دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تدبير الروح القدس

وتأسيس الكنيسة

- 1 -

الكنيسة

- 5 -
الوحدة الوثيقة
بين كنيسة المسيح على الأرض (البشر)
وفي السماء (القديسين)

تكملة لمقال الشهر الماضي عن الكنيسة السمائية والكنيسة على الأرض كنيسة واحدة:

حيث أوضحنا عقيدة الكنيسة القائمة على أن رأس الكنيسة الوحيد هو المسيح، وبالتالي فإن كنيسته في السماء وتلك التي على الأرض هي كنيسة واحدة، بالرغم من أنها تتضمن عنصرين غير قابلين للانفصال.

ويُعلِّم القديس بولس أولئك الذين أتوا من العالم وآمنوا بالمسيح واتحدوا بالكنيسة، هكذا:

+ «بل قد أتيتُم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم السمائية، وإلى ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات، وإلى الله ديان الجميع، وإلى أرواح أبرار مُكمَّلين، وإلى وسيط العهد الجديد يسوع، وإلى دمِ رشٍّ يتكلَّم أفضل من هابيل» (عب 12: 22-24).

إنه يُصوِّر للداخلين الجُدُد في عضوية الكنيسة على الأرض، صورة الكنيسة بوجهها السماوي، بأعضائها السماويين: الملائكة والأبرار القديسين، وبمذبحها السماوي، ورئيس كهنتها الأعظم، وذبيحته السماوية، والله الآب ديَّان الجميع الجالس على العرش؛ هذه هي الكنيسة التي يدخل إليها المؤمن الجديد من خلال الكنيسة على الأرض، حيث يُنادي الكاهن الشعب: ”ارفعوا قلوبكم“، أو ”أين هي قلوبكم“؟ فيصرخ الشعب مُجاوباً: ”هي عند الرب“، أي في السماء، لأن القداس الإلهي يجري - في الواقع - أمام المذبح السماوي فوق، حيث صوَّره القديس يوحنا الرائي في سفر الرؤيا هكذا: «ورأيتُ، فإذا في وسط العرش، والكائنات الحيَّة الأربعة، وفي وسط الشيوخ، خروف قائم كأنه مذبوح (المسيح القائم من بين الأموات)» (رؤ 5: 6).

وهذه هي الصورة الواقعية التي تحدث في كل مرة يُقام فيها القداس الإلهي في الكنائس.

وبالطبع، هناك فرق بين كنيسة المسيح على الأرض، وكنيسة القديسين في السماء. فأعضاء الكنيسة التي على الأرض لم يصيروا بعد أعضاءً في كنيسة السماء. ولكن لكل قسم من الاثنين عمله الخاص.

ويوضِّح هذا العمل أيضاً الأب متى المسكين في كتابه ”الكنيسة الخالدة“:

[ولكن ما صلة جسد المسيح السرِّي في الكنيسة، وجسده الذي في السماء الجالس عن يمين الله؟ هو جسد واحد بلا تفريق في السماء وعلى الأرض؛ غير أنه وإن كان جسده فينا يُستعلن ويُدرَك في الهبات التي ينالها الأعضاء المؤمنون، ففي السماء يُستعلَن أو يُدرَك كواهب]!!

[ولأن هذه الأعضاء يتصل كلٌّ منها بالرأس أي بالمسيح... فكل عضو يقوم بعمل خاص مُكمِّلاً العمل الذي بدأه المسيح على الصليب... وسوف يستمر عمل الأعضاء بلا توقُّف؛ سواء الذين انتقلوا وكوَّنوا قِسم الكنيسة السمائي، أم الذين لا زالوا تحت ثقل الجهاد والضيق، إلى غاية واحدة ونهاية أكيدة «إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان، ومعرفة ابن الله» (أف 4: 13)](1).

أما عمل الأعضاء في كنيسة السماء، فيشرحها كتاب ”الكنيسة الخالدة“ هكذا:

[والأعضاء الذين ماتوا لا يفصلهم الموت عن جسم الكنيسة، وإنما يتغيَّر عملهم فيها فقط، فبدل أن كانوا يخدمون بالجسد، فإنهم يخدمون الآن بالروح. وظهور موسى وإيليا على الجبل مع المسيح، وحديثهما مع الرب عن خروجه العتيد الذي كان عتيداً أن يُكمِّله في أورشليم (لو 9: 31)، مَثَل واضح على بقاء أعضاء الكنيسة المنتقلين أحياءً فيها يخدمون، كلٌّ في موهبته لتكميل الخدمة، ويسهرون على كلمة الرب ويتحقَّقون أنها حيَّة، وأنه يُحييها في وسط السنين لوفاء عهده، وهو يستخدمهم إذا لَزِم الأمر أحياناً بأن يظهروا على مسرح الحياة الأرضية علانية لتكميل رسالة خاصة(2)].

”الكنيسة الخالدة“ - صفحة 152

وواقعياً، تُعتبر كنيسة الأرض وكنيسة السماء شكلان مختلفان من الوجود الروحي، وإن كانا غير منفصلَيْن: فمَن في السماء هم بلا أجساد، وهنا على الأرض ذوو أجساد وموت جسدي؛ هناك الذين بلغوا ووصلوا، أما هنا فالذين يسعون لأن يبلغوا ويصلوا؛ هنا يعمل الإيمان، أما هناك فيرون الرب وجهاً لوجه؛ هنا يعمل الرجاء، أما هناك فتحقيق الرجاء.

إلاَّ أنه لا يجب أن نرى هذين النمطين من الوجود: السماوي والأرضي، كأنهما منفصلان. فإن كنا نحن لا نقدر أن نصل إلى هؤلاء القديسين في السماء، لكن القديسين يصلون إلينا.

فالرسل القديسون الذين رحلوا عن هذا العالم منذ عشرين قرناً، خلعوا جسدهم الأرضي، لكنهم لم يخلعوا عنهم جسد الكنيسة. فهم ليسوا فقط كانوا، بل ما زالوا وسيظلون هم أساس وأعمدة الكنيسة. فالكنيسة بُنيت على أساس الرسل والأنبياء، والمسيح نفسه هو رأس الزاوية للكنيسة (أف 2: 20)، وبينما هم في السماء، فهم يظلون في شركة مع المؤمنين والكنيسة التي أسَّسوها على الأرض في كل مكان، يبثُّون فيها من روحهم وتعليمهم، ويصلُّون من أجل تثبيتهم واحتمالهم آلام وضيقات الشهادة للمسيح

ومثل هذا المفهوم كان لدى آباء الكنيسة القدامى، سواء في الشرق أو في الغرب. وهذه هي كلمات القديس يوحنا ذهبي الفم:

[وأيضاً، ومرة تلو المرة، نحتفل بتذكار الشهداء. لقد تألموا، ونحن نفرح. هم جاهدوا، ونحن نطفر من الفرح؛ أكاليلهم هي فخر للكل، أو بالحري لكل الكنيسة. وقد يسأل سائل: فكيف يكون هذا؟ فالشهداء هم أعضاؤنا، «لا تقدر العين أن تقول لليد: لا حاجة لي إليكِ، أو الرأس أيضاً للرجلين» (1كو 12: 21). فالأعضاء تتكرم، لكن هذا التكريم الفائق لا يجعلهم غرباء عن ارتباطهم بالأعضاء الآخرين].

[فإن كان السيِّد لم يستحِ أن يكون رأسنا، فبالأَوْلى هؤلاء لا يستحون أن يكونوا أعضاءً لنا، لأن فيهم تتمثل المحبة، والمحبة دائماً توحِّد وتربط ما هو منفصل بالرغم من التنوُّع في الكرامة].

                                             القديس يوحنا ذهبي الفم

                                              في مديح الشهيد رومانوس

++++++++

ويقول القديس أوغسطينوس:

[لأن نفوس الموتى الأتقياء لا تغادر الكنيسة، التي هي ملكوت المسيح. وهذا هو السبب في إقامة التذكار على مذبح الرب أمام تقدمة جسد المسيح... فلماذا يُعمل هـذا إلاَّ لأن المؤمنين - حتى بعد الموت - يظلون أعضاء في الكنيسة].

والكنيسة في تمجيداتها للرسل تدعوهم الأعمدة التي بُنيت عليها الكنيسة، وهم أُسس الأرثوذكسية الذين وضعوا الإيمان في الكنيسة، وهم الأحجار الجوهرية الاثنا عشر.

وتصف ذكصولوجية القديس مرقس الإنجيلي الذي كرز بالمسيح في الإسكندرية سنة 60 م:

[يا مرقس الرسول والإنجيلي، الشاهد لآلام الإله الوحيد الجنس، أتيتَ وأنرتَ لنا بإنجيلك، وعلَّمتنا الآب والابن والروح القدس، وأخرجتنا من الظلمة إلى النور الحقيقي، وأطعمتنا خبز الحياة الذي نزل من السماء].

لاحِظ أن الذكصولوجية تُلخِّص كرازة القديس مرقس في أنه قدَّم لنا المسيح من خلال بشارته لنا بإنجيل الخلاص، وتسليمه لنا سر الإفخارستيا! ففي كل مرة نسمع الإنجيل ونتناول الإفخارستيا الكنيسة، نكون في شركة مع معلِّمنا القديس مار مرقس الرسول الإنجيلي ومع سائر الرسل والقديسين المنتقلين.

وهناك أساس لتمجيدنا باقي القديسين، من نفس كلمة الله: ففي رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي الرائي نسمع: «مَن يغلب، فسأجعله عموداً في هيكل إلهي» (رؤ 3: 12). فالقديسون هم أعمدة الكنيسة، ليس فقط في الماضي قبل انتقالهم، بل وفي كل الأزمان والأجيال هم هكذا، وإلى الأبد آمـين.

(يتبع)

 


(1) كتاب: ”الكنيسة الخالدة“، للأب متى المسكين، الطبعة الخامسة 2002، صفحة 132و134.

(2) من ذلك ظهور أرواح القديسين والشهداء والمعونات العظيمة التي يُقدِّمونها للمستغيثين بهم.