دراسة الكتاب المقدس
|
|
|
الأصحاح الثاني عشر
تفاصيل العهد وشروطه (12: 1 - 26: 19)
ابتداءً من هذا الأصحاح الثاني عشر وحتى الأصحاح السادس والعشرين أخذ موسى يُكلِّم بني إسرائيل عن تفاصيل الفرائض والأحكام التي يلزمهم أن يحفظوها في أرض الموعد التي هم مزمعون أن يمتلكوها، لكي يحيوا فيها وتدوم إقامتهم بها بدوام حفظهم للعهد المقدس الذي قطعه الرب معهم في برية سيناء. وواضح أن مجموعة من هذه الأحكام لها ارتباط بالظروف الجديدة المستحدثة التي سوف يُقابلونها في أرض الموعد. كما أن هناك مجموعة أخرى كانت قد أُعطيت لهم من قبل أثناء مسيرتهم في برية سيناء. وهذه وتلك معاً تمثِّل الشريعة الخاصة بتنظيم الحياة في إسرائيل في كل المجالات الدينية والمدنية والأُسريَّة بعد دخولهم أرض كنعان، بحيث تتمشَّى هذه الحياة مع دعوتهم كأُمة مقدسة يحكمها الله. فهذا هو ما كان يتوقَّعه الرب من إسرائيل بعد امتلاكهم أرض الموعد.
والواقع أن هناك فرقاً واضحاً بين الصيغة القانونية للوصايا والأحكام التي وردت قبلاً في ”كتاب العهد“ (في سفر الخروج 20: 22-23: 29)، وبين ما نقابله في سفر التثنية من صيغة وعظية يحاول فيها النبي أن يربط بين خبرة الماضي وما عمله الله مع شعبه من أعمال مجيدة، وبين ما يتوقَّعه الرب منهم من محبة شديدة وطاعة كاملة في حياتهم الجديدة التي سوف يبدأونها في أرض الموعد، حتى يستحقوا البركة التي وعد الرب بها آباءهم، ويتحاشوا اللعنة التي سوف تصيبهم إذا عصوا الله وابتعدوا عنه وعبدوا الآلهة الغريبة التي كانت تعبدها الأُمم الذين طردهم الرب من أمامهم. فالأرض التي سوف يمتلكونها قد أعطاها الرب لهم كهِبةٍ معرَّضة للضياع إذا هم تركوا الرب وعصوا وصاياه وساروا وراء آلهة أخرى.
ويمكن تقسيم هذه المجموعة من الأحكام حسب المجالات التي تتعامل معها إلى ثلاثة أقسام هي:
أولاً: أحكام متعلِّقة بالعبادة (12: 1-16: 13).
ثانياً: أحكام متعلِّقة بالأمور المدنية (16: 14-20: 20).
ثالثاً: أحكام متعلِّقة بالشئون الاجتماعية (21: 1-26: 29).
أولاً: أحكام متعلِّقة بالعبادة:
الاستعدادت اللازمة لتأسيس الموضع المقدس لإقامة شعائر العبادة:
+ «هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعملوها في الأرض التي أعطاك الربُّ إله آبائك لتمتلكها كل الأيام التي تَحْيَوْن على الأرض. تُخْرِبون جميع الأماكن حيث عبدت الأُمم التي ترثونها آلهتها على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء. وتهدمون مذابحهم، وتُكسِّرون أنصابهم، وتُحرِقون سواريهم بالنار، وتُقطِّعون تماثيل آلهتهم، وتَمْحُون اسمهم من ذلك المكان. لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم، بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه، سُكناه تطلبون وإلى هناك تأتون، وتُقدِّمون إلى هناك مُحرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار بقركم وغنمكم. وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم وتفرحون بكل ما تمتدُّ إليه أيديكم أنتم وبيوتكم كما بارككم الرب إلهكم» (12: 1-7).
تبدأ هذه الفقرة من الأصحاح الثاني عشر هكذا: «هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعملوها في الأرض التي أعطاك الربُّ إله آبائك لتمتلكها كل الأيام التي تَحْيَوْن على الأرض». فهي تُمثِّل المقدمة أو الافتتاحية للجزء الأكبر التالي من سفر التثنية، هذا الجزء الذي يتضمن تفاصيل الفرائض والأحكام التي يلزم أن يحفظوها ليعملوا بها في الأرض التي أعطاها لهم الرب إله آبائهم ليمتلكوها كل الأيام التي يحيونها على الأرض، وهو الجزء الذي يبدأ بهذا الأصحاح حتى الأصحاح السادس والعشرين. والكلمات هنا هي نفس الكلمات التي جاءت في مقدِّمات الأجزاء السابقة للسفر (4: 45،44؛ 5: 1؛ 6: 2،1).
أما الفرائض والأحكام التي سوف تَرِد في الأصحاحات القادمة فقد وُضعت خصيصاً لكي تُلائم الوضع المستقبلي لبني إسرائيل في إقامتهم في أرض الموعد. ورغم أن أرض الموعد لم تَصِرْ بعد في حوزتهم، ولكنها حُسِبَت في عيني موسى بالإيمان أنها قد صارت مِلْكاً لهم، لذلك قال لهم: «لتعملوها في الأرض التي أعطاك الرب إله آبائك».
وكما كان لزاماً عليهم أن يحفظوا الفرائض والأحكام والوصايا التي أُعطيت لهم سابقاً في سيناء في أيام ترحالهم وغربتهم، فلا ينبغي عليهم أن يظنوا أنهم لم يعودوا في احتياج إليها في زمن راحتهم واستقرارهم وتملُّكهم. فوصايا الله ضرورية ولازمة لنا في الضيقة كما في السعة، عندما نصير كباراً مثلما كنا أطفالاً، عندما نكون في زحمة الأعمال والانشغال مثلما نكون بلا عمل، «كل الأيام التي تحيون على الأرض». فيلزم أن نستمر في الطاعة على مدى الأيام حتى النهاية، ولا نضجر من القيام بها حتى الموت.
إزالة كل أثر للعبادة الوثنية:
وأول ما كُلِّفوا به عند دخولهم أرض الموعد أن يمحوا ويستأصلوا كل تلك الأماكن التي يستخدمها الكنعانيون كمقادس لعباداتهم الوثنية. وكانت تلك المقادس الوثنية يختارونها في مواقع يعتقدون أنها ذات مواصفات خاصة تؤهِّلها لأن تكون مناسبة لعبادة آلهتهم الغريبة. فكان بعضها يُقيمونه على رؤوس الجبال والتلال، ظنّاً منهم أنها مساكن مناسبة للآلهة بسبب ارتفاعها، أو لعل ارتفاعها عن مستوى الأرض يجعلها أقرب لصعود ابتهالاتهم! وكانوا يختارون بعضها أيضاً تحت كل شجرة وارفة مورقة. فكانوا يعتبرون بعض الأشجار مقدَّسة لكونها رمزاً للخصب والنماء. إلاَّ أنه ليس مجرد موقع هذه المقامات الغريبة هو السبب الرئيسي في منافاتها للإيمان بالإله الواحد الذي لبني إسرائيل، بل بسبب طبيعة العبادة التي كانت تُمارَس هناك. فقد كانت هذه العبادة تتصف بإقامة المذابح والأعمدة الحجرية والتماثيل التي ترمز إلى الآلهة الوثنية بأية صورة من الصور، أو شجرة أو نصب خشبي (أو السواري) كرمز لآلهة الخصب، أو صور أخرى متعدِّدة لآلهتهم، حيث كانوا يُقدِّمون هناك عباداتهم التي تتمثَّل أحياناً في تقديم الذبائح البشرية من أبنائهم، أو يأتون الأعمال النجسة والفحشاء ظنّاً منهم أنها تُرضي آلهتهم.
كان هذا أول تكليف للشعب بمجرد دخولهم أرض الموعد أن يُخرِّبوا جميع هذه الأماكن التي كانت مُخصَّصة لعبادة آلهة الأُمم، ويُحطِّموها ويحرقوها، حتى يُزيلوا كل أثر لها لئلا تصير فخّاً لهم وتجتذبهم إلى عبادة الآلهة الكاذبة، فيكسروا الوصية الأولى: «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي»، والثانية الحارسة لها: «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، صورة ما مِمَّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهُنَّ ولا تعبدهُنَّ، لأني أنا الرب إلهك» (5: 7-9). لذلك حذَّرهم من أن يتمثَّلوا بهذه الشعوب في عباداتهم: «لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم» (12: 4).
الله يختار لهم موضعاً مقدَّسـاً ليُقيموا فيه شعائر عبادتهم:
ولكي يقطع عليهم الرب كل سبيل للتمثُّل بهذه الشعوب الوثنية في عبادة آلهتهم في أيِّ موضع يختارونه، اختار لهم الرب موضعاً واحداً مقدَّساً سيُعيِّنه لسكناه في سبط واحد من جميع أسباطهم ليضع اسمه فيه ليصير مسكناً له في وسطهم يأتون إليه، ويُقدِّمون هناك ذبائحهم ومحرقاتهم وعشورهم ونذورهم وأبكار بقرهم وغنمهم (12: 5-7).
وقد كان للرب حكمة عالية في اختيار مكانٍ واحد لإقامة شعائر عبادته، ومذبحٍ واحد تُقدَّم عليه الذبائح، وهذه الحكمة هي:
أ – لكي يربط الشعب بإلههم الواحد ويُجنِّبهم خطر الاعتقاد بتعدُّد الآلهة مثل الأمم الوثنية.
ب – ولكي يُجنِّب بني إسرائيل الاشتراك مع تلك الشعوب في عباداتهم الباطلة.
ج - ولكي يجمع بني إسرائيل حول إيمان واحد ويربطهم معاً برباط المحبة ووحدانية الروح في حضرة الرب.
د – ولكي يكون ذهابهم إلى ذلك الموضع المقدس فرصة روحية مُفرحة للاجتماع مع إخوتهم من سائر الأسباط للاشتراك معاً في عبادة الرب، والاحتفال بالأعياد الدينية التي فيها يتذكَّرون أعمال الرب ومراحمه العظيمة معهم. وهناك يُقدِّمون ذبائحهم وعشورهم ونذورهم ونوافلهم (أي عطاياهم الزائدة عن فيض نِعَم الرب عليهم) وأبكار مواشيهم وأغنامهم. وهناك أيضاً يُشاركون إخوتهم اللاويين في أنصبتهم ويُشركون إخوتهم الفقراء والمساكين في الأكل معهم من كل ما تمتدُّ إليه أيديهم كما باركهم الرب إلههم، وبكل ما جاءوا به وقدَّموه إلى بيت الرب.
هـ - ولكي يُعدَّ شعبه في ملء الزمان للإيمان بالمسيح الإله المتجسِّد من سبط يهوذا، حيث الموضع الذي أُقيم فيه الهيكل الواحد والمذبح الواحد، لكي يكون هو الفادي والمخلِّص الوحيد لجميع شعوب الأرض.
”لا تعملوا حسب كل ما نحن عاملون هنا اليوم“:
+ «لا تعملوا حسب كل ما نحن عاملون هنا اليوم، أي كل إنسان مهما صَلَحَ في عينيه. لأنكم لم تدخلوا حتى الآن إلى المقرِّ والنصيب اللذين يُعطيكم الرب إلهكم. فمتى عبرتم الأردن وسكنتم الأرض التي يَقسِمها لكم الرب إلهكم وأراحكم من جميع أعدائكم الذين حواليكم وسكنتم آمنين. فالمكان الذي يختاره الرب إلهكم ليحلَّ اسمه فيه تحملون إليه كل ما أنا أُوصيكم به: محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم وكل خيار نذوركم التي تنذرونها للرب. وتفرحون أمام الرب إلهكم أنتم وبنوكم وبناتكم وعبيدكم وإماؤكم واللاويُّ الذي في أبوابكم لأنه ليس له قِسْمٌ ولا نصيب معكم» (12: 8-12).
تبدأ هذه الفقرة بقوله: «لا تعملوا حسب كل ما نحن عاملون هنا اليوم»، ويُوضِّحها بقوله: ”أي أن كل إنسان يعمل ما يراه صالحاً في عينيه“. وتُبيِّن هذه الآية أن هناك فرقاً بين ما كان مُصرَّحاً لهم أن يعملوه أثناء مسيرتهم في البرية، وبين ما ينبغي أن يلتزموا به بعد عبورهم نهر الأردن ودخولهم أرض الموعد واستقرارهم هناك. فمنذ خروجهم من مصر، لم يكن للشعب موضع يستقر فيه، وكانت طبيعة حياتهم الدائمة التجوُّل والتطواف حينذاك، تقتضي أن تتكيف أساليب عبادتهم خلالها مع الموضع الذي يوجدون فيه مباشرة.
ففي أيام التنقُّل والترحال كان يُسمح للشعب ببعض الحرية التي لن تكون مسموحة في المستقبل بعد دخولهم واستقرارهم في أرض الموعد. والواقع أن التركيز على الفرق بين الحاضر والمستقبل في هذا الخصوص إنما يحمل الكثير من الأهمية، لأن التذكُّر يلعب دوراً هاماً في حياة بني إسرائيل وإيمانهم. فعندما يتذكَّر الشعب في المستقبل سنوات التيه في البرية وحضرة الله في وسطهم ومعونته لهم، فسوف يتذكَّرون أيضاً أن حياة الصحراء لم تُزوِّدهم بنموذج الحياة التي سوف يعيشونها في أرض الموعد. فمتى حقَّق الرب وعده لهم وأراحهم من جميع أعدائهم وأسكنهم آمنين في الموضع الذي أعدَّه لهم، فالمكان الذي يختاره الرب ليحلَّ اسمه فيه، ويكون موضع سكناه ومكان قدسه وحضرته، يلزم أن يحملوا إليه ما أوصاهم به من محرقاتهم وذبائحهم وعشورهم ونذورهم. وهذا هو تأكيد آخر وتعزيز لِمَا قاله لهم موسى قبلاً بخصوص الموضع المقدس الواحد، وذلك من أجل حثِّ الشعب على الثبات في الأمانة والتمسُّك بكل ما قاله الرب في مستقبل أيامهم عند دخولهم أرض الموعد؛ لأنهم بمثابرتهم على أمانتهم للرب إلههم بتقديم شعائر عبادتهم وتمسُّكهم بالموضع الذي يختاره الرب ليحلَّ اسمه فيه، سيفرحون فرحاً مقدساً أمام الرب هم وبنوهم وبناتهم وعبيدهم وإماؤهم واللاوي الساكن فيما بينهم.
ويُلاحَظ هنا أن اللاويَّ مذكورٌ ضمن أفراد الأسرة التي تشترك في أفراح المثول في حضرة الرب، لأن اللاويين لم يكن لهم نصيب محدد في أرض الموعد، فكانوا يعيشون متفرِّقين في وسط جميع الأسباط وكان اعتمادهم في معيشتهم على العشور والعطايا التي يُقدِّمها الشعب (انظر عد 18: 21؛ 35: 1-8).
التأكيد والتشديد على التوجيهات السابقة:
+ «اِحْتَرِز من أن تُصعِد مُحرقاتك في كل مكان تراه. بل في المكان الذي يختاره الرب في أحد أسباطك. هناك تُصعِد محرقاتك، وهناك تعمل كل ما أنا أُوصيك به. ولكن من كل ما تشتهي نفسك تذبح وتأكل لحماً في جميع أبوابك حسب بركة الرب إلهك التي أعطاك. النجس والطاهر يأكلانه كالظَّبْي والأُيَّل. وأما الدم فلا تأكله، على الأرض تسفكه كالماء. لا يَحِلُّ لك أن تأكل في أبوابك عُشْر حنطتك وخمرك وزيتك ولا أبكار بقرك وغنمك ولا شيئاً من نذورك التي تنذر ونوافلك ورفائع يدك. بل أمام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك وأَمَتُك واللاويُّ الذي في أبوابك، وتفرح أمام الرب إلهك بكل ما امتدَّت إليه يدك. اِحْتَرز من أن تترك اللاويَّ كل أيامك على أرضك» (12: 13-19).
تبدأ هذه الفقرة بتحذير وتنتهي بتحذير. التحذير الأول يختص بالموضوع الرئيسي لهذا الأصحاح، وهو أن لا يتقلَّدوا بالأُمم الوثنية التي تعبد آلهتها في أيِّ موضع تراه، من أجل ذلك كان أول ما كُلِّف به بنو إسرائيل عند دخولهم أرض الموعد أن يزيلوا كل أثر لعبادات الأُمم الوثنية من كل أنحاء البلاد التي أُعطيت لهم. أما هم فعليهم أن لا يتشبَّهوا بتلك الأُمم في إصعاد محرقاتهم في أيِّ مكان يحلو لهم، بل في ذلك المكان الواحد الذي سوف يختاره الرب في أحد أسباطهم. وهذا تأكيد وتعزيز آخر لِمَا سبق أن أوصاهم الرب به في الفقرات السابقة، مما يدلُّ على الأهمية القصوى لهذه الوصية كحافظةٍ وحارسةٍ لهم من التورط في عبادة الآلهة المتعدِّدة تشبُّهاً بالأُمم الوثنية الذين سوف يطردهم الرب من أمامهم لهذا السبب. إلاَّ أن هذا التحذير لا يعني حرمانهم من أن يذبحوا ويأكلوا لحماً في جميع أماكن سكناهم في الأرض التي أُعطيت لهم، بل لهم أن يذبحوا ما يشاؤون من الحيوانات، حسب بركة الرب الذي أعطاهم كل شيء بغِنىً للتمتُّع: «من كل ما تشتهي نفسك تذبح وتأكل لحماً في جميع أبوابك».
أما قوله: «النجس والطاهر يأكلانه، كالظبي والأيل»، فإنما يقصد بالنجس هنا الحيوانات التي لا يصحُّ تقديمها ذبائح للرب، ولكنها طاهرة للأكل منها؛ ويقصد بالطاهر الحيوانات التي تُقدَّم منها الذبائح للرب وهي: البقر والضأن والماعز، ومن الطيور: الحمام واليمام. أما الظبي والأيل فهما مثالان للحيوانات التي كانت تعيش في البراري، والتي كانت تُعتبر نجسة من جهة تقديمها ذبائح للرب، ولكنها غير مُحرَّمةٍ للأكل منها.
ويُلاحَظ هنا أن هذه الأحكام قد بيَّنت بعض الفوارق التي ينبغي مراعاتها عندما يستقر بنو إسرائيل في أرض الموعد، عمَّا كانوا معتادين عليه عندما كانوا في سنيِّ ارتحالهم في البرية. فخلال ارتحالاتهم، كانت إقامتهم في نفس المكان الذي توجد فيه خيمة الاجتماع، فكانت كل ذبائحهم تُقدَّم للرب كذبائح سلامة من الحيوانات الطاهرة على مذبح الرب، ولكن إقامتهم في الأرض الجديدة سوف تكون في أماكن متفرِّقة؛ أما الموضع المقدس الذي سيختاره الرب ليحلَّ اسمه فيه، سواء أكان خيمة الاجتماع أو الهيكل فيما بعد، فسوف يكون في أحد الأسباط. ففي هذا الوضع الجديد، سوف يصبح الأمر شرعياً للذبح والأكل في أماكن سكناهم من كل ما تشتهي نفوسهم، سواء كان طاهراً أو نجساً من الحيوانات التي لا يحلّ تقديمها كذبائح للرب مثل الظبي والأيل. إلاَّ أنه كان مُحرَّماً عليهم فقط أن يأكلوا الدم، بل يسفكونه على الأرض مثل الماء، ذلك لأن الدم يرمز إلى الحياة. فسواء كان الذبح طقسيّاً أو دنيوياً، فإن الدم يلزم أن يُعامَل معاملة خاصة بتوقير، لأن الرب قد جعله مصدر الحياة لكل كائن حي، كما جاء في سفر اللاويين: «لأن نفس الجسد هي في الدم. فأنا أُعطيكم إيَّاه على المذبح للتكفير عن نفوسكم. لأن الدم يُكفِّر عن النفس... لأن نفس كل جسد هي دمه. كل مَن يأكله يُقطع» (لا 17: 11-14). وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
[السبب في منع أكل الدم أنه مُكرَّس ليُقدَّم لله وحده، أو لعل المنع كان لأن الله أراد أن يصدَّ الناس عن الاندفاع إلى سفك الدماء البشرية. فمنعهم من أكل دم الحيوانات حتى لا يحملهم ذلك إلى السقوط تدريجياً في خطية سفك دماء البشر](1).
أما القديس أفرام السرياني فيربط بين تحريم أكل الدم وبين سفكه للتكفير عن النفس وكونه إشارة إلى الدم المُحيي الذي سُفِكَ من أجل خلاص العالم، فيقول:
[حقَّق الرب عند بني إسرائيل أنَّ بهرق الدم يكون لهم إشارة إلى دم الحي المُحيي، الذي بهرقه وجب الغفران لكل مَن يتوب على يده، لكونه دم إله متجسِّد يمكن هرقه فيجري ويُخلِّص من الموت كل مَن يستحق الموت. لأن دم الإله الذي لا يُثمَّن بثمنٍ البتة، قادر أن يفدي الخلق الذي لا يُحصَى، وذلك لأن الله قال: إن كل نفس تخطئ تستحق الموت. فمَن أراد لها الغفران والخلاص من الموت، فليقتل نفساً عِوَضاً عنها. ومن البيِّن أن نفس حيوان غير ناطق إذا قُتِلَت، لا تساوي نفس إنسان ناطق فتفديه، بل الله أمر بذلك في التوراة، إشارة ورمزاً إلى نفس الإله المتأنِّس التي أسلمها بإرادته للموت فداءً عن كل نفس تستحق الموت. فمَن يتوب على يده يخلص. ولما كان الدم قد جعله الرب خاصةً له يُهرَق بين يديه عن غفران الشعب، أمر البشر أن لا يأكلوه، لكونه له خاصة. كذلك لما كان الله الآب «قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو 5: 22) وجعلها له خاصة؛ لذلك أمر البشر أن لا يدينوا بعضهم بعضاً، لأن الذي يدين مخلوقاً مثله قد تعدَّى على ما هو خاص بالابن الوحيد](2).
وهناك تحذير آخر يلزم مراعاته، وهو أنه ينبغي ألاَّ تمتد حرية أكل اللحم في أماكن سكنهم في الأرض الجديدة، إلى أن يطغي ذلك على نصيب الرب من المحاصيل والمنتجات والأطعمة المخصَّصة للرب مثل: عشور الحنطة والخمر والزيت وأبكار البقر والغنم، «ولا شيئاً من نذورك التي تنذر، ونوافلك ورفائع يدك (التي هي الأجزاء المُفرزة من التقدمات لتكون مُخصَّصة للرب)». فهذه الأشياء كلها ينبغي أن يحملوها إلى بيت الرب ويأكلونها مع اللاويين والمساكين في بهجة وفرح روحيَّين. أما آخر تحذير فهو أن تحترس من أن تنسَ حق اللاوي الذي يعيش في أرض نصيبك في أرض الموعد، ولا تهمله كل أيام حياتك على الأرض. أما حق اللاوي فهو العشور المخصَّصة للرب.
(يتبع)
(1) منشورات النور: مجموعة الشرع الكنسي، 1975، ص 865.
(2) تفسير اللاويين المنسوب للقديس أفرام السرياني في المخطوطين: الماروني هونت – 112 مكتبة أُكسفورد؛ والسرياني اليعقوبي 7/1 المكتبة الشرقية.