مُقتطفات من كلمة الدكتور عاطف العراقي
عن موضوع البحث وأهميته

في مقدمة مناقشته للرسالة المُقدَّمة من الباحثة عايدة نصيف

عن: ”دراسة مقارنة بين توما الأكويني والأب متى المسكين

عن التجديد الفلسفي اللاهوتي“

(24 يونيو 2009م)


 

لا شك أن الموضوع الذي اختارته الباحثة عايدة تحت إشراف الدكتورة زينب الخضيري (وهي الآن الأستاذة الأولى في مصر في فلسفة العصور الوسطى). يُعدُّ موضوعاً بالغ الأهمية، فهو يجمع بين شخصيتين من أكبر الشخصيات – وأقول هذا بكل أمانة:

1. شخصية القديس توما الأكويني وهو من أعظم فلاسفة العصور الوسطى، لأننا عادة نقول إن أربعة من الفلاسفة يقفون فوق قمة عصورهم، وأولهم أرسطو في مجال الفلسفة اليونانية قبل الميلاد، لأنه وقف وقفة نقدية من كل الآراء التي وُجدت قبله، ابتداءً من أول الفلاسفة طاليس حتى أستاذه أفلاطون؛ ثم ثاني الفلاسفة – من جهة التاريخ – ابن رُشْد، لماذا؟ لأنه تميز بحسٍّ نقدي دقيق بحيث أنه نقد كل الاتجاهات التي وُجدت قبله، سواء الاتجاهات الكلامية أو الاتجاهات السلفية بوجه عام، ثم الاتجاه الذي وُجد عند الغزالي الذي دعا إلى تحطيم الفلسفة والفلاسفة. وثالث الفلاسفة القديس توما الأكويني. فلا يمكن إطلاقاً أن نذكر فلسفة العصور الوسطى إلا بأن نخصص مساحة كبيرة للقديس توما الأكويني، لأنه تميَّز بحسٍّ نقدي لا أجده بنفس الدرجة عند كل الفلاسفة الذين قبله في كل العصور الوسطى المسيحية التي وُجدت قبله، لأنه نقد أكثر الاتجاهات التي قبله، فوقف على قمة العصر. ورابع الفلاسفة في العصر الحديث هو ”كانْتْ“، الفيلسوف الألماني لأن له أبرز اتجاه نقدي في الفلسفة الحديثة: نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي، ونقد مَلَكة الحكم، هذه الثلاثية هي التي جعلت لـ ”كانْتْ“ مكانة كبيرة جداً، لدرجة أننا نستطيع أن نقسِّم الفلسفة الحديثة إلى قسمين: ما قبل ”كانْتْ“ وما بعد ”كانْتْ“. فهي شخصية تشطر الفلسفة الحديثة إلى نصفين، وهذا بسبب الحس النقدي الذي تميز به ”كانْتْ“. وأنا أذكر للتاريخ كتدليل على أهمية الموضوع أني تناقشت سنوات مع أستاذي ومعلِّمي الأب جورج شحاتة قنواتي في حديقة دير الآباء الدومينيكان، حول أهمية توما الأكويني، وقد اتفقنا في أكثر النقاط كلها حول هل كان توما الأكويني متأثراً فعلاً بابن رُشْد أم أن هذا يعدُّ مُجانباً للصواب. وقد اتفقت مع رأي أستاذي الذي ناقشني في رسالتي للدكتوراه.

2. وأيضاً الأب متى المسكين  التقيت به أكثر من مرة. وربما تذكرون أني كتبت عنه بعض الدراسات سواء بعضها في جريدة الأهرام أو في بعض الفصول من خلال الكتب التي قمت بتأليفها، فأنا أعتز بهذه الشخصية اعتزازاً بلا حدود.

وأنا أشعر بأن روح الأب قنواتي وروح الأب متى المسكين تحلقان في السماء الآن في سعادة حينما يشعران بأن هناك مُهتمين بفكر القديس توما الأكويني وفكر الأب متى المسكين، رغم تباعد السنوات الطويلة جداً بيننا وبين توما وبعض السنوات القليلة بيننا وبين الأب متى المسكين.

وقد أنتج لنا الأب متى المسكين، كما تعلمون، آلاف آلاف الصفحات، وأيضاً إذا نطق الأب متى المسكين فهو ينطق الحكمة بكل أبعادها بحيث أن العديد من كتبه ورسائله – كما تعلمون – قد تُرجمت إلى أكثر من لغة. وقد تفضل مشكوراً بإرسال كل مؤلفاته إليَّ وأيضاً إلى بعض من لهم صلة بفكره من قريب أو من بعيد. ولسان حال الاثنين: الأب توما والأب متى المسكين كما نقول: هذه آثارنا تدل علينا، فانظروا بعدنا إلى الآثار. لا يبقى للإنسان إلا الأثر أو البصمة التي يضعها على مسار الفكر في مجاله.

فكر القديس توما يُعَدُّ فكراً خالداً، وفكر الأب متى المسكين يُعدُّ فكراً خالداً مهما مرَّت بنا السنوات والأجيال. يكفي أن نقول إن هذا الفكر فكرٌ صادر عن نفس زكية أخلصت للعلم بغير حدود، وأخلصت للبحث بغير حدود، لدرجة أن الإنسان يقف في دهشة حينما ينظر إلى الإنتاج الفكري الضخم الذي تركه لنا الأب متى المسكين. وقبله الآثار التي تركها القديس توما الأكويني.

وبطبيعة الحال إذا كان الأب متى المسكين في بعض المناسبات يعلن أنه لم يتأثر بالفكر الفلسفي بوجه عام، لكني أقول إن الإنسان أحياناً تتسرب إليه أفكار فلسفية دون أن يكون مُطلعاً على الكتب الفلسفية نفسها. والشاعر محمد إقبال الباكستاني ( 1877 - 1938م) حينما قيل له إن في بعض أفكارك ما يشبهها عند نيتشة الفيلسوف الألماني، قال إني لم أسمع عن مفكِّر اسمه ”نيتشة.“ فمن الممكن أن تتسرب أفكار فلسفية وغير فلسفية كثيرة إلى أي مفكِّر سواء بقصد تارة أو بدون قصد تارة أخرى. وأقول إنه لا يمكن إطلاقاً عزل تراث الأب متى المسكين عن التراث الفلسفي السابق عليه، وخاصة التراث الخاص بالقديس أوغسطين والتراث الخاص بالقديس بونافنتورا وغيرهما من الفلاسفة الكبار. ولابد أن ندرس المصادر، وهذا ما فعلته إلى حد كبير الباحثة عايدة، إلا أن كل فكر يقول به مفكر لابد أن يكون متأثراً بالسابقين، وإلا فإني أذكر عبارة من كتاب ”الطب التجريـبي“ تأليف كلود برنارد، والذي قام بترجمته أعظم عالم من علماء النفس أنجبتهم مصر هو الدكتور يوسف مراد إذ ترجم هذا الكتاب ترجمة أمينة ودقيقة، وذكر عبارة كلود برنارد حينما كان يبين لنا أن الإنسان إذا وصل في الحاضر إلى آراء أكثر دقة من آراء السابقين إلا أنه يجب ألا ينسى فضل السابقين على اللاحقين. وضرب مثالاً لنا أن الطفل إذا صعد فوق كتفيِّ أمه، فإنه يرى مدى من الرؤية أوسع من الرؤيا عند الأم، لذلك يجب أن يضع في اعتباره أنه لولا صعوده فوق كتفيِّ أمه، لما تسنى له أن يرى هذا المدى الأبعد. فنحن عالة على مَنْ سبقونا، ولابد أن نقدِّرهم تقديراً بلا حدود، وبهذا سيستمر تراث توما الأكويني إلى الأبد، وسيستمر أيضاً تراث الأب متى المسكين إلى أبد الآبدين، لأنه قد أخلص للبحث إخلاصاً بغير حدود.

 
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis