|
|
|
للأب متى المسكين
مقدمة:
نحن اليوم نعيِّد للميلاد؛ ولكن عيدنا، يا أحبائي، ليس ذكرى ولا تذكاراً. نحن اجتمعنا اليوم بصلاة وقدَّاس لنتقابل مع الرب يسوع المسيح شخصياً في بيت لحم. نحن معه على ميعاد، فميلاد الرب حدثٌ كبير حي قائم في حياتنا، لا نقرأه من كتاب كقصة كتبها كاتب الإنجيل؛ بل نحن أمام حدث سمائي، والملائكة شهود لذلك!!
لقد استُعلن الله في ذلك اليوم بما لا يحتمله التاريخ. الميلاد، يا أحبائي، هو التجسُّد، والتجسُّد معناه «الله ظهر في الجسد» (1تي 3: 16)، وظهور الله لا يسعه التاريخ ولا يحتويه. الإنجيل هنا، إذن، لا يقص تاريخ ميلاد الرب يسوع؛ بل يُسجِّل حادثة سماوية وقعت في صميم التاريخ فأنهت عليه بل أكملته، لأنه معروف بيقين في كافة النبوَّات أنَّ ميلاد الرب هو إعلان ملء الزمان!!
لذلك قلت وأقول إنَّ الميلاد تجسُّد، والتجسُّد هو الآن حياتنا، هو إيماننا، هو كل رجائنا الذي نعيشه متجاوزين به كل ضعف الإنسان وكل نقص الزمان وكل قصوره، بل وكل همومه وأتعابه، وكأنها لا شيء. واليوم، وبالروح، نحن حضور معاً في صميم هذا الحدث السماوي - يوم الميلاد - في ملء الزمن في بيت لحم، في استعلان التجسُّد.
لذلك أودُّ لو أنبِّه ذهنكم أكثر، فإن مكاننا في بيت لحم ليس مع الرعاة أو المجوس كمجرَّد شهود ومقدِّمي هدايا، بل ولا كيوسف حارس الميلاد البتولي؛ بل وأجترئ، يا أحبائي، لأقول ولا كالعذراء القديسة الأُم الوالدة. نحن، يا أحبائي، بالنسبة للمسيح المولود أكثر من كل هؤلاء جميعاً، نحن لحمه وعظامه!! وأنا في ذلك لا أتجاوز ما قاله بولس الرسول بالحرف الواحد: «لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» (أف 5: 30).
الآن تدركون معي عمق معنى عيدنا وأهمية اجتماعنا وخطورة موقفنا من بيت لحم والمذود والميلاد والمسيح الطفل.
إذن، لسنا بصدد ذكرى وتذكار وشرح حوادث لقصة ميلاد وتاريخ إنجيلي؛ بل نحن بصدد علاقة حيَّة بمسيح المذود، علاقة جد خطيرة!! علاقة وجود وكيان متبادَل، المسيح مولود فأنا موجود!! فميلاده في ذلك اليوم هو ميلادنا الأبدي، وحياته على الأرض صارت هي بدء حياتنا التي لن تنتهي، حياة الأبد.
أما بيت لحم فلا أُبالغ إذا قلت إنها بالحقيقة مسقط رأسنا، لأن المسيح هو بالفعل رأسنا؛ رأس الكنيسة، بل رأس الخليقة الجديدة كلها، آدم الثاني. فإن كانت جنة عدن قديماً هي مسقط رأس آدم أبينا الأول، فبيت لحم جديرة بأن تكون جنة عدن الجديدة.
يا أحبائي، أعود فأقول إننا إذا لم نأخذ ما يقصه علينا الإنجيل والتاريخ المقدَّس بهذا المأخذ الروحي الحي، فالإنجيل قد كُتب عبثاً والكنيسة تُعيِّد للتاريخ وليس لحياتنا أو لخلاصنا الأبدي. اذكروا ما كتبه الوحي الإلهي لتنبيهنا دائماً أنَّ: «الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي» (2 كو 3: 6).
وهكذا نحن بقيادة الروح وإلهامه، ندخل في عمق الميلاد الإلهي لنكتشف حياتنا ووجودنا وكياننا في المسيح!
فنحن اليوم لا نُعيِّد لميلاد المسيح وحسب، بل نُصلِّي بالروح لنُجدِّد وجودنا في هذا الميلاد - بتوسُّل وتوبة وعبادة بالروح - وحينئذ يصير عيداً حقيقياً لنا تفرح له السماء. وبقدر ما يكشف لنا الروح من أعماق أسرار ميلاد المسيح، بقدر ما تزداد حياتنا وشهادتنا ارتباطاً بحياته مباشرة.
نسب المسيح:
الإنجيل يُقدِّم لنا أنساب المسيح، فالقديس متى يبدأه من ”داود وإبراهيم“: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم» (مت 1: 1)، والقديس لوقا ينتهي بآدم والله: «... بن آدم ابن الله» (لو 3: 38).
فماذا لنا، وماذا لحياتنا من هذه السلسلة المطولة التي تبدو للقارئ وكأنها أمر يختص بيهودية المسيح وبشريته؟
ابن داود:
الإنجيل يُنبِّهنا على فم القديس متى الرسول أول ما يُنبِّهنا إلى أن هذا الطفل المولود هو «ابن داود»، فهو الملك الممسوح أو المسيح الموعود: «أقسم الرب لداود حقّاً ولا يخلف أنَّ من ثمرة بطنك يجلس على كرسيك» (مز 131: 11 - السبعينية)، «والأُمم كلها أُعطيها ميراثاً لك، وسلطانك إلى أقصى الأرض» (مز 2: 8 - السبعينية). هنا أول لقب وأول وظيفة مميِّزة للمسيَّا «ابن داود»، ثم بالتالي أول إشارة لربوبيته، لأن «ابن داود» في المعنى النبوي الكبير هو ”المسيح“ وهو «رب داود»، وهذا ما ألمح إليه المسيح نفسه مشيراً إلى نفسه: «وفيما كان الفرِّيسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح، ابن مَنْ هو؟ قالوا له: ابن داود. فقال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربّاً قائلاً: ”قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك“، فإن كان داود يدعوه ربّاً، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحدٌ أن يجيبه بكلمة» (مت 22: 41-46).
ومعروف تماماً أن الاسم المرادف للمسيح أي ”الممسوح“ في النبوَّات هو ابن داود، وهذا ما كان شائعاً لدى الشعب عامة: «حينئذ أُحضر إليه مجنون أعمى وأخرس فشفاه، حتى إن الأعمى الأخرس تكلَّم وأبصر، فبُهت كل الجموع، وقالوا: ألعلَّ هذا هو ابن داود؟» (مت 12: 22- 23). كذلك لا ننسى هُتاف الأعمى: «يا يسوع ابن داود ارحمني» (لو 18: 38)، أو هُتاف كل الشعب له يوم دخوله الأخير أُورشليم: «أوصنَّا (خلِّصنا) لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنَّا (خلِّصنا) في الأعالي» (مت 21: 9).
وقد خصَّص الوحي الإلهي مزموراً بأكمله (مز 72) لابن داود باعتباره ”ابن الملك“ الذي سوف يسجد له كل الملوك، وكل الأُمم تتعبَّد له، يكون اسمه إلى الدهر قدَّام الشمس، يمتد اسمه ويتباركون به، وكل أُمم الأرض يُطوِّبونه. وهو المزمور الذي أحبَّته الكنيسة في تقليدها وتسبِّح به دائماً في موسم الميلاد.
وهكذا، يا أحبائي، فإنَّ تقديم الإنجيل لميلاد المسيح بصفته ”الملكية“ ”ابن داود“ يفتتح أمامنا أول معنى، بل أول إحساس بـ ”ملكوت الله“ الذي تسلَّمه يسوع، ليشمل كل الأُمم والشعوب: «ملكوت أبدي لا يزول» (دا 6: 26). فنحن بميلاد المسيح ”ابن داود“ صرنا «رعيَّة مع القديسين» (أف 2: 19) في ملكوت الله. وهكذا لقَّب سفر الرؤيا المسيح بـ «ملك القديسين» (رؤ 15: 3). فيوم الميلاد هو لنا بدء استعلان ملكوت الله ودخولنا فيه أو دخوله فينا، كما قال المسيح: «ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21)؛ حيث ربوبية المسيح كملك أبدي على طقس ملكي صادق يكشفها الإنجيل بقصة المجوس الذين عرفوا بالحكمة سر ملوكيته، فجاءوا وسجدوا وقدَّموا له هدايا ملكية.
لذلك يرتبط قول متى الرسول عن المسيح أنه «ابن داود» بقصة المجوس ارتباطاً سريّاً عجيباً. وهذا يؤول في حياتنا بالضرورة إلى اكتشاف هذه العلاقة العالية التي تربطنا بمسيح المذود.
وهل حكمتنا، أيها الأحباء، أقل من حكمة المجوس الذين رأوا في الطفل يسوع ملكاً حقيقياً، دفعهم ولاؤهم له أن يتجشَّموا رحلة الشهور في برد الشتاء، ويقدِّموا هدايا الولاء والحب والتكريم لشخصيته السريَّة السامية؟
ابن إبراهيم:
بميلاد المسيح تدخل الأُمم في بركة إبراهيم ثم في برِّ إيمانه، وتصير بالتالي نسلاً لإبراهيم. هنا امتداد ”لأب الإيمان“ ولبركة الوعد الأول لإبراهيم، حيث جاء ختان المسيح في اليوم الثامن ليوطِّد الصلة بين المولود، أي بيننا، وبين إبراهيم أبي الختان؛ وهكذا وُلِدَ المسيح حسب الوعد لكي لا ينحصر الإيمان وتنحصر البركة في نسل إبراهيم.
فميلاد المسيح إيذانٌ بامتداد البركة إلى كل الأرض: «وفي نسلك تتبارك كل أُمم الأرض» (تك 26: 4؛ راجع: تك 12: 2). وهنا يهمنا أن نوضِّح أن كلمة ”نسل“ لا تفيد المواليد، بل تفيد مولوداً واحداً معيناً ”في بذرة واحدة لك“. وقد أوضح بولس الرسول هذا المعنى: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد. وفي نسلك ejroj الذي هو المسيح» (غل 3: 16).
ويتضح عمل المسيح المسكوني بمقتضى هذا الوعد أكثر في نهاية حياة المسيح على الأرض قبل الصليب مباشرة كما جاءت النبوَّة على فم رئيس الكهنة نفسه: «ولم يَقُل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبَّأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأُمة؛ وليس عن الأُمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد» (يو 11: 52،51). هنا أتصوَّر إبراهيم في شخص المسيح وكأنه يفتح ذراعيه ليجمع كل شعوب الأرض إلى أحضانه!!
وهكذا حينما يقول الإنجيل في كتاب ميلاد يسوع المسيح إنه ”ابن إبراهيم“، فهذا بمثابة إعلان بدء إتمام كل المواعيد التي قيلت لإبراهيم من نحونا، ومن نحو كل إنسان على وجه الأرض. ويأتي بولس الرسول ليُبرهن على صدق تمام الوعد الإلهي في شخص يسوع المسيح بقوله: «والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرِّر الأُمم، سبق فبشَّر إبراهيم أن فيك تتبارك جميع الأُمم. إذاً، الذين من الإيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن ... ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حُر، ليس ذكر وأُنثى؛ لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة» (غل 3: 29،28،8). وهكذا بالإيمان والاتحاد بالمسيح صرتُ أنا وأنت من نسل إبراهيم.
وهكذا يُنبِّه ذهننا القديس متى في أول آية من إنجيله، عند قوله إنَّ المسيح هو «ابن إبراهيم»، إلى نوع الميراث الذي انفتح علينا في كل بركة إبراهيم وفي برِّ إيمانه بواسطة ميلاد المسيح. فالمسيح الوريث الوحيد لإبراهيم الذي جاء حسب الوعد لينقل كل بركة الله لإبراهيم وكل بركة الآباء إلى كل إنسان على وجه الأرض!
فبميلاد المسيح كملت فرحة إبراهيم لنا إذ ورثنا الوعد والعهد والبركة والبر ورضا الله، ودخلنا في صميم خطة خلاص الله منذ البدء. وهكذا فلسنا وحدنا اليوم الذين نفرح بميلاد المسيح؛ بل يكشف لنا المسيح عن شريك آخر لفرحنا بهذا اليوم، هو إبراهيم نفسه: «إبراهيم أبوكم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح» (يو 8: 56). رأى إبراهيم يوم ميلاد المسيح يوم تحقيق وعد الله. رآه فينا ولا يزال يراه في كل مَنْ يؤمن إيمانه ويقبل المسيح الذي يولد فينا كل يوم، أو بالحري نولد فيه، فنمتد حتى نتصل بإبراهيم بالروح والجسد ونصير نسلاً له.
ابن آدم:
وهنا يُكمِل لنا لوقا الإنجيلي العلاقة التي تربطنا بالمسيح في الصميم. هنا يُذكِّرنا الإنجيل بالخطية الأُولى، وعضة الحيَّة المسمومة القاتلة، والوعد الأول لحواء: «وأنتِ تسحقين عقبه» (تك 3: 15).
إذن، فميلاد المسيح ابن آدم المنتظَر جاء كإعلان لانتهاء سلطان الحيَّة وسلطان الخطية!! هذا هو بذرة آدم، الفادي الذي سيسحق رأس الحيَّة، وينقض أوجاع الموت، ويفكُّ أسرى الهاوية.
بآدم دخل الموت إلى كل إنسان، وبالمسيح سيحيا الجميع! لذلك فإن تشديد لوقا الإنجيلي أن نسب المسيح يمتد ليكون «ابن آدم»، ليُذكِّرنا - في يوم ميلاد المسيح - بالموت الذي فينا الذي ورثناه، والمزمع أن يحمله في جسده الآدمي عنا ليحيا به كل إنسان. أما آدم يوم خُلق، فكان نفساً حيَّة، أما «آدم» الثاني فيوم وُلِدَ صار روحاً مُحيياً (1كو 15: 45)، الرب من السماء!!
وهكذا كما لبسنا بميلادنا من آدم الإنسان الأول صورة الترابي، هكذا بتجسُّد المسيح «ابن الإنسان» لبسنا في يوم ميلاده صورة السماوي. لأن في اللحظة التي انحدر فيها ابن الله من السماء وتجسَّد، أي لَبِسَ صورة آدم الترابي، لَبِسَ الإنسان بالتالي صورة السمائي في شخص يسوع المسيح ابن الله.
إذن اليوم، يا أحبائي، هو عيد كل إنسان، عيد كل ابن لآدم، لأن في هذا اليوم لَبِسَ الله بالفعل صورة الإنسان، فكرَّمها كرامة أبدية. لأن صورة آدم التي أفسدها بالخطية وعرَّضها للموت، هذه لبسها المسيح اليوم فأحياها وأعطاها كل بهاء مجد الله وكرامته.
فاليوم عيد مجد البشرية وكرامتها واستعادة حياتها وبهاء صورتها في الله. وقد أُعطِيَ لنا أن نتحوَّل إلى صورة المسيح كما يقول بولس الرسول: «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح» (2كو 3: 18). فمولود بيت لحم هو بالحق صورة بشريتنا الجديدة في البرِّ وقداسة الحق التي ننمو إليها كل يوم.
تقسيم الأنساب:
ولكن الذي يسترعي انتباهنا من سرد القديس متى لأنساب المسيح، أنه يُقدِّمها في ثلاث أحقاب بحسب العصور، كل حقبة مكوَّنة من أربعة عشر جيلاً. ونحن نعتقد أن هذا التقسيم له معنى سرِّي يشرح لنا بعض الغوامض الأخرى.
فالمعروف أن النبوَّات التي كانت تتعرَّض للزمن كانت تقسم السنين إلى أسابيع، مثل نبوَّة دانيال، فكانت السنون تُحسب بأسابيع سنين. هنا يلجأ القديس متى الرسول إلى تقسيم الأجيال إلى أسابيع أجيال، حيث كل حقبة عبارة عن أسبوعين من الأجيال، أي أربعة عشر جيلاً. فإذا جمعنا الأجيال في الأحقاب الثلاثة نجدها ستة أجيال، وهذه مماثلة تطبيقية بأسلوب سرِّي، لعدد أيام أو أحقاب الخليقة، حيث نعرف أنها تمَّت في ستة أيام والسابع كان سبتاً للراحة.
وهكذا اعتبر متى الرسول أن التاريخ البشري من إبراهيم إلى المسيح، وهو الزمن المدموغ بالوعد وبتدخُّل عمل الله المباشر لتحقيق وعده، هو أيضاً ستة أجيال من إبراهيم حتى المسيح. وبعد المسيح، أو من المسيح فصاعداً يبدأ الجيل الأخير وهو جيل المسيح، جيل السبت الأبدي الذي سيبقى بانتظار الدهر الآتي!
وهذا الأسلوب السرِّي في فَهم الأجيال والأزمان الإلهية يشرح لنا بالتالي سرَّ قول الرب عن مواصفات الأيام الأخيرة وقُرْب مجيئه الثاني بقوله: «الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كلُّه» (مت 24: 34).
ابن الله:
هكذا يتدرَّج معنا إنجيل متى ثم إنجيل لوقا في إعطائنا صورة كاملة للمسيح يوم ميلاده أو في كتاب ميلاده، فهو يُعلن المسيح أولاً كابن داود، ثم ابن إبراهيم، ثم ابن آدم، ثم ابن الله.
أما الكشف عن سرِّ بنوَّة المسيح لله، فهذا يُعلنه بولس الرسول بكلمات واضحة قاطعة في رسالته إلى العبرانيين هكذا: «الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه» (عب 1: 1).
أما إعلان المسيح أنه ابن داود وابن إبراهيم وابن آدم، فهذا كله يكشف عن مدى قرابة المسيح إلينا بل بالحري مدى قرابتنا بالمسيح، كما سبق وقلت، فنحن لحم من لحمه وعظم من عظامه!!
أما الإعلان عن أنه أيضاً «ابن الله» فهذا في الحال يقلب معنى الميلاد من مفهوم الميلاد الطبيعي للإنسان الطبيعي إلى معنى فائق للطبيعة. فهذا ”ابن الله“ يتأنَّس. هنا تنكشف بنوَّة أزلية للمسيح سابقة للبنوَّة الزمانية الحادثة في التاريخ. هنا الميلاد من العذراء ومن الروح القدس، تنكشف أبعاده السابقة في الأزلية، فالميلاد البتولي الإعجازي هو في الحقيقة مدخل لسرِّ الله الأعظم!!
إذن، فنحن في بيت لحم أمـام حدث إلهي في صورة حدث زمني: «الله ظهر في الجسد» (1تي 3: 16)، التحام مذهل بين ما هو أزلي وما هو زمني، اتحاد فائق للعقل والوصف بين طبيعة الله غير المحدودة وغير المدرَكة وبين طبيعة الإنسان المحدودة والمدرَكة. ونتيجة هذا الالتحام المذهل، هو ميلاد ابن الله في صورة ابن الإنسان!
فالتجسُّد الذي تمَّ بميلاد المسيح هو تقابُل علني بين الله والإنسان في شخص المسيح.
أما إيمان الكنيسة بأنَّ طبيعة المسيح المولود في بيت لحم هي ”طبيعة واحدة للكلمة - ابن الله - المتجسِّد“، فهو إيمان يضعنا الآن وفي هذا اليوم أمام حقيقة ثابتة، وهي: إن الله قد تواجَه معنا في شخص المسيح تواجُهاً كلِّياً وكاملاً.
