تأملات في شخص المسيح الحي


المسيح - 22 -

القديسة العذراء مريم ”ثيئوتوكُس“
في عقيدة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
- 1 -

أول كل شيء لابد أن نعرف أنَّ العقيدة المختصَّة بالقديسة العذراء مريم (وكذا كل العقائد) في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، هي مُكمِّلة ومتَّصلة بعقيدة تجسُّد ابن الله الكلمة. هذا في علم اللاهوت الشرقي عموماً، وعلم اللاهوت في الكنيسة القبطية بوجه أخص. أما مشكلة علم اللاهوت الغربي فهو غير متصل بل ومنفصل في كثير من عقائده عن عقيدة ”تجسُّد المسيح“، بل كعقائد مستقلة قائمة بذاتها. أما ما يربط العقيدة المختصَّة بالعذراء في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بلقب الـ ”ثيئوتوكُس“ Theo-tokos أي ”حاملة أو والدة الإله“، فقـد تقرَّر رسمياً في المجمع المسكوني الثالث المنعقد في مدينـة ”أفسس“ عام 431م.

بأي معنى يُطلَق على العذراء لقب

”والدة الإله“؟

إن نسبة لقب ”ثيئوتوكُس - والدة الإله“ للقديسة العذراء مريم لم يكن المقصود به على الإطلاق أنَّ مريم ولدت اللاهوت، أو الله الابن الكلمة الذي ”ظهر في الجسد“.

وفي الرسالة الثالثة للقديس كيرلس الإسكندري(1) إلى البطريرك نسطوريوس، يقول ما معناه: إننا حينما نقول بأنَّ ”ابن الله“ وُلِدَ من العذراء مريم، فهذا لا يعني أنَّ بدايـة وجود لاهوت ابن الله الكلمة كان من مريم، حاشا؛ بل بمعنى أنَّ الله الكلمة الأزلي أتى ونزل من السماء في هذه الأيام الأخيرة من أجل خلاصنا لكي يُولَد من أحشائها(2).

الآب والابن اشتركا في الميلاد البتولي،

والروح القدس أكمل خلقة الولادة البشرية:

بحسب التسبحة السنوية، ”الآب تطلَّع من السماء، فلم يجد مَن يُشبهكِ، أرسل ابنه وحيده، أتى وتجسَّد منك“ (ثيئوتوكية الأربعاء)، والروح القدس قام بدور خَلْق النفس البشرية في الجسد المولود من العذراء، كما حدث في خلقة الإنسان (تك 2: 7)، حينما نفخ الله في أنفه ”نسمة الحياة“ التي هي الروح القدس.

لماذا استُخدِم لقب: ”ثيئوتوكُس“؟

إنَّ هذا اللقب كان المقصود به حفظ الاتحاد المُميَّز في شخص المسيح بين طبيعته الإلهية وبين الطبيعة البشرية للجسد المأخوذ من العذراء. فقد أَحْدَث البطريرك نسطور في القرن الخامس تشويشاً في شرحه للتجسُّد، هدَّد به الاتحاد الأقنومي بين الطبيعتين داخل المسيح؛ مما أدَّى إلى مناداة نسطور بوجود ”شخصَيْن“ منفصلَيْن في المسيح: شخص ابن الله الكلمة الذي أُضيف لاحقاً أو أُلحِقَ بطريقةٍ ما بالشخص البشري ”يسوع“ المولود من العذراء. وبالتالي كان نسطور يُلقِّب العذراء، لا ”والدة الإله الكلمة“، بل ”والدة المسيح Christo-tokos“؛ بمعنى كلمة الله الذي اتَّحد به بعد ولادة الجسد.

مجمع أفسس، كيف شرح الـ ”ثيئوتوكُس“؟

لقد أوضح القديس كيرلس الكبير، ومعه مجمع أفسس، عقيدة الـ ”ثيئوتوكُس“ (سنة 431م)، بأنْ اختصر الطريق إلى النقطة الأساسية في التجسُّد، بأنَّ المولود من العذراء: كان هو ابن الله متَّخذاً جسداً من القديسة العذراء مريم منذ لحظة الحَبَل ثم الولادة.

وقد أرسى لفظ مجمع أفسس الحقيقة الإيمانية بأنَّ مريم كانت هي والدة الإله المتجسِّد ”بحسب طبيعته البشرية“، وليس ”بحسب طبيعته الإلهية“: ”فقد وَلَدَتْ بحسب الجسد كلمة الله الأزلي الذي صار جسداً (إنساناً)“(3).

1. عقيدة العذراء القديسة مريم

الـ ”ثيئوتوكُس“:

إنَّ سرَّ التجسُّد الإلهي في الزمن يشرحه الأب متى المسكين في كتابه: ”العذراء القديسة مريم الـ "ثيئوتوكُس" ++++++++“(4) هكذا:

+ ”قد تصدَّى القديس كيرلس الكبير لهذا الانحراف (الذي ابتدعه نسطور بطريرك القسطنطينية)، مؤكِّداً أنَّ تلقيب العذراء القديسة مريم بوالدة الإله ضرورة لاهوتية تُحتِّمها حقيقة التجسُّد الإلهي. فالتجسُّد في الإيمان الأرثوذكسي، هو اتحاد كامل بين الطبيعتين، غير مفترق قط من بعد الاتحاد، صائراً أقنوماً واحداً هو الإله الخالق ابن الله المتجسِّد. فالمولود من العذراء هو ابن الله المتجسِّد، وليس مجرد إنسان“ (صفحة 8).

ويرجع الأب متى المسكين إلى الإنجيل ليجد فيه أنَّ أول مَن نَطَقَ بتسمية العذراء بـ ”والدة الإله“ أو ”أُم ابن الله“، هو الملاك جبرائيل الذي حَمَل البُشْرَى الأولى للعذراء بالحَبَل الإلهي والولادة البتولية؛ إذ قـال لها: «لذلك أيضاً القدوس المولـود منكِ يُـدعَى ابـن الله» (لو 1: 35)، وهذا يُسجِّل أول تصريح إلهي أنَّ العذراء هي: ”والدة القدوس ابن الله“ (ص 9).

+ ونجد أيضاً في تسبحة أليصابات (امرأة زكريا الكاهن) كلمات مُحدَّدة: «... ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات مـن الروح القدس، وصرخت بصوتٍ عظيم وقالت: ”مُباركةٌ أنتِ في النساء، ومُبارَكةٌ هي ثمرة بطنكِ! فمِن أين لي هذا أن تأتي أُمُّ ربي إليَّ؟ فهوذا حين صار صوتُ سلامكِ في أُذُنَيَّ ارتكض الجنين بابتهاجٍ في بطني“» (لو 1: 40-44).

+ فواضحٌ جداً أنَّ العذراء كانت تحمل في بطنها السرَّ الإلهي الأعظم: الله في الجسد، لقد أدركه يوحنا وهو جنين في بطن أُمِّه أليصابات، ونبَّه أليصابات أُمَّه. فامتلأت هي أيضاً من الروح القدس وصرخت بصوتٍ عظيم! فماذا يكون هذا الذي في بطن العذراء؟“ (ص 9)

تطويب العذراء:

بقدر مـا قالت أليصابات عـن مريم: «... طوبى للتي آمنتْ أن يتمَّ ما قيل لها من قِبَل الرب»، بقدر ما قالت هي عن نفسها: «هوذا منذ الآن جميع الأجيال تُطوِّبني». لأنه كما قيل عنها، كذلك قالت هي عن نفسها، والحقيقة أنَّ الذي نَطَق في أليصابات هو هو الذي نَطَقَ في العذراء، وهو الذي ينطق في كل إنسان، في كل زمان ومكان، بكرامة هذه العذراء.

العلاقة بين تسابيح الكنيسة،

وروح التقوى في الشعب:

على أنَّ الأب متى المسكين يُقدِّم تعليماً مهماً عن هذا التطويب في الكنيسة القبطية:

+ ”نُشير إلى المفارقة الصارخة بين كمية التسابيح والألحان والمردَّات في الطقوس والصلوات التي تختصُّ بالعذراء والتي تتخلَّل كافة الخدمات اليومية، وبين كمية علاقتنا الشخصية بالعذراء مريم في واقعنا اليومي“!

+ ”فبالرغم من أنَّ الكنيسة تقضي يومياً عدة ساعات في تكريم العذراء بالتسابيح المُبدعة والألحان الرقيقة والمردَّات التشفعية المُنسكبة، إلاَّ أنَّ الإنسان المسيحي العابد لا يستجيب لهذا الدعاء والتوسُّل والتشفُّع في قرارة نفسه. والعلَّة في ذلك، بكل أسف، ترجع إلى ضعف التسليم. فالآبـاء المُعلِّمون، سواء كانوا مـن شيوخ البرية المتوحِّديـن، أو الكهنة والأراخنة الأتقياء، لا يحملون صورة صحيحة مُطابقة لروح الكنيسة مـن جهة تعلُّقهم التَّقَوي بالعذراء القديسة وتكريمهم الشديد لشخصها المبارك. ولعلَّ هذا من ضمن الأسباب التي جعلت هذا الجيل ينفضُّ عن التسبيح داخل الكنيسة، ويتهاون بخَدَمَات الألحان والمردَّات والتشفُّعات“ (ص 15،14).

”شركة القدِّيسين“:

هذا العنوان يُعبِّر عن اختبار وعقيدة في الأرثوذكسية، هو أننا داخل الكنيسة نكون في ”شركة القدِّيسين“. لأن القدَّاس الإلهي في بداياته يرفع مجمع المؤمنين المُصلِّين إلى السماء حينما يسأل الكاهنُ الشعبَ: ”أين هي قلوبكم؟“، أو ”ارفعوا قلوبكم“؛ فيردُّ الشعب: ”هي عند الرب“.

فالعابدون في الكنيسة يكونون في السماء وهم يُقدِّمون القرابين رائحة بخور زكية أمام الله، وفي ”شركة جميع القدِّيسين والملائكة“ وأول الكل القديسة العذراء مريم والدة الإله.

ويقول الأب متى المسكين:

+ ”نودُّ أن نضع أمام القارئ الصورة الأصيلة لعقيدة الكنيسة الأرثوذكسية من جهة "شركة القدِّيسين". فالعبادة في كنيستنا، سواء في القدَّاس أو كافة الصلوات الأخرى، تقوم على أساس اجتماع المؤمنين مع أرواح القدِّيسين والأبرار والشهداء المنتقلين والعذراء القديسة مريم. لذلك ترى، أيها القارئ، على حجاب الهيكل الحامل للصور، صور هؤلاء جميعاً بدرجاتهم السماوية، وكأنما الكنيسة قد احتجزت لهم الصفَّ الأمامي لحضورهم على الدوام، وجعلت ظهورهم نحو الشرق؛ لأنهم لم يعودوا بعد ينتظرون المسيح الآتي، مثلنا، بـل هم معه كـل حين، وجعلت وجوههم نحونـا، لكي يعزُّونـا، ويـؤازرونـا، ويتقبَّلـوا تـوسُّلاتنـا وصلواتنا“ (ص 14).

طقس البخور أمام

أيقونات القدِّيسين:

ويقول الأب متى المسكين شارحاً هذا الطقس:

+ ”وكما يتقدَّم الكاهن إلى البطريرك أو المطران أو الكهنة المساعدين بالبخور، وكذلك كافة الشعب فرداً فرداً، ليُشرِك الجميع في الصلوات؛ كذلك يسبق أولاً ويتقدَّم إلى صور القدِّيسين ويجمع صلواتهم عنَّا، باعتبار أنَّ الكاهن مسئولٌ عن جمع صلوات الكنيسة كلها المنتصرة والمجاهدة، ثم يصعد إلى الهيكل ليُقدِّمها أمام المذبح الإلهي، الذي هو الصورة الأرضية المؤقتة للمذبح الإلهي الناطق السمائي (كما في أوشية القرابين)“ (ص 14).

+ ”وهكذا بقدر ما نقترب من القدِّيسين نقترب من المسيح؛ وبقدر ما نقترب من المسيح نقترب من القدِّيسين بالضرورة(5)(ص 15).

2. الدائمة البتولية:

تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بدوام بتولية العذراء، وهو تقليد قديم يصف القديسة العذراء بـ ”الدائمة البتولية“، أي أنها كانت عذراء قبل وأثناء ميلاد المسيح، وظلَّت عذراء بعد ميلاد المسيح. وتظهر هذه العقيدة في فن الأيقونات بثلاثة نجوم تظهر على الخِمَار (أي الحجاب) الذي تلبسه العذراء على رأسها: على جَبْهتها، وعلى كِلا كتفيها. وهذه النجوم الثلاثة ترمـز إلى نعمة الثالوث الأقدس فيها ما جعلها تُسمَّى: ”الممتلئة نعمة“، وباليونـانية: kecharitomené.

ويشرح الأب متى المسكين مضمون البتولية في علم اللاهوت الأرثوذكسي بأنه:

+ ”ليس عبارة عن قامة بشرية مُعيَّنة أو مجرد حالة جسدية (عدم الزواج)، ولكنها قامة روحية قبل كل شيء، وحالة داخلية تتعلَّق بأعماق النفس: «أما الجسد فلا يفيد شيئاً» (يو 6: 63)، كقول الرب. فموضوع البتولية الدائمة ليس هو منطق حوار جسدي محض يتَّخذ أصوله من ولادة مريم وحِفْظ جسدها وحسب، إنما يتَّخذ كيانه أيضاً من تأصُّل حالة عفة سرِّية إرادية، وترفُّع عن أية شهوة جسدية أو رغبة حسية أنانية، إنما مع هدوء في القلب والعقل وتكامُل في العواطف.

وفي كلمة واحدة: هو التمتُّع بحالة "نقاوة قلبية" بفعل النعمة المالئة للكيان الداخلي: «السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة» (لو 1: 28)... لذلك يضع كتاب الأبصلمودية (التسبحة) صفة مُرادفة: "العذراء كل حين"؛ إنما تصفها وتشرحها على مستوى روحي بديع، إذ تُسمِّيها: "القديسة كل حين"“ (ص 76).

+ ”ومن المُحقَّق أنَّ دعم عقيدة التجسُّد الإلهي، أي ألوهية المسيح، يرتكز أول ما يرتكز على معجزة ميلاد المسيح الفائقة للطبيعة المُتضمنة في دوام بتولية العذراء. لذلك، فمِن الوجهة الروحية الخالصة، نجد أن تكريم بتولية العذراء هو المدخل السرِّي لتمجيد ألوهية المسيح(ص 78).

3. ”أُم النور“ لقب كنسي للعذراء مريم:

حينما لقَّب مجمع أفسس العذراء القديسة مريم بـ ”أُم النور الحقيقي“، فَتَحَ المجال للتأمُّل في عجيبة هذه العذراء بصفتها ”حاملة شمس البر“ أو ”أُم النور الحقيقي“؛ فهي بمثابة ”سماء ثانية على الأرض مثل السماء التي تحمل الشمس في الجَلَد فوق رؤوسنا. ولكن هنا العذراء مريم أَجلُّ وأكرم وأَرْفع من سماء الجَلَد، بقدر ما أن المسيح شمس البر والنور الحقيقي أرفع وأكرم من الشمس التي في الجَلَد التي تُضيء فوقنا“.

4. قديسة في كل شيء:

فالكنيسة تؤمن أنَّ الروح القدس لمَّا حلَّ على العذراء، قدَّسها، إعداداً للتجسُّد، وذلك بأن ملأ الروح القدس كل موضع فيها: ”والروح القدس ملأ كل موضع منكِ: نفسك وجسدك، يا مريم أُم الله“ (لُبْش السبت، الرُّبع التاسع). وبذلك صارت قديسة في كل شيء (ثيئوتوكية السبت)، لا بمعنى كُلِّية القداسة Panagia“، كما تُلقِّبها الكنيسة البيزنطية؛ لأن الصفات الكُلِّية هي جوهر إلهي، لانهائية وغير محدودة، ولا تُطلَق إلاَّ على الثالوث الأقدس.

+ لذلك، فالكنيسة تقطع بعدم عبادة مريم قطعاً فاصلاً. وذلك واضحٌ من أقوال الآباء، ونكتفي بقولٍ فاصل للقديس أمبروسيوس (339-397): ”وبدون شكٍّ يُعبَدُ الروح القدس، ولكن لا ينحرف أحدٌ بهذه العبادة نحو العذراء مريم، لأن مريم كانت هيكلاً للإله، وليست إله الهيكل (الذي هو المسيح). لذلك فإنه (الرب يسوع) وحده هو الذي يُعبَد وهو في هيكله“(6).

+ كذلك لا تؤمن الكنيسة إطلاقاً أنَّ مريم كانت شريكة ابنها في الفداء، وبالتالي لا تؤمن بأنه يتحتَّم أن تكون شريكة معه في سجودنا وصلاتنا وعبادتنا، هذا شطط مريع في مفهوم الفداء والعبادة. أما كل ما تُقدِّمه الكنيسة الأرثوذكسية للعذراء مريم في تقليدها الأصيل، فهو تكريمها وتعظيمها وتطويبها وتبريكها، ملتزمةً بنفس الجُمَل التي نطق بها الملاك جبرائيل، ونسيبتها أليصابات، وكما نطقت العذراء نفسها وبفمها: «فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تُطوِّبني، لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس...» (لو 1: 49،48).

(يتبع)

(1) Council of Ephesus; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, pp. 348-57.
(2) Cyril of Alexandria, Third Letter to Nestorius, Library of Chris. Classics, III, pp. 349-56.
(3) Cyril of Alexandria, Second Letter to Nestorius.
(4) الأب متى المسكين، ”العذراء القديسة مريم الـ "ثيئوتوكُس"“، 1993، مطبعة دير القديس أنبا مقار.
(5) القديس دوروثيئوس الذي من غزة.
(6) عن الروح القدس، الكتاب الثالث.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis