من أقوال الآباء


ميلاد مخلِّصنا بالجسد للقديس كيرلس الكبير عمود الدين

أودُّ أن أبدأ حديثي معكم بالمكتوب في سفر المزامير: «هلموا نُسبِّح الرب، ونُهلِّل لإله خلاصنا» (مز 95: 1)، لأنه رأس عيدنا اليوم. لذلك فلنُخبِّر بأعماله الكريمة، ونتغنَّى بفضل هذا التدبير الإلهي العجيب الذي أُتقِنَ بروعة، والذي به خلَّص الله العالم. وهو إذ وضع على كلِّ واحد منَّا نير ملكوته، فهذا يدعو للإعجاب حقّاً، الأمر الذي حدا بداود المبارك أن يقول: «يا جميع الأُمم صفِّقوا بالأيادي»، ويُضيف أيضاً: «رنِّموا بفهم، لأن الله قد مَلَك على كل الأُمم» (مز 147: 7).
إعلان سرِّ ظهور الله في الجسد:

فهذا السر المقدَّس الذي أُجري بحكمة إنما يليق جداً بالمسيح، لأنَّ الرب مع كونه إلهاً تراءى لنا، ومع كونه في صورة الله الآب وذا تفوُّق شامل بما لا يُقارَن قد أَخَذَ شكل عبدٍ؛ لكنه ظلَّ إلهاً وربّاً، ولم يتوقَّف عن أن يكون على ما كان عليه (قبل التجسُّد). وقد سبق الأنبياء القدِّيسون وأعلنوا عن ميلاده في الجسد، وأَخْذِه لشَبَهنا المزمع أن يكون في الوقت المُعيَّن.

والآن، إذ تحقَّق هذا الرجاء، فإنَّ القوات الناطقة التي في السماء قد أتت الآن تحمل الأخبار المُفرحة لاستعلانه وظهوره في العالم، أولاً لرعاة بيت لحم، الذين كانوا بمجيئهم أولاً باكورة مَن قبلوا معرفة السرِّ الإلهي. فالمثال هنا يُطابق الحقيقة، لأنَّ المسيح إنما يُعلِن نفسه للرعاة الروحيين حتى يُبشِّروا هم به للباقين، تماماً كما أُعْلِمَ الرعاة بالسرِّ بواسطة الملائكة القديسين وهرعوا ليحملوا الأنباء المُفرحة لرفقائهم. فالملائكة هم أول مَن بشَّروا به وأعلنوا مجده كإله مولود في الجسد من امرأة بسرٍّ عجيب.

المولود الإلهي تُمجِّده القوات السمائية:

ولكن رُبَّ معترض يقول: ”هذا المولود الآن الذي ما يزال بعد طفلاً ملفوفاً بأقمطة ومُضجعاً في مذود، كيف يسوغ أن تُمجِّده القوات العلوية كإله؟“. ولكننا نردُّ على مثل ذلك ببرهان راسخ قائلين: تفهَّم يا إنسان عُمْق السر! الله أَخَذَ شبهنا تماماً في صورة مرئية. ربُّ الكل اتَّخذ صورة عبد، إلاَّ أنَّ مجد الربوبية ظلَّ مُلازماً له بغير انفصال.

1. لأنه رفع الشقاء عن الجنس البشري:

افْهَمْ أنَّ الابن الوحيد قد صار جسداً، وأنه قَبِلَ أن يُولَد من امرأة من أجلنا، ليرفع الشقاء الذي حُكِمَ به على المرأة الأولى، لأنه قيل لها «بالأوجاع ستلدين البنين»، لأنها كانت تلد للموت، إذ قد ابتُلي الناس جميعهم بلدغة الموت. ولكن لأنَّ امرأة وَلَدتْ في الجسد عمانوئيل، الذي هو الحياة؛ إذن، فقد انحلَّت قوة اللعنة، وزال سلطان الموت، وخفَّت الآلام التي كان على الأُمهات في الأرض أن تُقاسينَها في ولادتهن (خوفاً من رُعبة الموت، ولأنه لم يكن لهُنَّ رجاء في حياة أبدية).

2. لأنه رفع سلطان الخطية عن الجسد:

أتودُّ أن تعرف شيئاً أكثر بخصوص هذا الأمر؟ اذْكُر ما كتبه الرسول بولس العميق الحكمة (عن التجسُّد الإلهي): «لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه، في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شِبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دَانَ الخطية في الجسد، لكي يتمَّ حُكْم الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح» (رو 8: 4،3).

فما هو، إذن، معنى قوله إنَّ الابن قد أُرْسِلَ ”في شِبه الجسد الخاطئ“؟ إنَّ ناموس الخطية مستترٌ في أعضائنا الجسدية، مع التحرُّك المُخجل لشهواتنا الطبيعية. ولكن عندما صار كلمة الله جسداً، أي إنساناً، واتَّخذ صورتنا، كان جسده مُقدَّساً وكامل الطهارة. فهو، في الواقع، كان في شِبه جسدنا الطبيعي، ولكن ليس على شاكلته في ميوله المُنحطَّة؛ لأنه كان مُتحرراً كلِّيةً من العيوب والانفعالات الجسدية الخاطئة، ومن كل انحراف يقود إلى تعدِّي الناموس.

إذن، فعندما ترى الطفل (الإلهي) ملفوفاً في أقماط، لا تَدَعْ فكرك يتوقَّف عند مَوْلِدِه في الجسد وكفى؛ بل ارتفع إلى التأمُّل في مجده الإلهي. تَسَامَ بفكرك طائراً به وصاعداً إلى السماء، وهناك ستراه في سموِّ عظمته ملتحفاً بمجدٍ فائق، ستراه «جالساً على عرشٍ عالٍ ومرتفع» (إش 6: 1)، وستسمع السيرافيم يُمجِّدونه بتسابيح قائلين: ”السماء والأرض مملوءتان من مجده“.

مجد الله أشرق على الرعاة:

نعم، حتى هنا على الأرض قد جَرَى هذا، لأنَّ مجد الله قد أشرق على الرعاة، وكان جمهور من الجُند السمائي يُنشد بمجد المسيح. وهذا ما قد أُعلِنَ قديماً بصوت موسى (النبي): «افرحي أيتها السموات معه، وليسجد له كل ملائكة الله» (تث 32: 43 - حسب السبعينية). فكثيرون جداً من الأنبياء القدِّيسين كانوا يُولدون من حينٍ لآخر، إلاَّ أنه ولا واحد منهم قد تمجَّد هكذا بصوت ملائكة، لأنهم كانوا بشراً تحت الآلام مثلنا، ولم يزيدوا عن كونهم عبيداً أُمناء لله وحاملين لرسالة أقواله. وأمَّا المسيح فلم يكن كذلك، لأنه هو إلهٌ وربٌّ، وهو مُرْسِل الأنبياء القدِّيسين. وكما يقول المُرنِّم: «لأنه مَن في السماء يُعادِل الرب، ومَن يُشبه الرب بين أبناء الله» (مز 89: 6).

لأنَّ نعمة البنوَّة وإن كانت تُمنَح لنا بواسطته نحن الرازحين تحت النير والذين بالطبيعة عبيد؛ لكن المسيح يحمل حقيقة البنوَّة، أي إنه ابن الله الآب بالطبيعة، حتى عندما صار جسداً (أي إنساناً)، لأنه ظلَّ - كما قلتُ سابقاً - على ما كان عليه دائماً بالرغم من كونه قد اتَّخذ لنفسه ما لم يكن عليه من قبل.

الربُّ عرف الخير فقط:

يؤكِّد حقيقة هذا القول، ما يُعلنه لنا إشعياء النبي بقوله: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وسيدعون اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل. قبل أن يعرف أو يختار الشر، سيُفضِّل الخير. لأنه قبل أن يُميِّز الطفل الخير أو الشر، لن يكون مُذعناً للشر فيما هو يختار الخير» (إش 7: 15،14 - مترجمة من النص).

أليس بديهياً للكلِّ أنَّ الطفل الرضيع، بسبب حداثته وغضاضته، لا يقدر أن يفهم أي شيء، وغير كفءٍ أبداً للتمييز بين الخير والشر؟ لأنه لا يعرف شيئاً مُطلقاً. لكن الأمر مع المسيح مُخلِّصنا كان مختلفاً. فقد كانت المعجزة فائقة للغاية: لأنه أكل - وهو لم يَزَل بعد طفلاً رضيعاً - زبداً وعسلاً(1)؛ ولأنه كان إلهاً وصار جسداً (أي إنساناً) بكيفية تفوق الوصف، فقد عرف فقط الخير (الصلاح)؛ وكان معصوماً عن ذلك الفساد الذي يُنسَب للإنسان، وهذه أيضاً صفة مُميَّزة للجوهر الإلهي؛ لأنَّ ما هو خيِّر بالطبيعة، وما هو ثابت بغير تغيير، فهذا يختص به الله وحده: «لأنه ليس أحدٌ صالحاً إلاَّ واحدٌ وهو الله»، كما قال المُخلِّص نفسه (مت 19: 17).

في ميلاده انكسر طغيان الشيطان:

أتريد أن ترى مَزِيَّة فائقة أخرى للطفل (الإلهي)؟ أتريد أن تعرف؟ إنه إله بالطبيعة ذاك المولود بالجسد من امرأة!

تمعَّن فيما يقوله إشعياء النبي عنه: «فاقتربتُ إلى النبيَّة، فحَبِلَت وولدَت ابناً، فقال لي الرب: ادْعُ اسمَهُ: ”عجِّل بالغنيمة وأسرع السَّلْب“(2). لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أُمي سيأخذ قوة دمشق» (إش 8: 4،3 - بحسب السبعينية). لأنه في وقت ميلاد المسيح قد سُلِبَت (أو عَطِبَت) قوة إبليس، الذي كان في دمشق موضوعاً للعبادة الدينية، وله فيها أتباع كثيرون. ولكن عندما وَلَدَت القديسة العذراء المسيحَ، انكسر سلطان طغيان الشيطان، لأنَّ عُبَّاد الأوثان قد أقبلوا إلى معرفة الحق، وكان أوائل باكوراتهم وروَّادهم هم المجوس، الذين جاءوا من المشرق إلى أُورشليم، هؤلاء الذين كانت السماء مُرشدهم والنجم رائدهم.

في المولود الإلهي تصالحنا مع الله:

فإذن، لا تنظر إلى المُضْجَع في المذود كمجرد طفل رضيع، ولكن تطلَّع إليه متأمِّلاً في افتقاره لأجلنا وهو الإله الغَني؛ وفي اتِّخاذه حدود بشريتنا المحدودة ذاك الذي يفوق سموّاً كل ساكني السماء بلا قياس، والذي تُمجِّده سائر الملائكة الأطهار!

ما أعظمها ترنيمة تلك التي أنشدها جُند السماء: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام بين الناس ذوي المشيئة الصالحة» (لو 2: 14 – ترجمة دقيقة للنص الأصلي اليوناني)، لأنَّ الملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والربوبيات، وعلى رأسهم السيرافيم وهم يحفظون رتبتهم غير حائدين عنها، هم في سلام الله، لأنهم لا يتعدُّون قط - على أيِّ وجه - مسرَّته الصالحة؛ بل إنهم يُقيمون راسخين في البر والقداسة.

أما نحن، الكائنات البائسة، فبسماحنا لشهواتنا الخاصة أن تكون في تضادٍ مع إرادة ربنا، فإننا نضع أنفسنا في موقف العداوة معه. لكنَّ المسيح مُخلِّصنا قد ألغى هذا، لأنه هو سلامُنا، وقد وحَّدنا بنفسه مع الآب، رافعاً من الوسط علَّة العداوة، أي الخطيئة. وهكذا إذ يُبرِّرنا بالإيمان، يجعلنا قدِّيسين وبلا لوم، ويجذب إليه أولئك الذين كانوا بعيدين.

المسيح وحَّد البشرية كلها فيه:

ثم بجانب هذا، جعل المسيح مِن كِلاَ الشعبَيْن (اليهود والأُمم) إنساناً واحداً جديداً، صانعاً هكذا سلاماً، ومُصالِحاً الاثنين في جسدٍ واحد مع الآب (أف 2: 14-16).

لقد سُرَّ الله الآب أن يجمع في وحدة تامة جديدة (أو في كُــلٍّ واحدٍ جديد) كـل الأشياء في المسيح، وأن يربط السُّفليات بالعُلويات، ويجعل مـن السمائـيين والأرضـيين رعية واحـدة.

فالمسيح، إذن، قد صنع لأجلنا كُلاًّ من السلام والمشيئة الصالحة. هذا الذي به ومعه لله الآب، المجد والإجلال والعِزَّة، مع الروح القدس، إلى أبد الأبد. آمين.

(1) يميل بعض الآباء أن يُفسِّروا: «زبداً وعسلاً يأكل» (إش 7: 15) تفسيراً حرفياً إمعاناً في التأكيد على كمال بشرية المسيح في التجسُّد (إله كامل وإنسان كامل بآنٍ واحد).
(2) الآبـاء دائماً يُشيرون بهذا الاسم: «مَهَيْرَ شَلاَلَ = = حَاشَ بَزَ» إلى ربنا، ويرون أنَّ المقصود بتفسيره: ”عجِّل بالغنيمة وأسرع السَّلْب“ هو طَرْح الشيطان وسقوطه مثل البرق من السماء بتجسُّد مخلِّصنا. والقديس كيرلس الكبير له مثال آخر لهذا الشرح في عظته الفصحية الـ 17، حيث يقول: [النبيَّة هي العذراء القديسة، والاسم المُعطَى للطفل لا يتناسب مـع إنسانٍ ما، بل مع الله، لأنه يقول: ”عجِّل بالغنيمة وأسرع السَّلْب“. لأنَّ الطفل الإلهي بميلاده الفائق للطبيعة، وهو لم يَزَل بعد ملفوفاً بأقماط وفي حضن أُمه بسبب الطبيعة البشرية التي اتَّخذها، جرَّد الشيطان منذ ذلك الوقت من غنائمه بقوته الفائقة كإله. وها المجوس (كبرهان على ذلك) يأتون من المشرق ليسجدوا له (أي ليُقدِّموا له فرائض العبادة)].

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis