ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (26: 1-36: 13) 3 - (تابع) ملخَّص رحلات بني إسرائيل من مصر حتى عربات موآب (33: 1-49)
المرحلة الخامسة: من قادش إلى سهول موآب على الأردن: (عد 33: 37-49) + «ثم ارتحلوا من قادش ونزلوا في جبل هور في طرف أرض أدوم. فصعد هارون الكاهن إلى جبل هور حسب قول الرب ومات هناك في السنة الأربعين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر في الشهر الخامس في الأول من الشهر. وكان هارون ابن مئة وثلاث وعشرين سنة حين مات في جبل هور. وسمع الكنعانيُّ ملك عِرَاد وهو ساكن في الجنوب في أرض كنعان بمجيء بني إسرائيل» (عد 33: 37-40). جبل هور يقع في الطرف الجنوبي للبحر الميت قرب خليج العقبة، وفوق هذا الجبل أخذ موسى هارون وألعازار ابنه وصعد بهما إلى هناك، حيث خلع عن هارون ثيابه الكهنوتية وألبسها لألعازار ابنه ليصير خليفة له في رئاسة الكهنوت. أما هارون فأسلم روحه وانضمَّ إلى آبائه. + «ثم ارتحلوا من جبل هور ونزلوا في صَلْمُونة. ثم ارتحلوا من صلمونة ونزلوا في فونون. ثم ارتحلوا من فونون ونزلوا في أُوبوت. ثم ارتحلوا من أُوبوت ونزلوا في عَيِّي عباريم في تُخم موآب. ثم ارتحلوا من عَيِّيم ونزلوا في ديبون جاد» (عد 33: 41-45). عندما ارتحل الشعب من جبل هور الذي كان في طرف أرض أدوم، كان عليهم أن يدوروا حول أرض أدوم الذي لم يسمح لهم بالعبور في وسط أرضه. وفي الطريق سقط الشعب مرة أخرى في التذمُّر، «وتكلَّم الشعب على الله وعلى موسى قائلين: لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية، لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف (المنّ)؟! فأرسل الرب على الشعب الحيَّات المُحْرقة فلدغت الشعب، فمات قومٌ كثيرون من إسرائيل. فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا إذ تكلَّمنا على الرب وعليك، فَصَلِّ إلى الرب ليرفع عنا الحيَّات. فصلَّى موسى لأجل الشعب. فقال الرب لموسى: اصنع لك حيَّة مُحرقة وضعها على راية، فكل مَن لُدِغ ونظر إليها يحيا» (عد 21: 5-8). ولم يأتِ ذِكْر هذه الأحداث في هذا السرد للمواقع التي مرُّوا بها. أما هذه البلاد فقد نزلوا فيها أثناء دورانهم حول أدوم، وفي البرية المتاخمة لموآب، وفي وادي نهر أرنون الذي يصبُّ في البحر الميت من الشرق، والذي يفصل بين موآب جنوباً ومملكة الأموريين شمالاً. + «ثم ارتحلوا من ديبون جاد ونزلوا في علمون دبلاتايم. ثم ارتحلوا من علمون دبلاتايم ونزلوا في جبال عباريم أمام نبو. ثم ارتحلوا من جبال عباريم ونزلوا في عربات موآب على أُردن أريحا. ونزلوا على الأُردن من بيت يشيموت إلى آبل شِطِّيم في عربات موآب» (عد 33: 46-49). مرَّ ذِكْر هذه المحطات سابقاً في (عد 21، عد 22). وفي تلك الأثناء أرسل إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأموريين يستأذنونه في المرور بأرضه، فرفض السماح لهم بالمرور وخرج لمحاربتهم، فدفعه الرب إلى أيديهم وقتلوا جنده وأخذوا مدنه واستولوا على أراضيه (عد 21: 21-32). وفي طريقهم نحو الشمال في اتجاه مملكة باشان، خرج ملكهم عوج وحاربهم، فدفعه الرب إلى أيديهم مع جميع قومه وأرضه (عد 21: 33-35). وقد كان لهذه الانتصارات العظيمة صدًى كبيراً ظلَّ يتردد على مدى الأجيال، وتسجَّل في تسابيحهم حمداً وشكراً لإلههم الذي عظَّم الصنيع معهم. وها نحن نقرأه في (المزمور 136: 17-22): «الذي ضرب ملوكاً عظماء، لأن إلى الأبد رحمته. وقتل ملوكاً أعزَّاء، لأن إلى الأبد رحمته. سيحون ملك الأموريين، لأن إلى الأبد رحمته. وعوج ملك باشان، لأن إلى الأبد رحمته. وأعطى أرضهم ميراثاً، لأن إلى الأبد رحمته. ميراثاً لإسرائيل عبده، لأن إلى الأبد رحمته». وهذا هو الهوس الثاني من تسبحة نصف الليل الذي تُسبِّح به الكنيسة للرب الذي نجَّانا نحن أيضاً من أعدائنا الخفيين والظاهرين، والذي بموته وقيامته «حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي... لميراث لا يَفْنَى ولا يتدنَّس ولا يضمحل محفوظٌ في السموات لأجلكم» (1بط 1: 4،3). أما ”عربات موآب“ فكانت آخر محطة لهم، وهي السهول الممتدة شرق الأُردن في مواجهة أريحا الواقعة على الضفة الغربية من نهر الأردن. وقد أقام بنو إسرائيل خيامهم في هذا السهل بين بيت يشيموت وآبل شطيم (انظر عد 24،23،22). وفي إقامتهم هناك، وقعت أحداث هامة، تمجَّد فيها الرب. فقد رأى بالاق ملك موآب ما صنعه بنو إسرائيل في مملكتي الأموريين وباشان، ففزع جداً وأرسل في طلب بلعام بن بعور العرَّاف، لكي بسحره يلعن بني إسرائيل، فحوَّل الرب اللعنة إلى بركة. إلاَّ أن بلعام حرَّض أهل موآب ومديان على أن يَغْووا رجال إسرائيل بجمال نسائهم لكي يقعوا في الزنا معهن. وهكذا بجرح عفتهم يفقدون قوتهم فتسهل هزيمتهم، إذ تفارقهم قوة الله التي تحارب عنهم. وهذا ما حدث بالفعل، فقد سقط إسرائيل في الزنا وفي عبادة الأوثان، وعاقبهم الرب بالقتل والوبأ. وغار فينحاس الكاهن لمجد الرب، فانقطع الوبأ عن بني إسرائيل من أجل غيرته (انظر عد 25). وهناك أيضاً - في سهول عربات موآب - أجرى موسى النبي وألعازار رئيس الكهنة الإحصاء الثاني للشعب المزمع أن يدخل أرض الموعد بعد أن مات كل الجيل الذي خرج من أرض مصر، ما عدا يشوع بن نون وكالب بن يَفُنَّة (انظر عد 26). ثم أمر الرب موسى أن يصعد فوق جبل عباريم لكي يرى من هناك أرض الموعد قبل أن ينتقل من هذا العالم إلى العالم الآخر (انظر 27: 12-14). وهنا أيضاً طلب موسى من الرب أن يُعيِّن خَلَفاً له لقيادة الشعب بعد انتقاله، فأمره الرب بوضع يده على يشوع بن نون. ففعل موسى كما أمره الرب (انظر عد 27: 15-23). وفي عربات موآب أيضاً أعطاهم الرب شرائع بخصوص القرابين والذبائح الخاصة بالمواسم والأعياد، وكذلك شريعة إيفاء النذور (عد 28-30). وهناك أيضاً أمر الرب موسى بأن ينتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين الذين وضعوا عثرة أمام الشعب وأسقطوهم في الزنا مع نسائهم وفي عبادة الأوثان (عد 31). وفي ذلك الموضع أيضاً طلب سبطا رأوبين وجاد من موسى أن يُعطيهم نصيبهم من الأرض في شرقي الأردن في البلاد التي استولوا عليها من الأموريين وملك باشان. فوافق موسى على طلبهم بشرط أن يُحاربوا مع إخوتهم حتى يملكوا أنصبتهم في عَبْرَ الأردن (عد 32). وصية الرب لبني إسرائيل قبل عبورهم الأردن إلى أرض كنعان: + «وكلَّم الرب موسى في عربات موآب على أُردن أريحا قائلاً: كلِّم بني إسرائيل وقُل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان. فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتُبيدون كل أصنامهم المسبوكة، وتُخربون جميع مرتفعاتهم. تملكون الأرض وتسكنون فيها، لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها. وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم. الكثير تُكثِّرون له نصيبه والقليل تُقلِّلون له نصيبه. حيث خرجت له القرعة فهناك يكون له. حسب أسباط آبائكم تقتسمون. وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم، يكون الذين تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم ومناخسَ في جوانبكم، ويُضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها. فيكون أني أفعل بكم كما هَمَمْتُ أن أفعل بهم» (عد 33: 50-56). كان الشعب في سهول موآب على الجانب الشرقي من نهر الأردن المواجه لأريحا. وكانوا على وشك العبور للنهر لكي يمتلكوا أرض كنعان، الأرض التي طالما تاقوا إليها، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، تلك التي سوف يقتسمونها بينهم حسب وعد الرب لهم. ولكن كان يلزمهم لكي يثبتوا في هذه الأرض بعد أن يمتلكوها، أن يعملوا بكل ما يُوصيهم به الرب لأجل صيانة حياتهم الروحية وسلامهم وتأمين إقامتهم في أرض الموعد. فقد أوصاهم الرب بهذه الوصايا: 1 - أن يطردوا كل سكان الأرض من أمامهم، حتى لا يختلطوا بهم فتفسد أخلاقهم بمعاشرتهم والتعامُل معهم، «فإن المُعاشرات الرديَّة تُفسِد الأخلاق الجيدة» (1كو 15: 33). فقد كانت تلك الشعوب الكنعانية في أحطِّ المستويات الأخلاقية بسبب عباداتهم الوثنية. 2 - وأن يمحوا جميع تصاويرهم ويبيدوا كل أصنامهم المسبوكة ويُخرِّبوا جميع مرتفعاتهم، لئلا تصير لهم فخّاً وعثرة، فتتكرر مأساة عبادتهم للأصنام مثل سجودهم للعجل الذهبي (خر 32)، وعبادتهم لبعل فغور (عد 25). أما تلك المرتفعات التي كان يجب عليهم أن يخربوها، فقد كانت تلك الأمم الوثنية تختار الأماكن المرتفعة فوق الجبال لكي تقيم فيها معابدهم ومذابحهم لتقديم العبادة فيها لآلهتهم ظنّاً منهم أن الأماكن العالية تساعد الآلهة على سماع صلواتهم. 3 - وقد أعطاهم الرب هذه الأرض ليمتلكوها لأنه هو رب الأرض كلها وملكها، ولأن ذنب تلك الشعوب التي كانت تسكنها قد كمُل أمام الرب واكتمل كأس غضبه عليها وحان زمان قصاصها. 4 - أما بنو إسرائيل فكان عليهم أن يقتسموا تلك الأرض بالقرعة بما يتناسب مع عدد أفراد كل عشيرة، بكل عدل وإخلاص. 5 - أما إذا تهاونوا في طرد تلك الشعوب الوثنية من وسطهم فإنهم سيكونون ”أشواكاً في أعينهم“ بما يرونه من أفعال معثرة تفسد أفكارهم، و”مناخس في جوانبهم“ أي خطراً ومصدر إيذاء لهم، ويضايقونهم في معيشتهم. وهذا هو ما حدث بالفعل في تاريخ بني إسرائيل في عهد القضاة وفي عهد الملوك، عندما تهاونوا مع بعض تلك الشعوب وقطعوا معهم عهوداً، فتسبَّبوا في إيذائهم ومضايقتهم، واجتذبوهم مراراً كثيرة إلى عباداتهم الوثنية. 6 - وفي النهاية حذَّرهم الرب بشدة من عواقب مخالفتهم لوصاياه التي هي لخيرهم وسعادتهم قائلاً: «فيكون أني أفعل بكم كما هَمَمْتُ أن أفعل بهم»، أي أنهم إذا خالفوه وعصوا وصاياه، فإنه سيُعاقبهم كما هو مزمع أن يُعاقب تلك الشعوب، فيحرمهم من الأرض التي هو مزمع أن يحرم تلك الشعوب منها. والآن، بما أن أرض الموعد كانت رمزاً لملكوت السموات بالنسبة لنا نحن إسرائيل الجديد بنو العهد الجديد، فإنه يلزمنا أن نُطبِّق ما أوصى به الله بني إسرائيل على أنفسنا لكي نستحق أن نرث ملكوت السموات ونثبت فيه. فملكوت السموات نعيشه من الآن إن كنَّا قد قبلنا المسيح فادياً ومخلِّصاً لحياتنا: «ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21). فملكوت الله هو راحة الحياة الجديدة في المسيح، التي هي ليست راحة مطلقة ولا هي غير معتمدة على جهادنا المستمر ضد الخطية، بل هي جهاد مسنود بالنعمة التي يؤتَى بها إلينا عند استعلان يسوع المسيح في حياتنا بإلقائنا كل رجائنا عليه (1بط 1: 13). لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس (رو 14: 17). لذلك يلزمنا نحن أيضاً أن نعمل بكل ما أوصانا به المسيح: «فكل مَن يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أُشبِّهه برجل عاقل، بنى بيته على الصخر. فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبَّت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسَّساً على الصخر» (مت 7: 25،24). هذا البيت المبني على الصخر يؤسِّسه الإنسان الحافظ لوصايا المسيح والعامل بها، بطرده لكل الأعمال الميتة التي للإنسان العتيق بقوة المسيح الساكنة فيه، كما قال بولس الرسول: «أميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديَّة، الطمع الذي هو عبادة الأوثان، الأمور التي من أجلها يأتي غضب الله على أبناء المعصية» (كو 3: 6،5)، «إذاً لا تَمْلِكَنَّ الخطية في جسدكم المائت لكي تُطيعوها في شهواته... فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو 6: 14،12)، «لذلك ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع ليكن عندنا شُكر به نخدم الله خدمة مرضية، بخشوع وتقوى، لأن إلهنا نار آكلة» (عب 12: 29،28). وكما يقول بطرس الرسول: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يَفْنَى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظٌ في السموات لأجلكم» (1بط 1: 4،3). أما إن لم نثبت في المسيح ونحفظ وصاياه: «فإننا نعرف الذي قال: لِيَ الانتقام، أنا أُجازي، يقول الرب. وأيضاً: الرب يدين شعبه. مُخيفٌ هو الوقوع في يدي الله الحي» (عب 10: 31)، «فهوذا لطف الله وصرامته: أما الصرامة فعلى الذين سقطوا، وأما اللطف فلك، إن ثَبَتَّ في اللطف» (رو 11: 22). (يتبع) **** ميلاد المسيح استعلانٌ شخصي لكل إنسان ******************************************* + ميلاد المسيح تاريخياً هو مفهوم عام، حدثٌ أو قصة تاريخية عامة يقبلها العامة على مستوى التصديق العام، الكل سواء بسواء. ولكن يوجد لميلاد المسيح قوة أو مجال آخر شخصي محض، يُستعلَن فيه لكل واحد بقدرٍ وبصورةٍ وبعمقٍ يختلف من واحد لواحد على قدر قامته، أو بالحري على قدر استعلان سرِّ الحياة الأبدية وفعلها داخل النفس، حيث يكون الله هو صاحب المبادرة في ذلك الاستعلان. + وهكذا، فإن ميلاد يسوع المسيح سيظل حدثاً تاريخياً عاماً، قصة يقبلها الجميع بحسب دقائق الرواية وشرحها وتأويلها، إلى أن تنفتح بصيرة الإنسان ويتقبَّل منها فعل الحياة الأبدية، فيُستعلَن له كل سرِّ الميلاد، وسرُّ شخص المولود الإلهي استعلاناً شخصياً محضاً. + ويلزمنا أن نعي تماماً أنه إذا كانت الغاية النهائية لكل إنسان، أي حقيقة النهاية في السماء لكل إنسان، هي شخصية محضة وتختلف من واحدٍ لواحد؛ فكذلك البداية، أي بداية التعرُّف والدخول في الحياة الأبدية هنا. + لذلك يلزمنا أن نعرف تماماً أن الله - كما سبق وقلنا - هو دائماً صاحب المبادرة في استعلان حقيقة نفسه، على أساس أن يحب ويشاء ويريد دائماً أبداً أن يُعلِن نفسه لكل إنسان، مهما كانت حالته... ****************************** (عن كتاب: ”أعياد الظهور الإلهي“، للأب متى المسكين، الطبعة الثالثة 1992، ، ص 238،237) |