليها الملك قسطنطين الكبير؛ فلما تغيَّرت هيئة الحكومة، استمرت البطريركية تصرفها بلا إكراه ولا إجبار، بل برغبة واختيار، إلى أن عجزت عن سدادها بسبب الغرامات المفروضة عليها.

ولما لم يقتنعوا، خرجوا من عنده وصاروا يُهيِّجون الشعب عليه. وقد استمر البابا ألكسندروس في تعب وقلق من جراء ذلك عدة سنين، حتى تشتت هؤلاء الكهنة وضعفت شوكتهم.

- وهكذا كما صادف هذا البابا البلايا من الخارج، صادفها من الداخل أيضاً.

ليس همٌّ واحد:

وقد تضاعف بؤس المصريين بما حلَّ بالبلاد من قحط ووباء، فهلك منهم الكثير لأن أجسامهم كان قد أنهكها الفقر والخوف، فلم تَعُد لديهم القوة على المقاومة.

وكان هذا الوالي يستهزئ بالمؤمنين بالمسيح. وكان يجمع إليه الأساقفة والمقدَّمين من الشعب (الأراخنة) والرهبان، ويهزأ بهم ويتجبَّر بكلامٍ صعب، ويقول لهم: "مَن قتل واحداً منكم غفر الله له لأنكم أعداء الله(2)". وكان يُضاعف الخراج على الرهبان والكهنة، حتى أن كنائس كثيرة خربت بهذا السبب. وكان مُحباً للمال، وأخرج رجلين هما: عاصم ويزيد ومعهما جماعة من الأعوان، وأنزلوا على الناس بلايا كثيرة، حتى أن الفقراء الذين لا خبز لهم كانوا إذا ماتوا لا يدفنهم أحد إلاَّ بأمره.

دوام الحال من المُحال:

وظل الوالي "عبد الله" ينسج على هذا المنوال حتى حدث ما لم يكن في حسبانه، إذ بينما هو جالسٌ في قصره يوماً، فوجئ بوالٍ جديد يدخل عليه اسمه "قرة" وجلس والياً بدلاً منه؛ إذ لم يكن يدري أن الخليفة عبد الملك في دمشق قد مات وتولَّى مكانه ابنه الأكبر "الوليد"، الذي لما جلس على كرسي الخلافة بدأ يعزل الولاة ويُولِّي غيرهم من أصحابه. وهكذا ولَّى "قرة" على مصر، ولم يكن يعرف "عبد الله" هذا. وهكذا لحقت بعبد الله فضيحة عظيمة وخزي وهو يغادر مكان الولاية. وأنزل "قرة" الوالي الجديد بأصحاب الوالي القديم "عبد الله"، سواء من المسلمين أو من المؤمنين بالمسيح، بلايا عظيمة وطرحهم في السجون حيث أقاموا فيها سنة.

بدء الضيق على يد الوالي الجديد "قرة":

ولكن الوالي الجديد "قرة" لم يكن بأفضل من سابقه، إذ ألحق بالكنائس والرهبان بلايا كثيرة. فلما وصل "قرة" إلى مصر، مضى الأب البطريرك كالعادة ليُهنئه بالولاية ويُحييه. فلما مثل أمامه، قبض عليه الوالي وقال له: "ما قبضه منك عبد الله بن عبد الملك، عليك أن تقوم لي بمثله". فردَّ عليه الأب البطريرك: "إن شريعتنا تأمرنا أن لا تكون لنا مقتنيات ولا ذهب ولا فضة، بل نصرف حاجة معيشتنا يوماً فيوماً لِمَا لأنفسنا وللفقراء والمحتاجين. ولكن ما فعله عبد الله معي كان بسعاية أهل السوء حتى ظلمني وألزمني بثلاثة آلاف دينار، ولَمَّا لم يجد معي منها شيئاً أخرجني إلى البلاد حتى أتصدَّق، حتى وفَّق الله ما طيَّب به نفسي إلى الآن خمس مئة دينار. فمن أين يكون معي شيء مما تطلبه"؟ فردَّ عليه الأمير: "أتحلف لي أنَّ ليس معك ذهب"؟ فقال له الأب البطريرك: "قد أمرنا الله أن لا نحلف البتة، فصدِّقني الآن أن الخراج الذي تطالبني به لا أقدر عليه، والله يعلم أن ليس عندي ذهب". فلم يُصدِّقه الأمير. فلما رأى الأب البطريرك أن لا فائدة من إقناع الأمير، طلب منه أن يسمح له بالسفر إلى الصعيد، ومهما فتح الله عليه بصدقات الناس يُرسله إليه. فسمح له بالسفر إلى الصعيد. وصار البابا البطريرك يطوف المدن والقرى ويسأل، وكان الرب يسوع يشفي مرضى كثيرين بصلواته (لاحِظ، أيها القارئ، كيف يصف الكاتب القبطي القديم المعجزات، إذ لا ينسبها إلى إنسان بشري، بل إلى الرب يسوع، وأن دور البابا البطريرك هو الصلاة).

على أن زيارة البابا الإجبارية للصعيد كانت بتدبير الله ولتكميل مقاصده لخلاص نفوس المؤمنين، إذ سببت فرحاً شديداً للشعب المصري المسيحي في الصعيد، وأدَّت إلى تعزية وتثبيت المؤمنين هناك، إذ لم يزرهم بابا منذ عهد البابا بنيامين (617-656م، أي منذ 100 سنة).

ويقول كاتب سيرته الشماس جرجس - الذي كان في الوقت نفسه وكيل البابا البطريرك - أن البابا ألكسندروس كان مهتماً بخلاص كل أحد من الناس. فلهذا كما يقول كاتب السيرة: إن الرب يسوع فعل في أيامه أموراً عجيبة. فمقابل الآلام والمحن الشديدة التي تكاثرت على البابا ألكسندروس وعلى شعبه المسيحيين، كان الرب يسوع يعمل أعمالاً عجيبة ليُتمم مقاصده ويحفظ كنيسته ووديعة الإيمان المسيحي في صدور وقلوب البابا والمؤمنين. وهذه هي سمة مسيرة الكنيسة القبطية منذ كرازة القديس مرقس الرسول في القرن الأول إلى القرن الحادي والعشرين.

إلاَّ أن عثرة حدثت من داخل المؤمنين، أحرجت البابا أمام والي البلاد.

العثرات من الداخل، وإحراج البابا على يد أتباعه:

وقبل أن نذكر هذه العثرة التي أحرجت البابا وهو يطوف بلاد الصعيد يجمع الصدقات من أهلها (الذين ناءت أكتافهم بثقل الجزية والضرائب والخراج)، لابد أن نُسجِّل أنه منذ مجمع خلقيدونية المشئوم وانقسام الكنيسة إلى قسمين، بدأت المستويات الروحية للشعب في التدهور نتيجة تحوُّل دفة التعليم إلى التنازُع على الألفاظ اللاهوتية المختصة بشرح أسرار تجسُّد ابن الله الوحيد. وكانت النتيجة ظهور بدع وسط الشعب ووسط الرهبان منها بدعة الغيانيين التي ظهرت في عهد البابا بنيامين الأول (الذي عاصر الغزو العربي)، ومنها بدعة الموحِّدين وهي بدعة لم تُذكر صراحة في تاريخ الكنيسة لارتباطها بالأفكار الإسلامية التي وفدت مع الغزو العربي(3)، ويبدو أن البعض من هؤلاء الموحِّدين حاول الترويج لها وسط الرهبان. وكانت هذه البدعة تنكر أسرار التجسُّد، وتشوِّه سر الإفخارستيا، وتسخر من نعمة الاتحاد بالله والبنوَّة التي أسبغها الله على البشرية المُجدَّدة بالمسيح، ونادت بعقاب أرضي على كل خطية، وتنزيه الله عن شركته مع بني البشر. كل هذه التعاليم الغريبة وغيرها أضعفت الحس الروحي لدى الشعب، وأدخلت التهاون في قلوب بعض الأراخنة والرهبان ما رأيناه أثناء سردنا لسِيَر بعض الآباء البطاركة السابقين على البابا ألكسندروس، وما سنراه هنا في هذه الحادثة المؤسفة. وكان من نتيجة هذا التدهور الروحي، ظهور هذه الحوادث المؤسفة كأنها بثور على جسم الكنيسة تكشف عن الأذى الذي لحق بأعضاء الكنيسة نتيجة التعاليم الروحية الخاطئة.

ذلك أنه بينما كان البابا يتجوَّل في الصعيد بناءً على أمر الوالي الجديد، ونتيجة اعتراف البابا أنه راهب لا يملك دنانير ليُسدِّد بها الغرامة التي فرضها عليه الوالي، حدث أن راهبَيْن تلميذيْن لسائح متوحد اسمه فيتاباسطوس عثرا في أثناء حفرهما الأرض في الصخرة التي يسكن فيها المتوحد على خمسة أوعية نحاسية مملوءة بدنانير ذهبية من أيام حكم البيزنطيين، فأخفوا أحدها وقدَّموا الباقي للأب السائح الذي سألهما بقلب طاهر: هل هذا كل ما وجدتماه؟ فقالا: نعم. فسُرَّ بذلك، ثم قال لهما: "قد وفَّق الله هذا المال للأب البطريرك". وأرسله لوكيل البطريرك وكاتبه ليدفعاه للوالي عن الأب البطريرك، فأخفياها هما أيضاً، بينما أخذ الراهبان يُبذِّران ما استوليا عليه، وتركا الرهبنة، وابتاعا لباساً فاخراً وأشياء أخرى. فشاعت أعمالهما، ووقعا في يد الوالي وكاتبه. فقبض الكاتب على أحدهما وسأله: من أين لك هذا المال؟ فاعترف الراهب بكل ما حدث، وحينئذ أبلغ الكاتب الوالي "قرة". فاستشاط غضباً، وأمر بغلق "الإبيسقوبيون" (وهو اللقب الذي كان يُطلق على المقر البابوي في الإسكندرية ومعناه: "الدار الأسقفية" أي أسقفية مدينة الإسكندرية العظمى)، وصادَرَ كل ما فيها من أوانٍ وذهب وكتب، وانتقم من أتباع البطريرك الذين استولوا على الأربعة الأوعية الممتلئة بالدنانير. ثم بعث إلى البطريرك بالصعيد يستدعيه، وهمَّ بقتله بسبب ذِكْره له أنه ليس معه ذهب.

ويقول كاتب السيرة إن أتباع البطريرك جميعهم هربوا وتركوا البطريرك وحده أمام الوالي، كما هرب الحواريون ليلة القبض على الرب يسوع ومحاكمته. فلما مثل البطريرك أمام الوالي وهمَّ بقتله (يقول كاتب سِيَر البطاركة)، إن الرب منعه من ذلك. فكبَّله بالحديد وطرحه في السجن وتركه سبعة أيام، ثم ألزمه بالثلاثة الآلاف دينار، وأرجعه الوالي مرة أخرى إلى الصعيد. وظل البابا يجمع الأموال حتى أوْفَى الدَّيْن.

وتكملة سيرة هذا الأب البطريرك المجاهد، نتابعها في المقال القادم إن شاء الله.

(يتبع)

(1) يُلاحَظ أن السلاطين والولاة الذين وفدوا من الخارج وحكموا مصر كانوا يُلقَّبون بلقب "سيدنا" باعتبار أن الرعايا هم عبيد ذلك السيِّد.
(2) تعبير "أعداء الله" استُخدِم في العهد القديم لوصف غير المنتمين لشعب الله، واستُخدِم أيضاً لدى الحُكَّام المسلمين القدامى لوصف مَن هم غير مسلمين.
(3) ذُكِرَت عرضاً في "رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيئودوروس"، ونُشرت مترجمة عن القبطية في كتاب: "مائة مقولة عن الروح القدس"، عام 2004.