تأملات عابرة |
|
|
لا يجب أن ننسى قوة الصلاة أو نتغافل عن قدرة الصلاة على فعل المستحيل في نظرنا أو نظر الغير. ويقول القديس يعقوب الرسول في رسالته: «صلُّوا بعضُكم لأجل بعض، لكي تُشْفَوْا. طِلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها. كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا، وصلَّى صلاةً أنْ لا تُمطِر، فلم تُمطِر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلَّى أيضاً، فأعطت السماء مطراً، وأخرجت الأرض ثمرها» (يع 5: 16-18). إنَّ الله يسمع الصلاة، ويستجيب الصلاة، ويتحرَّك استجابةً للصلاة.
+ والإيمان بقدرة الله على استجابة الصلاة هي العامل الفعَّال في استجابة الصلاة. المسيح علَّم بهذا: «... الحقَّ أقول لكم: لو كان لكم إيمانٌ مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيءٌ غير ممكن لديكم» (مت 17: 20)، وكان هذا ردّاً على سؤال التلاميذ له: ”لماذا لم نقدر نحن أن نُخرج الشيطان من الغلام“؟ لكن المسيح أَتْبَعَ كلامه لتلاميذه: «وأما هذا الجنس فلا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم» (عدد 21).
ومن هذا نفهم أنَّ الإيمان باستجابة الله للصلاة يجب أن يقترن بحياة مسيحية نسكية حقيقية، مفعمة بالصلاة والصوم الدائمين، وليس كما يظن البعض، في المواسم فقط!
+ لذلك نجد في اختبارات الآباء القديسين نموذجاً عملياً في هذا. فقد حدث مرةً أن أتوا بإنسان إلى الكنيسة، وكان قد اعتراه روح نجس، وصلَّى عليه الآباء فلم يخرج! (كما حدث مع تلاميذ المسيح). فقال الكهنة: ما الذي نعمله بهذا الجنس، لأنه لم يستطع أحدٌ منا أن يُخرجه إلاَّ أنبا سيرابيون؟ ولكن إنْ نحن أعلمناه وسألناه، امتنع عن المجيء إلى الكنيسة (ولا يأتي مثل كثيرين الآن مسرعاً)! إذن، فلنجعل هذا الرجل المُعذَّب راقداً في الموضع الذي يقف فيه أنبا سيرابيون في الكنيسة وقت الصلاة. فعند دخوله نقول له: يا أنبا سيرابيون، أيقظ هذا الرجل الراقد في الكنيسة. ففعلوا كذلك. ولما دخل الشيخ، ووقفوا جميعاً للصلاة، قالوا له: أيها الشيخ، أيقِظ هذا الرجل الراقد. فقال له: ”قُمْ“. وللوقت نهض الرجل مُعافَى بكلمة الشيخ. فحياة هذا القديس هي صلاة في حدِّ ذاتها.
لا نريد أن نشرح كثيراً، فبكلمة واحدة، بلا ”شخط“ أو ”صراخ“، ولا ضغط مادي جسدي أو نفسي على رأس المريض كما يحدث من كثيرين الآن، قام المريض مُعافَى. كان القديس سيرابيون رجل صلاة، أي حياته كلها كانت صلاة، وكان ناسكاً متجرِّداً إلى درجة أنه باع ثوبه الوحيد وإنجيله لكي يسدَّ ديون المديونين. وهنا نأتي إلى معنىً آخر للإيمان، وهو ”الرحمة“ وبيع كل ما يمتلك الإنسان ليُنقذ المحتاجين والسقماء والفقراء والمُعدمين. وهذا معنى آخر للإيمان.
+ فالإيمان ليس مجرد ثقة، بل حياة صلاة دائمة ونُسك دائم وتجرُّد واستعداد لبيع كل شيء من أجل المحتاجين إلى الرحمة.
+ وهذا النموذج يقودنا إلى نموذج آخر من حياة الصلاة والنسك والتجرُّد. فقد قيل عن شيخ إنه كان كثير الرحمة. فحدث غلاء عظيم، لكنه لم يتحوَّل عن فعل الرحمة، حتى نفد كل شيء عنده، ولم يبقَ له سوى ثلاث خبزات. فحين أراد أن يأكل، أحب الله امتحانه، وذلك بأن قرع سائل بابه. فقال لنفسه: ”جيد لي أن أكون جائعاً، ولا أردَّ أخ المسيح خائباً في هذا الغلاء العظيم“. فأخرج خبزتين للسائل، وأبقى لنفسه خبزة واحدة. وقام وصلَّى وجلس ليأكل، وإذا بسائل آخر قد قرع الباب، فضايقته الأفكار من أجل الجوع الذي كان يُكابده داخله، ولكنه قفز بشهامة، وأخذ الخبزة وأعطاها للسائل قائلاً لنفسه: ”أنا أومِن بالمسيح ربي، أني إذا أطعمتُ عَبْدَه في مثل هذا الوقت الصعب، فإنه يُطعمني هو من خيراته التي لم تَرَها عين، والتي أعدَّها لصانعي إرادته“. ورقد جائعاً. وبَقِيَ هكذا 3 أيام لم يَذُق شيئاً وهو يشكر الله. وبينما كان يؤدِّي صلوات خدمة نصف الليل، جاءه صوتٌ من السماء يقول له: ”لأجل أنك أكملتَ وصيتي، وغَفَلْتَ عن نفسك، وأطعمتَ أخاك الجوعان، لا يكون في أيامك غلاء على الأرض“. فمجَّد الله، وشكر الرب يسوع المسيح، ومن ذلك اليوم عمَّ الرخاء على الأرض كلها. أليس عمل الرحمة هو في حدِّ ذاته صلاة إذا كان بهذه الصورة الرائعة؟!
+ هذا هو المقصود بالإيمان، حياة الإيمان، وليس استخدام الإيمان لتحقيق استجابة خاصة من الله؛ بل الإيمان بأنَّ الله هو الذي يعولنا ويعول كل البشر، وهو ضابط الكل: كل إنسان، وكل الأحداث، وكل الأمور. وأما برهان هذا الإيمان فهو حياة التجرُّد وعمل الرحمة بلا حساب.
+ لذلك يوصي القديس بولس الرسول: «مُصلِّين بكل صلاة وطلبة، كل وقت، في الروح، وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين» (أف 6: 18).
قوة الصلاة ليست نتيجة الشخص الذي يُصلِّي:
قوة الصلاة ليست نتيجة الشخص الذي يُصلِّي؛ بل إنَّ القوة كامنة في الله الذي نُصلِّي إليه. ويشرح هذا الرسول يوحنا: «وهذه هي الثقة التي لنا عنده: أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا. وإن كُنَّا نعرف أنه يستجيب لنا في كل ما نطلبه منه، فنحن نعرف (أيضاً) أننا ننال كل ما نطلبه منه» (1يو 5: 15،14 - عن الترجمة العربية الحديثة).
+ إنَّ الله يستجيب لنا في الطلبات التي هي متفقة مع مشيئته، ولكن قد تكون استجابته ليست دائماً ”نعم“؛ بل دائماً بحسب مشيئته الصالحة لنا وللجميع، ولخيرنا ولخير الجميع. وحينما تتحقَّق مشيئة الله فيما نطلبه، سنفهم كيف أنه يستجيب في الوقت المناسب، ولخيرنا، ولخير الجميع.
+ ويقول المسيح للذين يظنون أنه بكثرة كلامهم، أو بتنميق كلامهم، أو بأي استعراض خارجي للألفاظ، أو بكثرتها أو بتكرارها، يستجيب الله؛ قال المسيح: «لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه» (مت 6: 8).
+ فإذا كان المسيح يقول لنا هذا: «أن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه»، فلماذا يوصينا في موضع آخر: «... أنه ينبغي أن يُصلَّى كلَّ حين ولا يُمَلَّ» (لو 18: 1)؟
نعود إلى حياة الإيمان. فالإيمان في الصلاة لا يعني أننا نصلِّي لنطلب من الله حتى الأمور الدنيوية، وكأن الله عليه أن يستجيبها كلها. لكن الإيمان هو حياة الإيمان التي تصبغ شخص المؤمن المُصلِّي. ومرة حدَّد المسيح الطِّلْبة العزيزة جداً على قلبه والتي يريد من كل مؤمن أن يطلبها فيُستجاب له فوراً؛ بل وتكون استجابته بسخاء: «فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تُعْطُوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء، يُعطي الروح القدس للذين يسألونه» (لو 11: 13).
ولماذا الروح القدس؟ لأن الروح القدس هو الذي يصنع الشركة بيننا وبين الله، وهو الذي يُحقِّق حضورالمسيح داخلنا، والذي سيكون شفيعنا بعد انتقالنا أمام الآب، وبالروح القدس سيتعرَّف الله علينا لأن فينا صورة ابنه. أليس عجيباً أن يُخصِّص البشير يوحنا أصحاحاً كاملاً من إنجيله، وهو الأصحاح الـ 17، ليُسجِّل صلاة المسيح الشفاعية عنَّا؟
وهذه هي طلبات المسيح من الآب من أجلنا: «ليكونوا واحداً كما نحن»، «ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، «وأنا قد أعطيتُهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد»، «أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد»، «أيها الآب، أُريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني»، «وعرَّفتُهم اسمك وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم». صلاة المسيح كانت كلها من أجل شركة المؤمنين معه.
+ فإذا كانت هذه هي الطلبات التي يطلبها المسيح من الآب من أجلنا، فكيف تكون طلباتنا نحن التي نطلبها من الله في اسم المسيح، ليُعطيها لنا؟ وأيُّ إيمان يجب أن يكون لنا حينما نطلب من الله طلباتنا هذه إلاَّ بالإيمان بأن يكون المسيح فينا رجاء المجد (كو 1: 27)؟ لذلك يجب أن تكون لنا صلواتنا من أجل أن نمتحن دائماً أنفسنا: «جرِّبوا أنفسكم، هل أنتم في الإيمان؟ امتحنوا أنفسكم. أم لستم تعرفون أنفسكم، أنَّ يسوع المسيح هو فيكم؟» (2كو 13: 5)
+ ومن هنا لابد، ولا محالة، تأتي قوة الصلاة، تأتي من ثقتنا أننا حينما نقف للصلاة لله، نكون في حالة شركة مع الله بتوسُّط المسيح الذي فينا. وهذا هو قصد الله من دعوتنا للصلاة: ليس بأن نطلب من الله ”عطايا جيدة“ مثلما يطلب الأبناء من آبائهم العطايا الجيدة؛ بل بأن نطلب أولاً ”الروح القدس“ و”ملكوت الله“، أي سيادة الله على حياتنا: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه»؛ أما ”العطايا الجيدة“ التي يطلبها الأبناء من آبائهم الجسديين «فهذه كلها تُزاد لكم» (مت 6: 33).
+ هذه هي قوة الصلاة: الشركة مع الله بتوسُّط المسيح، والرحمة على المحتاجين من كل نوع. وقد صارت الرحمة على المساكين والمحتاجين هي واسطة أخرى للشركة مع المسيح، إذ أنه اعتبر هؤلاء أنهم هو نفسه: «الحقَّ أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم» (مت 25: 40). أما الآخرون الذين لم يصنعوا الرحمة، فأجابهم قائلاً: «الحقَّ أقول لكم: بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا» (مت 25: 45).
+ أما التصريح الإلهي الخطير بالنسبة للفئة الأخيرة، فيقول عنها سفر الأمثال: «مَن يسدُّ أُذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضاً يصرخ ولا يُستجاب له» (أم 21: 13).
قوة الصلاة،
عن أي نوع من الطلبات نُصلِّي:
إن معونة الله من خلال قوة الصلاة متاحة لكل نوع من أنواع الطلبات والموضوعات. فيوصينا القديس بولس في رسالته إلى أهل فيليبِّي: «لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعْلَم طلباتكم لدى الله» (في 4: 6).
+ وقد قدَّم المسيح نموذجاً لتلاميذه للصلاة، حينما سألوه: «يـا رب، علِّمنا أن نُصلِّي». فسَرَدَ لهم الصلاة الربانية (لو 11: 1-4؛ مت 6: 9-13). وهذه الصلاة على صغرها تُمثِّل كل ما يريد الإنسان أن يُصلِّي به إلى الله، من تقديس لاسم الله، وطلب ملكوته الأبدي، وطلب مشيئة الله، وسؤال الخبز اليومي من الله بما يكفي أَوَد المؤمن في يومه، ثم طلب المغفرة عن الخطايا، والتوسُّل بالحماية من التجارب ومن الشرير. وهي صالحة لكل أنواع المؤمنين وقيمتها تُستَمَد من أن المسيح هو الذي علَّمها لنا. لكنها مع ذلك ليست كافية، بل يجب على المؤمن أن يبثَّ الله بكل ما يعتمل في قلبه من مشاعر نحوه باعتباره أباه السماوي، وبما يريد أن يطلبه، وما يريد أن يعترف به لله عن خطاياه وهفواته، وما يريد أن يُعطيه له من مجد وكرامة وتقديس باعتباره راعي حياته وحافظ عهده معه. فالصلاة بالكلمات المُسمَّاة ”المُرَكَّبة“، ما يُسمِّيها البعض الصلاة ”الارتجالية“، هي مطلب روحي لكل مؤمن، وقد أوصى بها كل القديسين مُعلِّمي الحياة الروحية، من أجل أن تتحقَّق بها شركة الإنسان مع الله في كل وقت.
إن كلمة الله مليئة بالأمثلة عن قوة الصلاة في كافة المجالات. وصلوات قدِّيسي العهد القديم ورُسُل العهد الجديد مُسجَّلة، وكلها تنطق بما تبثُّه النفس من مشاعر وطلبات إلى الله.
صلاة الشفاعة، معناها وشروطها:
صلاة الشفاعة هي صلاة - ليس عن الآخرين - بل هي صلاة أعضاء جسد المسيح بعضهم من أجل بعض: «صلُّوا بعضكم لأجل بعض» (يع 5: 16). إنها صلاة الكنيسة وهي حول ذبيحة المسيح، وذبيحة المسيح في وسطها. ولا يمكن أن تكون صلاة من أجل الآخرين بدون ذبيحة. والمسيح هو الذبيحة الشفيع، إذ قدَّم ذاته من أجل الجميع: «الآن قد أُظهِرَ مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه» (عب 9: 26).
فالكنيسة وهي مجتمعة ومتَّحدة معاً ومع ذبيحة المسيح كفءٌ لأن تتشفَّع من أجل الجميع. لذلك تُصلِّي من أجل المؤمنين والرئاسات والسلطات والزروع والأهوية والثمار والكنيسة كلها. وكل الكنيسة ترفع صوتها بكلمة ”آمين“ أو ”يا رب ارحم“ بعد كل صلاة من أجل ما تتشفَّع به من أجل الآخرين.
+ وقد وضع الله في الكنيسة رتبة الرهبان ليتفرَّغوا من أجل الصلاة عن الكنيسة والعالم أجمع، بمقتضى ذبيحة حياتهم التي قدَّموها ويُقدِّمونها للمسيح كل يوم؛ فصارت ذبيحة نفوسهم وأجسادهم وتقدمة تَرْك كل شيء من أجل تبعية المسيح، متَّحدة مع ذبيحة المسيح.
+ وكل مؤمن يمكنه – إذا حثَّه الروح القدس - أن يطلب من أجل الآخرين، وليس من أجل نفسه فقط. وقد طلب القديس بولس من المؤمنين أن يصلُّوا بعضهم لأجل بعض.
+ إنَّ الصلاة من أجل الآخرين لها قدرٌ عظيم أمام الله الذي يفحص القلب ويعرف مكنوناته من جهة بذل الإنسان ذاته من أجل الآخرين، القريبين والبعيدين.
+ وشفاعة الكنيسة على الأرض تتحد مع شفاعة كنيسة السماء، حيث يُصلِّي القديسون والقديسات الذين واللواتي انتقلوا قبلنا، وعلى رأسهم تقف القديسة العذراء مريم والدة الإله والقديس يوحنا المعمدان في مقدِّمة المتشفِّعين في السماء عن البشر، حيث يُقال عنهم ”بشفاعة“ (في أول لحن ”الهيتينيات“)؛ ثم يتبعهما الرسل وكافة القديسين حيث يُقال: ”بصلوات“. وكل هؤلاء وغيرهم في السماء وعلى الأرض يتشفَّعون ويُصلُّون من أجل الكنيسة والعالم، متَّحدين مع ذبيحة المسيح الشفيع الأوحد عن البشر جميعاً.
****************************************************************
دير القديس أنبا مقار
بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:
21.130.153
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر - فرع النيل هيلتون
****************************************************************