تدبير الروح القدس
الحياة الباطنية للكنيسة

 (تابع)

- 2 -

حياة الصلاة والعبادة


النشاط الخارجي للصلاة

- 1 -

تكريم الأيقونات


l «هو صورة الله غير المنظور» (كو 1: 15).

l «هو بهاء مجده ورَسْم (صورة) جوهره» (عب 1: 3).

l «قد رُسِمَ يسوع المسيح بينكم مصلوباً» (غل 3: 1).

 

من بين التعبيرات الخارجية لعبادتنا لله، استخدام الصُّور المقدَّسة (المُسمَّاة الأيقونات، وهي كلمة مُعرَّبة عن اليونانية: e„kèn)، وتقديم التوقير والتكريم لها.
ومـن بين المواهب التي وهبها الله للإنسان - من دون الخليقة - والتي تُميِّزه عن سائر المخلوقات الأخرى، موهبة الفن، أي التصوير بالخطوط والألوان. إنها موهبة راقية وسامية، وهي جديرة بأن تُستخدم في تمجيدنا لله. وإننا مُطالبون بتمجيد الله بكل الإمكانيات الطاهرة والراقية التي فينا، وذلك بحسب دعوة المُرنِّم قديماً: «باركي يا نفسي الربَّ، وكلُّ ما في باطني ليُبارك اسمه القدوس» (مز 103: 1). و«كلُّ ما في باطني» تشير إلى كل القدرات والمواهب التي خلقها الله في النفس البشرية. وحقّاً إن قدرة الفن والتصوير بالخطوط والألوان هي موهبة من الله منحها لبني البشر واختصَّهم بها.

+ وفي العهد القديم، أيام موسى النبي، قال موسى النبي لبني إسرائيل: «قد دعا الرب بَصَلْئيل بن أُوري بن حور، من سبط يهوذا باسمه، وملأه من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكلِّ صنعة، ولابتداع أشكال يصنعها من الذهب والفضة والنحاس، ولنحت جواهر للترصيع، وألهمه الرب أن يُعلِّم، هو وأهوليآب ابن أخيساماك من سبط دان، وملأ قلبيهما حكمة ليصنعا كل صنعة يتقنها النجَّار والحائك الماهر والمُطرِّز...» (خر 35: 30-35 عن الترجمة العربية الحديثة).

وهكذا صار كل ما صنعه الفنانون من أعمال ماهرة فنية لخيمة الاجتماع، ثم بعد ذلك لهيكل سليمان، كانت كلها أعمالاً مقدَّسة. وبينما كان بعضها زخارف مقدسة، كان بعضها الآخر موضع توقير وأماكن لاستعلان مجد الله.

+ فمثلاً: ”تابوت العهد“، كان مجرد لَمْسِه بلا توقير لازم، يؤدِّي إلى الموت (كما ورد في سفر صموئيل الثاني 6: 7،6 - عن عُزَّة الذي أمسك تابوت العهد بجسارة، إذ كان لا يلمسه إلاَّ بنو لاوي).

+ كذلك، ”كاروبا المجد الإلهي“ فوق تابوت العهد، حيث كان الله يستعلن نفسه وسطهما، ويُكلِّم موسى بوصاياه لبني إسرائيل: «فأجتمع بك هناك وأُكلِّمك من فوق الغطاء، من بين الكاروبَيْن اللذين على تابوت العهد، بجميع ما أُوصيك به إلى بني إسرائيل» (خر 25: 1-22).

+ هذه كانت الصور المنظورة للإلهيات غير المنظورة.

+ ولكن لم تكن هناك صور على الجدران والستائر في هيكل العهد القديم تُمثِّل الأبرار الذين انتقلوا، كما هو في الكنيسة المسيحية اليوم، ذلك لأن هؤلاء الأبرار كانوا ينتظرون العتق من السبي الذي هم فيه، إلى حين أن يأتي اليوم الذي فيه يخرجون من الجحيم؛ وهذا تمَّ بنزول المسيح إلى ما داخل الجحيم وقيامته من بين الأموات وأَخْذهم معه إلى الفردوس. ويقول الرسول بولس: «لكي لا يُكْمَلُوا بدوننا» (عب 11: 40). لقد تمجَّدوا كقديسين في العهد الجديد فقط بقيامة المسيح من بين الأموات.

