|
|
|
ثانياً: بركة يهوذا:
لم يتبع موسى النبي في نطقه للبركة تسلسُل الإنجاب بالنسبة للأسباط، لأنه كان ينبغي أن يذكر شمعون بعد رأوبين، كما فعل يعقوب في مباركته لأولاده. إلاَّ أن يعقوب أيضاً لم يُراعِ ترتيب ولادة أبنائه في النُّطق ببركتهم سوى بالنسبة للأربعة الأوائل من ليئة زوجته. ولكن الروح الذي نطق على فم يعقوب لم يتبع بعد ذلك ترتيب ولادتهم، كما لم يتبع موسى أيضاً هذا الترتيب؛ بل إنه لم يذكر شمعون قط في بركته للأسباط. وهناك بعض الآراء في هذا الخصوص:
1. يرى البعض أن موسى قد تأثَّر بما قاله يعقوب عن خطية شمعون ولاوي في حادث شكيم وحمور، وعبَّر عن استيائه منهما بقوله: «في مجلسهما لا تدخل نفسي، بمجمعهما لا تتَّحد كرامتي؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنساناً، وفي رضاهما عَرْقَبا ثوراً. ملعون غضبهما فإنه شديد، وسُخطهما فإنه قاسٍ. أُقَسِّمهما في يعقوب، وأُفرِّقهما في إسرائيل» (تك 49: 7،6). إلاَّ أن لاوي في أيام موسى النبي قد أظهر غيرةً مقدسة عندما أخطأ الشعب خطيته العظيمة بسجودهم للعجل الذهبي، ولما نادَى موسى قائلاً: «مَن للرب فإليَّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوي. فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: ضعوا كل واحدٍ سيفه على فخذه، ومرُّوا وارجعوا من بابٍ إلى باب في المحلَّة، واقتلوا كلُّ واحدٍ أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه. ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى...» (خر 32: 26-29).
2. أما من جهة شمعون، فلم يذكر الكتاب أنه قد أصلح وضعه؛ بل بالعكس، فقد ظهر زمري من سبط شمعون وتحدَّى وصايا الرب بتعلُّقه بامرأة مديانية وقدَّمها لإخوته، فاشترك معه الكثيرون من سبطه في هذا الخطأ الشنيع (عد 25: 6-9).
3. وهناك رأي آخر بأنه قد جاء في بعض النُّسَخ السبعينية هذا النص: «ليحْيَ رأوبين ولا يَمُت، ولا يكُن رجاله قليلين. وليكثر عدد شمعون». وقد تكون هذه الفقرة الأخيرة قد سقطت سهواً في النسخة العبرية.
4. غير أنه من المُرجَّح أنَّ سبط شمعون لم يذكره موسى، لأنه بورك ضمناً مع سبط أخيه يهوذا، لأنه أخذ نصيبه من أرض كنعان ضمن سبط يهوذا (انظر يشوع 19: 1)، إلاَّ أنه قد تمَّ قول يعقوب أيضاً عن شمعون ولاوي: «أُقَسِّمهما في يعقوب، وأُفرِّقهما في إسرائيل» (تك 49: 7)، لأن كلاهما لم يأخذ نصيباً مُحدَّداً في أرض الموعد.
أما عن بركة يهوذا، فقد قال موسى:
+ «اسمع يا ربُّ صوت يهوذا، وأْتِ به إلى قومه. بيديه يُقاتِل لنفسه، فكُن عوناً على أضداده» (33: 7).
يُلاحَظ أن موسى نطق بالبركة ليهوذا قبل لاوي، رغم أنَّ لاوي سابق ليهوذا في ولادته. ولعل في ذلك نبوءة بأنه من سبط يهوذا سيخرج الملوك الذين سيملكون على إسرائيل، مثل: داود وسليمان وسلالتهم من ملوك مملكة يهوذا. وكرامة الملك في العهد القديم أعلى من كرامة الكاهن. أما إذا اعتبرنا أنَّ بركة يهوذا تُشير أيضاً إلى الرب يسوع، كما هو واضح في بركة يعقوب ليهوذا: «يهوذا إيَّاك يَحْمَدُ إخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسدٍ. مِن فريسة صَعِدْتَ يا ابني. جثا وربض كأسدٍ وكلبوةٍ، مَن يُنهضه. لا يزول قضيبٌ من يهوذا ومُشترعٌ من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوبٍ. رابطاً بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه. غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه. مُسْوَدُّ العينين من الخمر، ومُبْيَضُّ الأسنان من اللَّبن» (تك 49: 8-12)(1)؛ فكَون يهوذا يُشير إلى المسيح الذي هو الملك والكاهن معاً، مِن أجل هذا تقدَّم يهوذا على لاوي. كما أنَّ من سبط يهوذا جاء الرب يسوع الذي يملك إلى الأبد ولا يكون لمُلْكه نهاية.
أمَّا نص البركة: «اسمع يا ربُّ صوت يهوذا، وأْتِ به إلى قومه»، فهي من بدايتها تدلُّ على أنه محتاج لعون سريع من الرب، كما يتبيَّن من المسئولية التي أُلقيت على عاتقه، والتي ذُكِرَت في سفر العدد (2: 9)، لكونه في طليعة المحاربين من الجيش النازل إلى الشرق، والذي يضمُّ الجنود من سبط يهوذا ويسَّاكر وزبولون، تحت راية محلَّة يهوذا الذي في المقدمة. وبذلك فإنَّ يهوذا يشغل أخطر موقع في المعركة. وهكذا فإنَّ البركة تعني صلاة ودعاء من أجل أن يسمع الرب صوته حينما يطلبه في ضيقته، وصلاة من أجل أن يعود سالماً إلى قومه، وصلاة من أجل أن يغلب وينتصر على أضداده، وهي التي يعنيها قول موسى: «بيديه يُقاتِل لنفسه، فكُن عوناً على أضداده».
وبما أن المسيح قد جاء من سبط يهوذا، فهو الذي جاء من المشارق، وخرج إلى الحرب مُتقدِّماً في الطليعة ومُحارباً عن كل البشرية، لكي ينقض أعمال إبليس. وفي تواضعه نسب كل غلبته للآب الذي كان يصرخ إليه لكي يُعينه في جهاده (لو 22: 44).
ثالثاً: بركة لاوي:
سبط لاوي هو السبط الذي اختاره الرب لخدمة الكهنوت، وهو الذي منه خرج موسى النبي وهارون رئيس الكهنة. واختار الرب بيت هارون ليكون منه كهنته، وباقي بني لاوي اختارهم خُدَّاماً لخيمة الاجتماع، وللهيكل فيما بعد. أما نص البركة، فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1. سلطة رئيس الكهنة:
+ «تُمِّيمُك وأُوريمُك لرَجُلِكَ الصدِّيق، الذي جرَّبتَه في مَسَّة وخاصمتَه عند ماءِ مَرِيبة» (33: 8).
التُّميم والأُوريم يُرجَّح أنهما حجران كريمان كانا يوضعان في صدرة رئيس الكهنة، وكان حجر منهما يحمل على أحد وجهيه كلمة ”تُمِّيم“ المشتقة من الأصل العبري (tamam) أي ”التمام“ أو ”الكمالات“. والحجر الآخر كان يحمل على أحد وجهيه كلمة ”أوريم“ أي ”الأنوار“ المشتقة من الأصل العبري (’+rar). ويكاد الرأي يُجمِع على أنَّ الكلمتين تعنيان الكمالات والأنوار.
وكان امتلاكهما من أعظم الامتيازات الممنوحة للعائلة الكهنوتية. وإن كُنَّا لا نعلم تماماً طبيعة استخدامهما، إلاَّ أنه كان عن طريقهما تُعلَن إرادة الله في الأزمات القومية، وكذلك في التنبُّؤ عن المستقبل، والحُكْم بالذنب أو البراءة، وفي تقسيم الأرض في أيام يشوع بن نون، الذي كان يقف أمام أليعازر الكاهن «فيسأل له بقضاء الأوريم أمام الرب، حسب قوله يخرجون وحسب قوله يدخلون، هو وكل بني إسرائيل معه، كل الجماعة» (عد 27: 21). ويبدو أنها كانت الوسيلة التي استخدمها يشوع في قضية خيانة عخان بن كرمي (يش 7: 18،14). ويُحتَمَل جداً أنَّ هذه الوسيلة قد استُخدِمَت في كل المناسبات التي كان الإسرائيليون يستشيرون فيها يهوه بعد موت يشوع في أيام القضاة في أَمْر الحرب (قض 1: 2،1؛ 20: 18، 26-28). وليس من المستبعد أن يكون صموئيل النبي قد استعان بالأوريم والتُّميم في اختيار شاول الملك (1صم 10: 20-22). ولكن بعد أيام داود أصبح للنبوَّة المكان الأول، لذلك لا نجد ذِكْراً واضحاً لاستخدام الأوريم والتُّميم في أيام الملوك اللاحقين. ومما يستلفت النظر أنه لم يُذكَر أن موسى استخدمهما، لأن الرب كان يتكلَّم معه فماً لفمٍ، كما شهد له الرب بذلك (انظر عد 12: 5-8). كما أنَّ علماء اليهود منذ زمن الأنبياء لم يُعيراهما اهتماماً كبيراً، وبخاصة فيما بعد السبي، فقد بطل استخدامهما تماماً. وعموماً فإنَّ مقاصد الله مُعلنة لقديسيه، فقد قال الرب لشعبه في المزامير: «سرُّ الله لخائفيه» (مز 25: 14). وقال الرب يسوع لتلاميذه: «قد أُعطِيَ لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات» (مت 13: 11).
أما معنى البركة: «تُمِّيمُك وأُوريمُك لرَجُلِكَ الصدِّيق»، فهي تعود على مَن قبلوا رئاسة الكهنوت. وهي نبوَّة عن دوام الكهنوت وعمله وسلطانه. ولكن الكهنوت اللاوي كان إلى حين، كما أوضح ذلك القديس بولس الرسول في رسالته للعبرانيين: «فلو كان بالكهنوت اللاوي كمالٌ، إذ الشعب أَخَذَ الناموس عليه، ماذا كانت الحاجة بعدُ إلى أن يقوم كاهنٌ آخر على رُتبة ملكي صادق، ولا يُقال على رتبة هارون؟ لأنه إنْ تَغَيَّر الكهنوت، فبالضرورة يصير تغيُّرٌ للناموس أيضاً. لأن الذي يُقال عنه هذا كان شريكاً في سبط آخر لم يُلازِم أحدٌ منه المذبح. فإنه واضحٌ أن ربنا قد طَلَعَ من سبط يهوذا، الذي لم يتكلَّم عنه موسى شيئاً من جهة الكهنوت. وذلك أكثر وضوحاً أيضاً إن كان على شِبْه ملكي صادق يقوم كاهن آخر، قد صار ليس بحسب ناموس وصيةٍ جسدية، بل بحسب قوةِ حياةٍ لا تزول. لأنه يشهد أنك ”كاهن إلى الأبد على رُتبة ملكي صادق“» (عب 7: 11-17).
أما قوله: «الذي جرَّبتَه في مَسَّة وخاصمتَه عند ماءِ مَرِيبة»، فالعبارتان تُشيران إلى حادثتين اثنتين:
الحادثة الأولى: هي حادثة ضرب الصخرة في حوريب بالعصا التي ضرب بها موسى نهر النيل في مصر، فتحوَّل كل الماء الذي في النهر دماً (خر 7: 20)؛ ولما ضرب الصخرة أخرجت ماء ليشرب الشعب بعد أن تذمَّر على موسى وقالوا له: «لماذا أصعدتنا من مصر لتُميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش؟ فصرخ موسى إلى الرب قائلاً: ماذا أفعل بهذا الشعب، بعد قليل يرجمونني؟ فقال الرب لموسى: مُرَّ قدَّام الشعب وخُذْ معك من شيوخ إسرائيل، وعصاك التي ضربتَ بها النهر خُذها في يدك واذهب. ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب، فتضرب الصخرة فيخرج منها ماءٌ ليشرب الشعب. ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل. ودعا اسم الموضع مسَّة (أي تجربة) ومريبة (أي مخاصمة) من أجل مخاصمة بني إسرائيل ومن أجل تجربتهم للرب قائلين: أفي وسطنا الربُّ أم لا؟» (خر 17: 3-7)
والحادثة الثانية: عندما تكررت حادثة تذمُّر الشعب على موسى بسبب الماء مرة أخرى في بريَّة صين (عد 20: 2-13)، وأَمَرَ الرب موسى أن يأخذ العصا ويجمع الجماعة، هو وأخاه هارون، ويُكلِّما الصخرة أمام أعينهم أن تُعطي ماءً، ووعده بأنَّ الصخرة سوف تُخرِج لهم ماءً كما أخرجت من قبل. إلاَّ أنَّ موسى لم يفعل تماماً ما قاله الرب، لأن الشعب «أمرُّوا روحه حتى فرط بشفتيه» (مز 106: 33).
أما ذِكْر موسى لهاتين الحادثتين في نُطقه بالبركة لسبط لاوي، فهي لتذكيرهم بما حدث من بني إسرائيل وكيف أنهم خاصموا موسى وهارون اللذين من سبط لاوي وجرَّبوهما حينذاك. وكيف احتملاهم، وبتشفُّعهما لدى الرب أخرجا لهما ماءً من الصخرة، رغم أنهم «أمرُّوا روحه حتى فرط بشفتيه»، فتسبَّبوا في حرمان موسى وهارون من دخول أرض الموعد. وموسى بذِكره لهاتين الحادثتين يُقدِّم لسبطه قدوته في احتماله للشعب وصلاته من أجلهم.
2. الصفات الواجب أن يتحلَّى بها سبط لاوي ككهنة وخُدَّام الله:
ثم أضاف موسى في بركته لسبط لاوي بعد ذلك قائلاً:
+ «الذي قال عن أبيه وأُمه: لم أَرَهُما، وبإخوته لم يعترف، وأولاده لم يعرف؛ بل حفظوا كلامك، وصانوا عهدك» (33: 9).
هنا يذكر موسى مآثر لسبط لاوي تتمثَّل في حبِّه لله أكثر من الأب والأُم والإخوة والأولاد؛ والعجيب في الأمر أنـه هـو الشرط الذي طلبه الرب يسوع في العهد الجديد لِمَن يريـد أن يتبعه قائلاً: «مَن أحب أباً أو أُمّاً أكثر مني فلا يستحقني. ومَن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني» (مت 10: 37). كما جاء أيضاً في إنجيل لوقا قول الرب للذين حوله من الجموع: «إن كان أحدٌ يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه وأُمه وامرأتـه وأولاده وإخوتـه وأخواتـه، حتى نفسه أيضاً، لا يقدر أن يكون لي تلميذاً» (لو 14: 26).
فقد أظهر البعض من سبط لاوي غيرتهم وولاءهم لله أكثر من أهلهم وآبائهم وأُمهاتهم وإخوتهم. والمقصود بإخوتهم هنا، هم اليهود بوجه عام سواء كانوا من سبطهم أو من الأسباط الأخرى، لأنهم جميعاً أولاد ليعقوب إسرائيل. ومن أمثلة الأعمال التي تمثَّلت فيها غيرة اللاويين لمجد الله واستنكارهم لأعمال إخوتهم:
+ لما أخطأ الشعب خطيته العظمى وعبدوا العجل الذهبي في حوريب بينما كان موسى فوق الجبل في حضرة الله ليتسلَّم لوحَي العهد، طالت إقامته هناك أربعين يوماً «ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قُم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه!» (خر 32: 1). فصنع لهم هارون العجل الذهبي وسجدوا له. ولما نزل موسى من الجبل ورأى ما فعله الشعب حَمِيَ غضبه عليهم، وساند موسى بنو لاوي وأوقعوا من الشعب ثلاثة آلاف رجل (انظر خر 32: 26-29).
+ لما تجرَّأ رجل من سبط شمعون اسمه زمري، وتحدَّى وصايا الرب بتعلُّقه بامرأة مديانية وزنا معها وقدَّمها لإخوته، فاشترك معه الكثيرون في هذه الخطية الشنيعة، فغار فينحاس بن ألعازر بن هارون الكاهن غيرة الرب وقتل زمري والمرأة المديانية؛ فردَّ سخط الرب على بني إسرائيل، وامتنع الوباء عنهم (عد 25: 6-13).
+ كما ارتضى الكهنة واللاويون من سبط لاوي أن يكون الرب هو نصيبهم، ولا يكون لهم ميراث ولا نصيب في أرض الموعد أسوة بإخوتهم، بل أقاموا في المدن التي أعطاهم إيَّاها كل سبط، وقبلوا بفرح أن يكون الرب هو نصيبهم (عد 35: 2؛ تث 10: 9). وكان شعارهم أن يحفظوا كلام الرب ويصونوا عهده.
(يتبع)
(1) انظر: ”شرح سفر التكوين - سفر البدايات“، ص 491-509، لنفس المؤلِّف.