|
(1822- 1895م) |
|
كان لويس باستور دائماً ما يحترم الآخرين، باستور الذي أحب واحترم نفسه فوق كل الرجال، كان قد احتفظ دائمًا في نفسه بتقدير جم لمعلمه دكتور دوماس. لذلك رأى إنه من الواجب عليه أن يساعد أستاذه القديم الحزين! ولكن كيف؟ كانت المشكلة هناك تتركز في الأمراض التي تصيب ديدان القز، ولكنه كان يعلم أنه يخاطر بفشل مروع بالذهاب ويكره الفشل فوق كل شيء. لكن من الأمور الساحرة فيه أنه في خضم كل غطرسته، وثقته في نفسه، احتفظ بهذا الحب الصبياني والاحترام لمعلمه القديم. فقال لدكتور دوماس: “أنا بين يديك، أنا تحت تصرفك، افعل معي كما يحلو لك. سأذهب“! فذهب وحزم أمتعة السيدة باستور التي لم تشكو من قبل، والأطفال وميكروسكوب وثلاثة مساعدين شباب نشطين، وذهب إلى الوباء، في بلدة ألييه، هذا الذي كان يذبح ملايين من دود القز ويدمر جنوب فرنسا. قال له المزارعون، إن المرض الذي يقتل ديدانهم يسمى بيبرين (بسبب تكوُّن كريات سوداء تشبه الفلفل الأسود المسمى Peper). واكتشف باستور أن هناك ما يزيد عن ألف من النظريات حول هذا المرض. |
![]() |
بدأ باستور بفحص الديدان المريضة، وخاصة في هذه الكريات الصغيرة. وسرعان ما توصل إلى أن الكريات هي علامة أكيدة للمرض. ثم بدأ باستور حياة مليئة بالضغوط. كان في كل مكان حول بلد الحرير المأساوي، يحاضر، يطرح أسئلة لا حصر لها، يعلِّم المزارعين استخدام الميكروسكوب، يسرع إلى المختبر لتوجيه مساعديه, وفي الأمسيات كان يُملي إجابات على الرسائل والأوراق العلمية والخطب على السيدة باستور. ثم في صباح اليوم التالي يعود مرة أخرى إلى البلدات المجاورة، يفرِّح المزارعين اليائسين ويشجعهم...
أخيرًا، ذهب أحد مساعدي باستور إلى الشمال لدراسة ديدان الحرير في فالنسيان في شمال فرنسا، وكتب باستور إليه خطاباً وطلب منه القيام بتجربة أحد أنواع التغذية هناك. كان مساعد لويس باستور متحمسًا - وأصبح أكثر حماسًا عندما أظهرت له الليالي على الميكروسكوب أن الكريات السوداء على سطح الديدان كانت تنمو بشكل هائل حتى تميت الديدان. حينئذٍ سارع إلى باستور وأخبره: “لقد تم حلها، الكريات الصغيرة حية، إنها طفيليات! هي التي تجعل الديدان تمرض!” مرت ستة أشهر حتى اقتنع باستور أن مساعده كان على حق، وعندما أدرك ذلك، دعا اللجنة مرة أخرى، وقال لهم: “إن الكريات الصغيرة ليست فقط علامة على المرض، بل هي السبب الأساسي له. هذه الكريات حية، وتتكاثر.” ثم وضع لهم الخطة للعام التالي. وقتها جربت اللجنة الخطة الجديدة ونجحت.
وفي العام التالي كان لديهم ديدان رائعة أعطتهم غلة رائعة من الحرير. تأكد باستور الآن أن الكريات الصغيرة هي سبب المرض، وقد جاءت من خارج الدودة. عندئذ ذهب إلى كل مكان موضحًا للمزارعين كيفية إبعاد ديدانهم السليمة عن أية ملامسة للأوراق. وفجأة وقع ضحية لنزيف في المخ؛ وكاد أن يموت، لكن عندما سمع أن العمل في بناء مختبره الجديد قد توقف، توقف بشكل مؤقت توقعًا لوفاته، كان غاضبًا وقرر أن يعيش. وقتها أصيب بالشلل في جانب واحد من جسمه. باستور لم يتخطَّ هذا الشلل مطلقًا، لكنه صمم على تكملة العمل على الرغم من إعاقته. ففي الوقت الذي كان ينبغي أن يبقى في سريره، أو أن يذهب إلى شاطئ البحر، تحامل على قدميه واتجه بالقطار إلى جنوب فرنسا، صارخًا بألم إنه سيكون من الإجرام عدم إنهاء إنقاذ ديدان القز بينما الكثير من الناس يتضورون جوعاً! جميع الفرنسيين شاركوا في مدحه وعشقه، ووصفوا ذلك بلفتة رائعة.
كافح باستور لمدة ست سنوات مع أمراض دودة القز. ولم يكد يستقر علاج مرض البيبرين (الذي يصيب دودة القز)، حتى ظهر مرض آخر من هذه الوحوش التعيسة، لكنه عرف مشكلته ووجد ميكروب هذا المرض الجديد بسرعة أكبر. كانت دموع الفرح في صوت الدكتور دوماس، العجوز الآن، وهو يشكر عزيزه باستور. وتحدث عمدة بلدة ألييه بحماس عن إقامة تمثال ذهبي للعالم باستور العظيم.
عندما كان عمره خمسة وأربعين عامًا، انغمس في هذا المجد للحظة، وبعد ذلك، بعد أن أنقذ صناعة دود القز، رفع عينيه نحو واحدة من تلك الرؤى اللامعة والمستحيلة، ولكن دائمًا ما تكون حقيقية جزئيّاً، تطلع إلى أحزان بني البشر: “إن من قدرة الإنسان أن يجعل الأمراض الطفيلية أن تختفي من على وجه الكرة الأرضية.”
لا شك إن تجارب باستور قد تمت بشكل رائع، وأنها أطلقت آمال العالم وخياله. لقد علَّم العالم معنى “التعقيم” أي البسترة لأنها اشتقت من اسمه (باستور)، التي يتم بها الحفاظ على المادة الحية بصورة نقية، دون تدخل الكائنات الدقيقة لإفسادها. ومن المؤكد أن الأمر بدا حينها كما لو أن باستور كان له الحق في تحقيق أحلامه الرائعة في القضاء على المرض.
لقد تلقى لتوه رسالة تكريم من الجراح الإنجليزي ليستر، وتحدثت هذه الرسالة عن مخطط للقيام بالعمليات الجراحية بطريقة آمنة تمنع تلك العدوى الغامضة القاتلة التي قتلت في العديد من المستشفيات ثمانية أشخاص من أصل عشرة. كتب له الدكتور ليستر: “اسمح لي أن أشكرك بحرارة على إطلاعك على حقيقة نظرية جراثيم التعفن من خلال أبحاثك الرائعة، ولإعطائي المبدأ الوحيد الذي جعل نظام المطهرات ناجحًا. إذا أتيت إلى أدنبرة في يوم من الأيام، فسيكون ذلك بمثابة مكافأة حقيقية لك، على ما أعتقد، أن ترى في مستشفانا المقدار الكبير الذي استفادت منه البشرية من عملك.”
مثل الصبي الذي بنى للتو محركاً بخارياً بنفسه، كان باستور فخوراً؛ أظهر الرسالة لجميع أصدقائه، وأدخلها بكل فرح في أوراقه العلمية. ثم نشرها في كل منشوراته حتى في كتابه عن البيرة! وكان يتحدث عن “اكتشافاته الرائعة”، ويسمى نظرياته الخاصة بالنظريات الصحيحة واختتم: “باختصار، إن علامة النظريات الحقيقية هي أن تكون ناضجة ومثمرة.”
كانت كل أوروبا في ذلك الوقت في حالة من الغضب بشأن الأضرار التي تتسبب فيها الميكروبات، وكان يعلم أنه هو نفسه الذي غيَّر الميكروبات من أدوات للثقافة العامة إلى أدوات مساعدة للبشرية. لذا أصبح باستور أول مواطن فرنسي يتم وضع تمثال نصفي له في أهم مختبرات مصانع البيرة!
ولكي يتمم تجاربه بأكثر إتقان، أسرع باستور إلى النجارين ومتاجر الأجهزة واشترى قطعًا ضخمة من الزجاج باهظ الثمن، وبهذا الزجاج جعل النجارين يبنون صوباً متنقلة متميزة (أي أماكن لحفظ المزروعات في درجة حرارة ثابتة)، وفي غضون ستة أسابيع، عمل مساعدوه بلا عشاء وبدون نوم، في تحضير القوارير والأدوات المعملية وحشوات من القطن الساخن؛ وفي وقت قصير لا يصدَّق، جمع باستور كل هذه الأدوات الثقيلة وسارع للحاق بقطار لمنزله القديم في أربوا. هناك، ألقى جانباً كل الأعمال الأخرى وسأل نفسه: “هل نظريتي عن التخمير صحيحة؟”
هناك في أربوا أقام الصُّوب التي صنَّعها بسرعة حول جزء من كروم العنب. لقد كانت صوب رائعة ومتميزة لعزل كروم العنب عن الهواء الخارجي. “إنه منتصف الصيف، الآن، العنب بعيد عن النضج، وأنا أعلم أنه في هذا الوقت لا يوجد أبدًا أي تخمُّر يمكن العثور عليه في العنب.” ثم، للتأكد بشكل مضاعف من عدم سقوط أية خميرة من الهواء على العنب، قام بلف حِزم من القطن بعناية - والتي قام مساعدوه بتسخينها لقتل جميع الكائنات الحية - حول بعض العناقيد الموجودة تحت زجاج الصُّوب. ثم سارع عائداً إلى باريس وانتظر بقلق حتى ينضج العنب. ثم عاد إلى أربوا في وقتٍ مبكرٍ جدًّا وذلك لشغفه المحموم لإثبات أن النظريات الأخرى كانت مخطئة - لكنه وصل أخيرًا إلى هناك ليجدها ناضجة. عندئذٍ، فحص عنب الصوب بالميكروسكوب، فلم يكن هناك أي تخمُّر يمكن العثور عليه على سطح عناقيد الكروم. لقد سحق بعضاً منها بقوة في زجاجات مسخنة بعناية؛ فلم تصعد فقاعة تخمير واحدة في هذه القوارير. وعندما فعل نفس الشيء للعنب المكشوف من الكروم خارج الصوب، سرعان ما تحولت هذه الفقاعات إلى نبيذ! أخيرًا استدعى مدام باستور وأخبرها أنهم سيسافرون إلى باريس، إلى الأكاديمية، وأخذ بعض الكروم مع عناقيدهم المغلفة بالقطن. وفي الطريق، جلست مدام باستور بصلابة في قطار العودة إلى باريس، ممسكة بعناية بالأغصان بشكل ثابت أمامها حتى لا تتراجع الأغلفة القطنية. لقد كانت رحلة ليوم كامل إلى باريس.
ثم في الاجتماع التالي، أخبر باستور الأكاديمية كيف عزل كروم العنب الخاصة به عن الهواء الخارجي: “ألا يستحق هذا كل اهتمام! هذا حدث في كرم أربوا، وهكذا يمكن أن يحدث في ملايين الأفدنة من كروم العنب في جميع أنحاء العالم. كان هناك في الوقت الذي أجريت فيه هذه التجارب؛ كل ذرة من التربة كانت قادرة على تخمير العنب إلى نبيذ! أليس من اللافت للنظر، على العكس من ذلك، أن التربة في الصُّوب التي صنعتها لا تستطيع أن تفعل ذلك؟ ولماذا؟ لأنه في لحظة محددة، غطيت هذه التربة ببعض الزجاج.” ثم تكلم عن بعض تنبؤاته الرائعة، النبوات التي تحققت في أيامه: “ألا ينبغي أن ندرك أن يومًا ما سيكون هناك تدابير وقائية سهلة التطبيق، ستوقف تلك الآفات (أي الجراثيم والميكروبات)!” ثم رسم لهم صورة قاتمة للحمى الصفراء الرهيبة التي حوَّلت شوارع نيو أورلينز الأمريكية الفَرِحَة إلى خراب حينها. ثم جعلهم يرتجفون لسماع ما حدث بخصوص الطاعون الأسود الذي أصاب سكان ضفاف نهر الفولغا البعيدة. وفي النهاية أعطاهم مقداراً من الأمل.
دعونا نترك باستور لفترة - على الرغم من أنه على أعتاب تجاربه الأكثر إثارة وأطرف حُجَّة - دعونا نتركه قليلاً ونذهب مع العالِم روبرت كوخ (1843-1910)، بينما يتعلم كوخ القيام بأشياء رائعة ومهمة بشكل كبير، مع تلك الميكروبات التي كانت تخضع لمملكة باستور لسنوات عديدة.
(يتبع)