تحريم إقامة الأوثان لعبادتها،

لا يخص الأيقونات:

وإذا كانت الأسفار المقدسة تضع تحريمات صارمة ضد إقامة الأوثان لعبادتها، لكن هذه التحريمات لا تخص الأيقونات المسيحية بأيِّ حال. أولاً، لأن هذه الأوثان والأصنام (التي يعبدها الوثنيون) كانت هي الآلهة الكاذبة، وعبادتها كانت بمثابة عبادة للشياطين، وهي كائنات صنمية بحتة ولا وجود لِمَا يسمونه آلهة، وبهذا فهي عبادة لأشياء بلا حياة في ذاتها، خشباً كانت أو ذهباً أو حجارة. وتضع الأسفار المقدسة تفريقاً صارماً بين المُقدَّس وغير المُقدَّس، وبين الطاهر والنجس (كما في سفر اللاويين 10: 10). والذي يعجز عن أن يرى الفرق بين الأيقونات المقدسة وبين الأصنام، فيتجرَّأ ويُهاجمها، إنما يُدنِّس هذه الأيقونات، ويرتكب إهانة للمقدَّسات.

+ فتمثال ”الحية النحاسية“ مَثَل مُبكِّر للأيقونات، إذ أمر الله موسى بصُنعه (عد 21: 4-9)، وقال الله لموسى: «اصنع لك حيَّة وارفعها على سارية، فكل ملدوغ (من الحيَّات) ينظر إليها ويحيا». وبالرغم من أن تمثال الحية كان رمزاً مُبهماً غير مفهوم تماماً في وقته، إلاَّ أنه كانت له قوة الشفاء الكاملة!! وقد انكشف هذا الرمز في العهد الجديد، إذ كشفه المسيح بنفسه حينما قال: «وكما رفع موسى الحيَّة في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابنُ الإنسان» (يو 3: 14). فالحية النحاسية كانت واسطة شفاء الله للخطاة، لذلك لا يمكن أن توضع جنباً إلى جنب مع الأصنام التي كانت الشعوب الوثنية الأخرى تعبدها كآلهة في ذاتها.

وهكذا تكون صور المسيح مصلوباً المرسوم أمامنا في الأيقونة، هي واقع حقيقي في صميم الحاضر، لأنها تُوجِّه أنظارنا إلى عمل المسيح على الصليب، حيث نُشفَى من عضة الحيَّة القديمة المميتة التي هي عضَّة الخطيئة!! وسر الشفاء قديماً هو هو سر الشفاء حديثاً، والواسطة واحدة، لأن الرمز والواقع واحد، ولا يفصلهما إلاَّ عقل الإنسان؛ وسرُّ الحقيقة القديمة وسرُّ الحقيقة الحاضرة واحد، ولا يفصلهما إلاَّ انكشاف السر الإلهي للتجسُّد(1)!!

الأيقونة المسيحية في الكنيسة،

هي صورة التجسُّد الإلهي:

إن سرَّ التجسُّد الإلهي هو الذي ألهم المؤمنين عابدي الله أن يرسموا ويُصوِّروا ذلك الحدث الإلهي الذي اقتحم التاريخ البشري بتجسُّده وحلوله وسط البشر. فكل أيقونة للقديسة العذراء مريم وهي تحمل ابنها الإلهي، هي صورة للتجسُّد. وكل أيقونة لقديس أو قديسة أو شهيد أو شهيدة، والفرح الروحي، فرح القيامة، يرتسم على وجهه أو وجهها؛ إنما هي صورة مُعبِّرة أعظم تعبير عن عمل سر التجسُّد الإلهي في البشر، الذي بواسطته يهبنا المسيح الحياة الأبدية بقيامته من بين الأموات. لذلك لا تعجب حين ترى الفرح والتهليل يرتسم على وجه الشهيد أو الشهيدة وهو يتعذَّب بأقسى العذابات، فإن صورة وجهه هي في حدِّ ذاتها وكأنها تهتف من داخل الرسم والألوان: ”المسيح قام. بالحقيقة قام“، «وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويَّات» (أف 2: 6).

وليس أصدق تعبير عن الدور الكرازي للأيقونة المسيحية بالمسيح القائم من بين الأموات من الإحساسات الروحية التي تعتمل في نفوس المؤمنين وهم يتفرَّسون في الأيقونة (وعلى الأخص إذا كانت تتبع قوانين وفنون رسم الأيقونـات الأرثوذكسية بألوانها المميَّزة، ولمساتها وخطوطها المميَّزة). ويُخبرنا القديس غريغوريوس النيسي عن صورة شاهدها بنفسه:

[لقد شاهدتُ بنفسي صورة آلام المسيح، ولم أستطع أن أتحوَّل عن الصورة بدون أن أذرف الدموع بغزارة، لأن المُصوِّر الفنان قد أبرز القصة أمام العين بدرجة رائعة](2).

ويُخبرنا استيريوس أسقف أماسيا في القرن الخامس عن تحوُّل جذري كبير في فن رسم الأيقونات عند بداية القرن الخامس، وهو المحاولة الفنية الجادة في استخدام الأيقونة في الكنيسة للتعريف بالإنجيل، وذلك عن طريق تصوير حوادث الإنجيل ومواضيعه ومعجزاته بدقة وإبداع فني مُلفت للنظر، سواء التي أكملها المسيح أو الرسل أو التلاميذ(3).

وفي رسالة للقديس نيلُس السينائي إلى أوليمبيودوروس، نجد القديس نيلُس يحضُّ على اقتناء الأيقونات في الكنائس بحماس وتقوى شديديـن، وذلك كعمل كرازي للمؤمـنين الأُمِّيين:

[املأ الهيكل المقدَّس (حيث كانت الأيقونات قديماً تملأ الجدران والقباب داخل الهيكل) وكل جوانبه بالأيقونات التي تُصوِّر كل حوادث العهد القديم والعهد الجديد، واستخدمْ في ذلك أمهر الفنانين المُصوِّرين، حتى يتعرَّف الإخوة المؤمنون الذين لا يعرفون القراءة والكتابة على فضائل الرجال القديسين الأتقياء الذين خدموا الله بأمانة، عندما يتأملون في هذه الأيقونات فيتذكَّرونها باستمرار](4).

دخول الأيقونات في عصر المعجزات:

فقد أوضح المؤرِّخون ابتداءً من القرن الخامس عن المعجزات التي تتم بتوسُّط الأيقونات. ولا يتعجَّب أحد أو يتشكَّك، فحادثة ”الحيَّة النحاسية“ في العهد القديم، التي كان مجرد أن ينظر إليها أي إنسان لدغته الحيَّة المُحرقة، كان يُشفَى، والتي لم يكن يفهم سرَّها أي إنسان آنذاك (أيام موسى النبي)؛ لكن الذي آمن وأطاع، شُفِيَ. هذه الحادثة ظهرت قوتها الكامنة في صليب المسيح في العهد الجديد، كما أشرنا سابقاً. وهو أيضاً ما يمكن أن يحدث من كل أيقونة مقدَّسة في الكنيسة، إذ مذخر فيها، أي في أيقونات المسيح - له المجد - أو الرسل أو القديسين على مدى الأجيال، قوة قيامة المسيح ومواهب الشفاء التي منحها الرب للقديسين بالروح القدس، لينال بواسطتها الشفاء كل مَن آمن وأطاع.

تكريس الأيقونات،

به تنال الأيقونة صفة الأقداس:

ولابد أن نعرف - إن لم نكن نعرف - أن الأيقونات المقدسة التي تراها قائمة في الكنيسة قد أُجري لها طقس صلاة خاص يُسمَّى بـ ”صلاة التكريس“، وذلك أثناء القداس الإلهي، بالصلاة عليها ودَهْنها بيد الأسقف بدهن الميرون المقدس الذي هو ختم الروح القدس (مثل الذي يُدهن به المُعمَّدون).

وهكذا تُعطَى الأيقونة، وقت التكريس، نفخة الروح القدس من فم الأسقف أيضاً ليحلَّ فيها ويعمل بها للشفاء واستجابة الصلاة. بهذا الطقس تكون للصورة صفة الأقداس المقدَّسة في الكنيسة، ويكون لها هيبة تُذكِّرنا بهيبة المذبح أو هيبة تـابوت العهد في العهد القديم، وبذلك يجب السجود والتوقير وتقديم البخور والعبادة لشخص الله فيها.

فلا تعجب، إذن، من المؤمنين الذين يتقدَّمون للأيقونات بوقار عظيم وسجود، وطلبة، ويلمسون أطرافها بأيديهم، أو يُقبِّلونها في خشية واستحياء، وربما وهم مغمضو العينين؛ لأنهم يُكرمون الله، ويلمسون الميرون المقدس الذي رُشمت به الصورة، والذي يحمل آثار الحنوط التي دُهن بها جسد المسيح - له المجد - فهُم لا يُقبِّلون الصورة نفسها مباشرة؛ إذ يُعبِّرون عن البُعد الروحي الذي يفصل الروح القائمة في القديس الذي في السماء، عن الإنسان الذي ما زال على الأرض بالجسد. فهو كمَن يأخذ البركة - من على بُعد - بركة الروح وليس بركة المادة التي صُنعت منها الأيقونة(5)!


(1) De Deit Fil. et Sp. Orat.

 عن: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، للأب متى المسكين، 2006، ص 581. وهو المرجع الأساسي لهذا المقال.

(2) عن: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، صفحة 586.

(3) De Div. et Lag. u. s. .عن: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، المرجع السابق، ص 587،586

 (4) Epist. IV, 16.         . عن: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، المرجع السابق، ص 588،587

(5) عن: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، صفحة 577، 593. وننصح القارئ أن يستزيد معرفة بهذا الموضوع بقراءة الفصل الخاص بالأيقونات في هذا الكتاب، من صفحة 576-602.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis