من تاريخ كنيستنا
- 164 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا ديمتريوس الثاني
البطريرك الحادي عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1862 - 1870م)
- 3 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) سيرة البابا ديمتريوس الثاني:

حدث أن جـاء السلطان التركي عبد العزيز لزيـارة مصر تلبية لدعوة إسماعيل باشـا حاكم مصر. وقـد أَنْعَم السلطان التركي على إسماعيل باشا بلقب ”خديوي“. واحتفاءً بزيـارة السلطان التركي، دعـا ”الخديوي“ مختلف طوائف الناس إلى قصره لتحية ضيفه الكبير.

+ وكان تقليد السلطان التركي يقضي بأنَّ مَن يَمْثُـل بين يـدَي السلطان، عليـه أن يُقبِّل هُدْب ثوبه! فلما وصـل البابـا الإسكندري إلى حيث السلطـان عبد العزيـز، قَبَّل البطريـرك صَدْر السلطان ناحيـة القلب! ولمَّا أُصيب الحاضرون بدهشةٍ لهذا المسلك البابوي، وسأل كذلك السلطان عن معناه؛ كلَّف البابا الإسكندري وكيل الكرسي البابـوي ”القمص سلامة“ بالـردِّ على سؤال السلطان التركي، حيث كـان يُجيـد التكلُّـم بالتركيـة(1). فتَرجـم الأب ”القمص سلامـة“ للسلطان كلام البابا الإسكندري، هكذا: ”في كتابنا المقدَّس آية تقول: إنَّ «قلب الملك في يـد الله»، فأنا "البابا" بتقبيلي صدركـم، إنما قبَّلتُ يـد ملك الملـوك وسلطان السلاطين“. فـانشرح قلـب السلطان عبد العزيز وانفرجت أساريره. وأمـام رضا السلطان على هـذا الردِّ، قـرَّر الخديوي إسماعيل أن يمنح الكرسي البابوي ألفاً وخمسمائة فدان مـن أملاك الحكومة، للصرف منها على المدارس القبطية وغيرها مـن المرافق القبطية، بخلاف النَّفحات التي كانت يـده الكريمة تمتدُّ بها إليهم مـن وقتٍ لآخر. فكانت هـذه الهبة السخيَّة مَدعـاةً إلى ازدهـار المدارس القبطية واتِّساع عملها(2).

+ وكـان للأقباط في ذلك الوقت 12 مدرسة بالقاهرة، وواحدة بمصر القديمة، وواحـدة بالجيزة، ومدرستان بالإسكندرية (بين مدارس للبنين، وأخرى للبنات)، يتعلَّمون فيها اللغتين القبطيـة والعربيـة، والحساب، ومبادئ الهندسـة، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ المنطـق، والألحـان الكنسية؛ ثم اللغات الفرنسية أو الإنجليزيـة أو الإيطالية. ونُلفت النظر إلى أنَّ المسئولين عن المدارس جعلوا اللغة القبطية لغة أساسية، وذلك بخلاف مـا حدث بعد احتلال الإنجليز لمصر، وانتشار المدارس الأجنبية.

شهادة من الذين هم من خارج:

+ ولمَّا كانت ”شهادة الذين هم مـن خارج“ ذات وَقْعٍ خاص، فإننا نورد هنا ما سجَّله ”إلياس الأيوبي“ في حديثه عـن المدارس التي نَشَرهـا الأمريكيون، فقـال: ”وكـانت مدرستهم الكبري للصبيان بمصر، في بادئ الأمر، في يـد "أقباط" اعتنقوا البروتستانتية، ولم يكونوا يُحسنون الإدارة والتعليم. فكـان التعليم مُختلاًّ، بخلاف مدرستَي البنات في حارة السقَّايين وفي الأزبكية (للأقباط)، فإنهما كانتا من خيرة معاهد ذلك العصر“(3).

بناء المقرِّ البابوي إلى جوار

الكنيسة المرقسية بكلوت بك:

+ كذلك وجد البابا ديمتريوس الثاني الفرصة مواتية لبناء المسكن البابوي (حيث يسكن البابا) إلى جـوار الكنيسـة المرقسية مـن نـاحيتها الغربية(4). ولمَّا انتهى مـن بنائه، أكمل العمارة التي كان قد بَدَأها في عزبة دير القديس أنبا مقار الكبير، أيام رئاسته لهذا الدير.

بدايات الاستقلال عن الحُكْم العثماني:

ومِمَّا يجـدر ذِكْـره أنَّ مصر في السنوات الأولى مـن حُكْم إسماعيل، أصبحت ذات مكانة خاصة بين الدول. ومـن مظاهر هذه المكانة، أنَّ الخديـوي تفاوَض رأساً مـع الدول الغربية في موضـوع استبدال المحاكـم القنصلية بـالنظام القضائي ”المختلط“. كما جعـل مصر تشترك في معرض باريس، حيث أُقيم بـه قسم خاص لها، جَمَع بين صنوف البهجة والعظمة ولَفْت الأنظار إلى الإنتاج المصري وإمكانياته(5).

+ ومـن مآثر الخديوي إسماعيل أيضاً، أنـه استهدف استغلال الكفاءات. وصحيحٌ أنَّ الوظـائف العُلليا، كمديـري المديـريات مثلاً ظلَّت في أيـدي ”الأتراك“؛ ولكـن الوظائف الأخرى كـانت مفتوحة لجميع المصريـين (مسلمين وأقباطاً). ولهـذا السبب نجد أنَّ عـدداً مـن الأراخنة قـد بـرز في هـذا العصر(6).

نياحة البابا ديمتريوس الثاني:

على أنَّ العمـر لم يمتدَّ بالبابـا ديمتريوس الثاني، كما امتدَّ بسَمِيِّه الأول. وقـد استمرت بابويَّته لمدة 7 سنوات و7 شهور و3 أيام(7).

+ وكان انتقال البابا ديمتريوس الثاني إلى الأمجاد السماوية ليلة عيد الغطاس 11 طوبة سنة 1586ش/ 1870م. وقـد اشتركت الرئاسـات الحكومية المصرية، ورؤساء الطوائف المسيحية، مع الأقباط، في احتفالهم بجنازته.

+ وعملاً بالتقليد الكنسي، اختير الأنبا مرقس مطران البحيرة ليكون قائمقام البطريرك إلى أن يتسلَّم البابا الجديد مهام خدمته. على أنَّ الكرسي المرقسي ظلَّ شاغراً أربع سنوات وتسعة أشهر وأربعة عشر يوماً(8).

الكهنة الناشطون الثلاثة مع البابا ديمتريوس الثاني

1. الإيغومانس فيلوثيئوس:

+ وُلِدَ في مدينة طنطا سنة 1837م. وكان والده ”المعلِّم بغدادي صالح“، وهـو من أراخنة هـذه المدينة. ووالدته ”الست مريم“ مـن عائلة النجَّارين بسبرباي. وقد تلقَّى تعليمه في ”الكُتَّاب“ القبطي آنذاك. فلما انتهى من هذه الدراسة، أَلحقَه أبوه بالعمل في محلٍّ كبير للتجارة، حيث تمرَّن، خلال عمله، على الأعمال الحسابية والتجارية.

+ وبعد سنةٍ واحدة من العمل، رُقِّي بمعرفة صاحب العمـل إلى ”باشكاتب“ للُّغة العربية (إذ كانت اللغات الأوروبية المختلفة قـد بَدَأَت تظهر مُذَّاك في مختلف المَحـال والمصالح الحكومية). وفي تلك الفترة، واظب على تعلُّم اللغة الإيطالية إلى أن أجادها وتمرَّس فيها.

+ ثم حدث أن زار سعيد باشا الوالي مدينة طنطا سنة 1855م، فقابله الأراخنة وترجَّـوْه أن يأذَن لهم ببناء كنيسة، لأن كنائسهم القديمة تهدَّمت ولم يتمكَّنوا مـن بناء غيرها. فمنحهم سعيد باشا فرماناً (أي أصدر قانوناً) يُخوِّلهم الحـق في بناء كنيسة. ولكـن رجال الحكومـة المحليين أقاموا العراقيل المتعدِّدة في سبيل تنفيذ ”الفرمان“.

+ وانتَخَب الأقباط كلاًّ من المعلِّم فيلوثيئوس والمعلِّم عوض صليب البيراوي، لينوبا عنهم في مقابلة سعيد باشـا، وبَسْط شكواهم أمـام الوالي. وسافرا أربع مرَّات إلى الإسكندرية لهذا الغرض. وقـد عـاونهما في مُهمَّتهما: المعلِّم فيلوثيئوس بشاي كاتب الوالي. وبهـذا المَسْعَى المتواصل، نجحوا في وَضْع حجر الأساس في 16 أبيب سنة 1571ش/ 1855م بحضور رجال الحكومة.

+ وتمَّ بناء الكنيسـة بهمَّةٍ وسرعة، حتى أنَّ أول قدَّاس أُقيم فيها كان في يوم الأحد 11 بابة سنة 1573ش/ 1856م (أي لم يستغرقوا سـوى سنة وثلاثة شهور لإتمام بناء الكنيسة).

+ ثم صَدَر الأمـر بضمِّ مديريتَي ”الغربية“ و”المنوفية“ معاً، وإطلاق اسم ”روضة البحرين“ على المديرية الجديدة، على أن تبقى ”طنطا“ هي العاصمة. وفي تلك الآونة تعيَّن فيلوثيئوس في قلم العرضحالات، وكان ذلك عام 1855م.

+ وذهب ”فيلوثيئوس“ في تلك السنة لزيارة صديقه ”المعلِّم عريان مفتاح“ في القاهرة. وذهب الصديقان معاً لنوال بركة ”البابا كيرلس الرابع“. وقـد أُعجب البابـا العظيم بفصاحة ”فيلوثيئوس“ وجرأته على التحـدُّث، فاقترح عليه الدخول إلى المدرسة الكبرى، لتعلُّم الدِّيـن واللغـة القبطيـة وغيرهما من العلوم.

+ وأطاع الشاب اقتراح باباه، وظلَّ دائباً على التعلُّم واكتساب المعرفة، إلى أن عيَّنه البابا كيرلس الرابع ناظراً للمدرسة التي أنشأها في المنصورة. ولكنه اضطر إلى تركها بعد سنتين، على إثر استشهاد أبي الإصلاح. فعُيِّن المدرس الأول للُّغة القبطية في حارة السقايين، والثاني في المدرسة الكبري.

رسامة ”فيلوثيئوس“ كاهناً ”عُنوَة“:

+ ثم أحسَّ أهالي طنطا بأنهم في حاجة إلى كاهن مُدْركٍ لقيمة ”الرعاية“، فوقع اختيارهم على ”فيلوثيئوس“. ولمَّا أفصحوا عن رغبتهم إلى الأنبا يؤانس مطران المنوفية، أرسل إلى القاهرة يطلبه بحجَّة أن عنده كتاباً يريد أن يُصحِّحه. وبالطبع، لبَّى فيلوثيئوس الطلب، وذهب. وفيما هو مُنشغل بالكتاب الذي طلب منـه أنبا يؤانس مـراجعته، وَضَعَ المطران عليه اليد، ليربطه عن العودة!

وفي يوم الأربعاء 11 يونية سنة 1862م، أُقيمت الشعائر المقدَّسة لتكريسـه، بحضـور شعب طنطا الحاملين بيان تزكيته من الشعب! وكان ذلك في كنيسة مار جرجس بحارة زويلة (بالقاهرة). ومـن العجيب أنَّ البابا ديمتريوس الثاني، رُسِمَ بطريركـاً بعد ذلك بأربعة أيام؛ فرأى الاحتفاظ بالقس الجديد.

