دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

دراسة الكتاب المقدس:

سفر العدد
سفر التيه والتجربة في البرية
ــ 27 ــ

ملخَّص خطة دراسة السفر:

أولاً: إعداد الجيل القديم ليرث أرض الموعد (1:1ــ10:10).
1 ــ تنظيم الجماعة تمهيداً للارتحال ( 1:1ــ49:4).
2 ــ تقديس الجماعة (1:5ــ10:10).
ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (11:10ــ18:25).
1 ــ بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11:10ــ16:12).
2 ــ أزمة قادش برنيع (1:13ــ45:14).
3 ــ إخفاق إسرائيل المتواصل (1:15ــ22:19).
4 ــ حوادث في الطريق إلى موآب (1:20ــ18:25).
ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (1:26ــ13:36).
1 ــ إعادة تنظيم إسرائيل (1:26ــ23:27).
2 ــ شرائع للتقدمات والنذور (1:28ــ16:30).
3 ــ الانتصار على الشعوب في شرق الأردن وتقسيمها على
أسباط إسرائيل (1:31ــ13:36).


ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18)

4 - حوادث في الطريق إلى موآب (20: 1-25: 18)

أ - موت مريم، وحرمان موسى وهارون من دخول أرض الموعد، ثم موت هارون (20: 1-29)

(تابع)

ملك أدوم يرفض مرور بني إسرائيل في أرضه:

ظلَّ تأثير غضب الرب على موسى وهارون وحرمانه لهما من الدخول بالشعب إلى أرض الموعد عالقاً بذهن موسى وذاكرته حتى آخر أيامه، حتى أنه في حديثه بعد ذلك إلى الشعب نراه يقول لهم: "وعليَّ أيضاً غضب الرب بسببكم قائلاً: وأنت أيضاً لا تدخل إلى هناك." (تث 1: 37)

كما سجَّل سفر المزامير هذا الموقف، وكيف تسبب بنو إسرائيل في خروج موسى عن حلمه بقوله: "وأسخطوه على ماء مريبة حتى تأذَّى موسى بسببهم، لأنهم أَمرُّوا روحه حتى فرط بشفتيه." (مز 106: 32و33)

وبعد ذلك كان على الشعب أن يُكمِّلوا مسيرتهم، وكانوا على حدود بلاد أدوم، حيث كان يسكن بنو عيسو أخي يعقوب. فأدوم هو عيسو الذي سكن نسله جبل سعير بعد أن طردوا الحوريين منها (انظر تك 36: 8). وتقع بلاد أدوم بين البحر الميت وخليج العقبة. وقد كان الإسرائيليون حينذاك في قادش الواقعة في برية صين على حدود بلاد أدوم من الغرب.

ولكي يواصل بنو إسرائيل رحلتهم إلى أرض الموعد، كان عليهم أن يجتازوا ببلاد أدوم، لذلك أرسل موسى رسالة سلمية رقيقة إلى ملك أدوم يستأذنه في العبور في أرضه قائلاً:

+ "هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفتَ كل المشقة التي أصابتنا. إن آباءنا انحدروا إلى مصر، وأقمنا في مصر أياماً كثيرة، وأساء المصريون إلينا وإلى آبائنا. فصرخنا إلى الرب، فسمع صوتنا وأرسل ملاكاً وأخرجنا من مصر، وها نحن في قادش مدينة في طرف تخومك. دعنا نمر في أرضك، لا نمر في حقل ولا في كرم ولا نشرب ماء بئر. في طريق الملك نمشي لا نميل يميناً ولا يساراً حتى نتجاوز تخومك." (عد 20: 14-17)

حاول موسى في رسالته أن يستعطف ملك أدوم بقوله له إنه أخوه باعتبار عيسو أخاً ليعقوب، وذَكَرَ له مقدار المشقة والمعاناة التي أصابت بني إسرائيل في مصر. وكيف أنهم صرخوا إلى الرب فسمع لهم وأرسل ملاكه فقتل أبكار المصريين وأنقذهم من أيديهم حتى جاء بهم إلى قادش التي على تخوم بلاده.

ثم استأذنه طالباً بكل رقة أن يسمح لهم بالمرور في طريق الملك، أي الطريق السلطانية الرئيسية تحت بصرهم ورعايتهم، وتعهَّد له بأن لا يمروا بحقل ولا يميلوا إلى كرم ولا يشربوا من ماء بئر، بل يمشون هكذا لا يحيدون عن طريقهم يميناً ولا يساراً حتى يتجاوزوا تخوم أدوم. إلاَّ أن رد أدوم كان مخيِّباً لآمالهم:

+ "فقال له أدوم: لا تمرُّ بي لئلا أخرج للقائك بالسيف." (عد 20: 18)

هكذا كان ردُّ أدوم عدائياً وقاسياً، غير مبالٍ بعلاقات القرابة وأُخوَّة الجدَّين، وغير مُراعٍ للظروف القاسية التي مرَّ بها بنو إسرائيل، والتي ما زالوا يُعانون منها في توهانهم وترحالهم في القفار والبراري. ولكن أدوم كان متوجِّساً خيفة من خداع إسرائيل له، فلعلَّه سمع عن الحروب التي اجتازها مع أعدائه وكيف قهرهم بقوة الله الذي كان يُحارب عنه. أو لعلَّه ما زال يذكر ما فعله جدُّهم يعقوب في أخيه عيسو وكيف اغتصب منه البكورية والبركة. إلاَّ أن موسى كان ما يزال عنده أمل في إعادة الرجاء والتوسُّل، لأن قبول أدوم لمرورهم في وسط أرضه كان سيختصر لهم الطريق كثيراً، ويُسهِّل عليهم الوصول إلى أرض الموعد في أسرع وقت، لذلك ردَّ موسى عليه قائلاً:

+ "فقال له بنو إسرائيل: في السِّكَّة نصعد، وإذا شربنا أنا ومواشيَّ من مائك أدفع ثمنه. لا شيء، أمرُّ برجليَّ فقط." (عد 20: 19)

كرَّر بنو إسرائيل الرجاء مرة أخرى، وعرض أن يدفع ثمن الماء الذي يشربه الشعب ومواشيهم، لعلَّ هذا العرض يُغريهم ويدفعهم إلى القبول. ولكن كان ردُّ أدوم بالرفض.

+ "فقال (أدوم): لا تمرُّ. وخرج أدوم للقائه بشعب غفير وبيد شديدة. وأَبَى أدوم أن يسمح لإسرائيل بالمرور في تخومه، فتحوَّل إسرائيل عنه." (عد 20: 20و21)

لم يكتفِ أدوم بالرفض بل خرج للقاء إسرائيل "بشعب غفير وبيدٍ شديدة"، أي بجيش كبير مُسلَّح ليُحاربهم ويطردهم من تخومه إذا اقتضى الأمر، مما يكشف عن مقدار الشك وعدم الثقة والتوجُّس من نوايا إسرائيل. إلاَّ أن إسرائيل لم يكن مستعدًّا لمحاربتهم، ليس لشيء إلاَّ لكونه قد أخذ أمراً من الله بألاَّ يكرهوا الأدوميين ولا يُحاربوهم لأنهم إخوتهم: "لا تكره أدومياً لأنه أخوك." (تث 23: 7)

موت هارون على جبل هور (عد 20: 22-29):

إزاء رفض أدوم لمرور إسرائيل في أرضه اضطر إسرائيل أن يتحوَّل عنه متفادياً المصادمة معه.

+ "فارتحل بنو إسرائيل الجماعة كلها من قادش وأتوا إلى جبل هور." (عد 20: 22)

هناك رأيان بخصوص موقع جبل هور: فيرى البعض أنه المُسمَّى الآن "جبل هارون" ويقع بين خليج العقبة والبحر الميت، ويوجد فوقه قبر يُظن أنه قبر هارون. والرأي الثاني وهو الأرجح، أنه "جبل مديرة" الذي يقع في الشمال الشرقي من قادش.

+ "وكلَّم الرب موسى وهارون في جبل هور على تخم أرض أدوم قائلاً: يُضَمُّ هارون إلى قومه، لأنه لا يدخل الأرض التي أَعطيتُ لبني إسرائيل، لأنكم عصيتم قولي عند ماء مريبة." (عد 20: 23و24)

لم يكن الموت عقوبة بالنسبة لهارون، لأنه إن كان هارون قد حُرم من دخول أرض الموعد، فإنه لم يُحرم من الدخول إلى راحته الأبدية بعد أن أكمل سعيه بسلام، فاستراح من أتعابه وأعماله تتبعه. ويُعلِّق على ذلك القديس أغسطينوس قائلاً:

[أي عقوبة يكون الموت بالنسبة لإنسانٍ شيخ؟ وأي عقوبة كانت هذه أن لا يدخل تلك الأرض التي دخلها أُناس غير مستحقين؟ بل وماذا قيل عن هارون؟ لقد مات هو أيضاً وهو شيخ وخلفه أولاده في الكهنوت، وصار ابنه بعد ذلك رئيساً للكهنة. فكيف يكون هذا عقاباً لهارون؟](1)

ثم كان أمر الرب لموسى قائلاً:

+ "خُذ هارون وألعازار ابنه واصعد بهما إلى جبل هور، واخلع عن هارون ثيابه وأَلْبـِس ألعازار ابنه إيَّاها. فيُضَمُّ هارون ويموت هناك. ففعل موسى كما أمر الرب وصعدوا إلى جبل هور أمام أعين كل الجماعة. فخلع موسى عن هارون ثيابه وألْبَس ألعازار ابنه إيَّاها. فمات هارون هناك على رأس الجبل، ثم انحدر موسى وألعازار عن الجبل." (عد 20: 25-28)

ويُعلِّق على ذلك القديس بروكوبيوس الغزاوي قائلاً:

[أن "يُضَمّ هارون إلى قومه"، هذه جملة تؤكِّد عدم موت النفس. لأن الكتاب يُعلن دائماً عن هؤلاء القوم أنهم أحياء، وأنه يَضُمّ "الأحياء"، مثلما قيل عن لعازر المسكين الذي وُجد في حضن إبراهيم...

لكن موت الكاهن ليس أمراً غامضاً يحدث في الخفاء، فهو ليس أقل مما حدث عند رسامته، لأن الكهنوت هو أمر مدهش، فالسّراج لابد أن يوضع فوق المنارة. وإننا نقرأ في إشعياء: "على جبل عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون" (إش 40: 9). من أجل هذا تصرَّف الرب هكذا في موت هارون، عندما أراد أن تنفصل النفس عن الجسد.](2)

أما خلع موسى عن هارون ثيابه وإلباسها لألعازار ابنه، فقد صار هذا تقليداً ثابتاً عند بني إسرائيل بناء على ترتيب الرب أن الثياب الفاخرة التي لرئيس الكهنة الذي يموت يلبسها رئيس الكهنة الذي بعده. لأن ثياب هارون رئيس الكهنة كانت مقدسة للمجد والبهاء حسب المثال الذي أراه الرب لموسى على الجبل، فقد كانت مصنوعة بروح الحكمة التي سكبها الرب على مَن اختارهم ليصنعوها بموجب المواصفات التي أمر بها الرب موسى، ليتقدَّس بها هارون ليكهن للرب (انظر خر 28: 2و3).

هذه الثياب التي تشير إلى مجد الرب وبهائه التي يلبسها رئيس كهنة الرب ليكهن بها للرب، إنما كانت ترمز إلى ما كان يتَّشح بها رئيس الكهنة الأعظم يسوع المسيح الكلمة المتجسِّد، الذي هو "بهاء مجد الآب ورسم جوهره" (انظر عب 1: 3).

ولئن خلع موسى عن هارون ثيابه الكهنوتية، فلكي يُلبسه الرب الثياب البيض ليفرح ويترنم مع جماعة الغالبين (رؤ 3: 5؛ 6: 11).

أما ألعازار فقد لبس ثياب المجد والبهاء ليخلفه في الكهنوت، وليحمل نير الخدمة التي وُضعت عليه، ليُكمِّل مثل أبيه واجباتها المقدسة، ويَعْبُر كما عَبَرَ، ويُكلَّل كما تكلَّل.

ومات هارون هناك على رأس جبل هور أمام أعين كل الجماعة، كما يموت كل إنسان حتى ولو كان رئيس كهنة العليّ: "فإن الناموس يُقيم أُناساً بهم ضعف رؤساء كهنة. وأما كلمة القَسَم التي بعد الناموس فتُقيم ابناً مُكمَّلاً إلى الأبد." (عب 7: 28)

+ "لأن أولئك بدون قَسَم قد صاروا كهنة، وأما هذا فبقسم من القائل له: أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. على قدر ذلك قد صار يسوع ضامناً لعهدٍ أفضل. وأولئك قد صاروا كهنة كثيرين من أجل منعهم بالموت عن البقاء، وأما هذا فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمِنْ ثمَّ يقدر أن يُخلِّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدَّمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم." (عب 7: 21-25)

+ "فلما رأى كل الجماعة أن هارون قد مات بكى جميع بيت إسرائيل على هارون ثلاثين يوماً." (عد 20: 29)

لقد بكى جميع بيت إسرائيل ذلك الرجل الذي حمل أثقالهم واحتمل كل تذمُّراتهم، حتى أنه بسببهم وتحت ضغط تمرُّدهم وعصيانهم تعثَّر وأخطأ، يوم صنع لهم العجل الذهبي ليعبدوه، فتسببوا في غضب موسى منه وقوله له: "ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبتَ عليه خطية عظيمة؟" (خر 32: 21)

لقد تحمَّل الكثير من هذا الشعب، كما جاء في سفر المزامير: "وحسدوا موسى في المحلة وهارون قدوس الرب" (مز 106: 16). وفي النهاية كانوا سبباً في حرمان موسى وهارون من دخول أرض الموعد!! ولكن هوذا الآن يبكونه وينوحون عليه متذكِّرين صبره وتفانيه في خدمتهم. فيا ليتهم قدَّروا ذلك قبل موته. ويا ليتنا نحن أيضاً نعرف قدر مرشدينا ونطيعهم قبل أن يؤخذوا منَّا، عاملين بكلمات بولس الرسول: "أطيعوا مرشديكم واخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يُعطون حساباً، لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنـِّين، لأن هذا غير نافع لكم." (عب 13: 17)

(يتبع)

(1) NPNF, 1st Series, VIII; St. Augustine, On Psalms, Psalm XCIX,10. (2) PG 87,853,856.