الله أنهى كل نشاز في طبيعة الإنسان عندما وحَّدها بطبيعته الإلهية في المسيح دون أن يلغيها. الصعوبة في هذه العقيدة ليست راجعة إلى منطق لاهوتي، بل الصعوبة الحقيقية فيها تعود إلى كونها دعوة حرجة للبشرية إلى التواجُه مع الله في شخص المسيح تواجُهاً كاملاً وكليّاً، بالرغم مما هي عليه من ضعف وخطية ونجاسة. كيف ندخل دخولاً فعلياً إلى دائرة هذا الاتحاد الكامل الذي وحَّد بين الطبيعتين الإلهية والبشرية في المسيح؟
الصعوبة والحرج والمشكلة العُظمى هنا هي الإيمان من جهتنا، كيف نؤمن بأن كل عجزنا وكل خطيتنا وكل نجاساتنا يستطيع أن يحملها المسيح في كيانه فيُلاشيها في الحال، ولكن أليس هذا بالتالي هو سر التجسُّد، بل هدفه، بل عظمته الفائقة بكل حب الله المتركِّز فيه تركيزاً يفوق كل ما يتصوَّره الإنسان؟
فابن الله لم يدخل عالمنا لزيارة قصيرة أو طويلة لمواساة الإنسان أو تهذيبه ورفع معنوياته؛ بل إنه دخل دخولاً لا خروج منه. لقد تجسَّد، أي لَبِسَ جسد الإنسان، ولن يخلعه عنه إلى الأبد. ولقد حمل بعد ذلك على الصليب وفي جسده هذا كل ضعفات الإنسان وخطاياه بلا استثناء، ومات بها، ليرفع سلطانها عنا ويرفعنا فوق سلطانها. لقد حمل المسيح في جسده كل ”الإنسان“ بأسره، بكل ما له وما عليه، وصالحه مع الله أبيه.
إذن، نحن في الميلاد أمام مبادرة إلهية مذهلة في سخائها، مضمونها إعلان عن شركة تمَّت مع الإنسان بلا تحفُّظ تبدأ من الصفر، لا يعود بمقتضاها الطرف الأضعف مسئولاً عن ضعفه، ويتعهَّد فيها الطرف الأقوى بخلاص مجاني بلا شروط!!
هذا هو معنى التجسُّد وامتداده فينا، وهذه هي حقيقة الميلاد في بيت لحم!!
كلمة في الختام:
وإن كانت حقيقة التجسُّد أو الميلاد ظلَّت مئات السنين بهذا القدر من الأهمية والفعالية كما بشَّر الملاك الرعاة: «فها أنا أُبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب» (لو 2: 11،10)؛ إلا أنَّ هذه الحقيقة الإيمانية، للأسف الشديد، بدأ يتقلَّص فعلها ونورها في العالم الآن لازدياد الخطية وبرودة المحبة الأخوية الصادقة بين الناس. فبَدَت الحياة مع الله والقُرْب منه عسيرة كل العُسْر بعد أن كان الاتحاد به على مستوى المسيح حقيقة مُفرحة. لذلك لم يتبقَّ أمام العالم إلاَّ بقية من تحقيق وعد الله بظهور المسيح مرَّة أخرى بجسده الإلهي الذي أنكره عليه إنسان القرن العشرين، حيث سيكون ظهوره بمجدٍ عظيم، وحينئذ ترتفع حقيقة تجسُّده من الإيمان إلى العيان، ويرى مجده كل بشر.
(يناير 1974)
تهنئة بعيد الميلاد المجيد لعام 2014م
تتقدَّم أسرة تحرير مجلة مرقس بخالص التهنئة إلى
صاحب القداسة البابا أنبا تواضروس الثاني
بمناسبة حلول عيد ميلاد مخلِّصنا الصالح
وندعو إلهنا الصالح أن يُديم رئاسته للكنيسة سنين عديدة وأزمنة سلامية مديدة
كما نتقدَّم بالتهنئة إلى أصحاب النيافة آبائنا المطارنة والأساقفة الأجلاَّء
وجميع الإكليروس وشعب الكنيسة المقدسة في بلادنا العزيزة وكل بلاد المهجر