+ ونتيجـة لهـذا التصـرُّف، ظـلَّ القس فيلوثيئوس شهراً في القاهـرة. ولكن وفـداً من طنطا ذهب يلتمس مـن البابا إعادة كاهنهم إليهم. فقَبِلَ رجاءهم، وأعاده معهم.

+ ومن نعمة الله، أن ”القمص تادرس“ ابن المعلِّم عوض صليب البيراوي، كان كاهناً آنذاك في طنطا، فكانت فرصة مُبارَكة لتعاوُن الكاهنَيْن معاً في رعاية شعب طنطا. كما كان والد القمص تادرس قد تعاوَن مع ”المعلِّم فيلوثيئوس“ أيام أن جاهدا معاً لبناء الكنيسة في طنطا!

+ ومـن أبـرز صفات القس فيلوثيئوس: مقدرته على الوعظ، فكان يستأثر بقلوب سامعيه كلَّما وقف يعظهم.

+ ثم رافقته العنايـة الإلهية، فـاستطاع زيارة القُـدْس في أيـام القيـامـة المقـدَّسـة سنـة 1579ش/ 1863م، وأَلهمتـه العنايـة المقدَّسة، فألقى العظات أثناء أسبوع الآلام، مـا حرَّك قلوب الحاضرين، مِمَّا أكسبته مكانـة خاصة في قلوب المؤمنين، لأنه كان يوضِّح لهم في عظاته ما تعنيه آلام المسيح بالنسبة لهم.

+ وبعد عودته من القُدْس بما يقرب من سنة ونصف، انتدبه مطرانـه (وليست ترقيتـه) إلى الإيغومانسية (ما يُسمُّونه الآن ”القمصية“).

+ كما رتَّبت العنايـة الإلهية له زيـارة ثانية للأراضي المقدَّسة سنة 1866م. وبعد ابتهاجه بتعييد القيامة المجيدة، قَصَدَ إلى بيروت ومنها إلى دمشق. وقد لاقَى في المدينتين كل إكرام وتبجيل لتوضيحه العقيدة الأرثوذكسية. وقد مَنَحَه البطريرك الأنطاكي الفرصة لتأديـة خدمـة القدَّاس الإلهي وتـوضيحه للعقيدة الأرثوذكسية حسب الطقس القبطي.

(يتبع)


(1) هـذا التصرُّف يعني أن الإكليروس القبطي كـان مُثقَّفاً، بخلاف مـا كان يُشيعه أصحاب الطوائف الأجنبية آنذاك، بجهل الإكليروس القبطي!
(2) ”عصـر إسماعيل...“، إلياس الأيـوبي، جزء 1، ص 210-212؛ عـن: إيريس حبيب المصري، ”قصـة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، ص 367.
(3) ”عصـر إسماعيل...“، إلياس الأيوبي، جزء 1، ص 221؛ المرجع السابق.
(4) ظلَّ هذا المسكن البابوي مقرّاً للبابوات حتى ن‍هاية حياة البابا القديس كيرلس السادس (البابا الـ 116)، وهو البابا الذي انتُخِبَ ورُسِمَ بطريقةٍ قانونية حسب قوانين الكنيسة، بعد مُخالفات ثلاثة بطاركة سابقين كانوا أساقفة سابقين قـد وُضِعَ الصليب على رؤوسهم عنـد رسامتهم أساقفة لإيبارشيات مُحـدَّدة، وهم: الأنبا يؤانس التاسع = = عشر، والأنبا مكاريوس الثالث، والأنبا يوساب الثاني.
(5) ”عصـر إسماعيل“، عبد الرحمن الرافعي، جزء 1، ص 83-84.
(6) ”عصـر إسماعيل...“، إلياس الأيوبي، جزء 1، ص 62؛ المرجع السابق.
(7) إيريس حبيب المصري، ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، مرجع سابق.
(8) كامل صالح نخلة، ”سلسلة البابوات...“، الحلقة الخامسة، ص 228-234. وللأسف لم نعثر على ترجمة لأيٍّ من المطارنة والأساقفة الذين كانوا شركاء الخدمة الرسولية لهذا البابا.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis