يمكننا
القول بوجود بصمات بارزة للرؤية القبطية في مجال الثقافة المصرية
والعربية. وشارك في تقديم الرؤية القبطية الكاثوليك والأرثوذكس
والبروتستانت.
وإذا كنا قد كتبنا عن الأب الرائد الدكتور جورج قنواتي مجموعة من
المقالات نشرت بجريدة الأهرام وحللنا مجموعة من كتبه الرائعة في دراسات
سابقة لنا, وذلك بعد إقامتي بدير الآباء الدومينكان بالقاهرة طوال خمس
سنوات أنهل من أعظم مكتبة بالشرق الأوسط, مكتبة الدومينيكان, وما
فيها من كنوز فكرية, وأتلقي العلم والمعرفة علي يد أستاذي الأب
قنواتي, فإنني أود في هذه المقالة أن أتحدث بعد الإشارة إلي الرؤية
القبطية في مجال الثقافة المصرية العربية, عن رائد آخر. وبحر من بحور
العلم والمعرفة في مصرنا المعاصرة, عشت مع كتبه وأفكاره سنوات
وسنوات, وهو الأب متي المسكين. وقد لا أكون مبالغا إذا قلت إنني لا
أتصور مثقفا مصريا أو عربيا إلا ويكون قد وضع في اعتباره تحليل الأعمال
الرائدة والشامخة, الأعمال الفكرية لإخواننا المسيحيين والذين آمنوا
بربهم ووضعوا في اعتبارهم مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. كيف نتصور ثقافة
مصرية إذا تغافلنا عن الحديث عن البصمات البارزة والظاهرة لهؤلاء
المفكرين الكبار والذين دعوا إلي نشر أسس الثقافة الإنسانية الرفيعة في
كل مجال من مجالاتها أدبا كانت أو فلسفة. هل يمكن التأريخ للحياة
الفكرية في مصر وسائر بلدان العالم العربي دون أن نضع في الاعتبار
المجهودات النظرية والجوانب العلمية والتي قام بتقديمها وتحقيقها إخوة
لنا في وطننا العربي العزيز, وأشقاء لنا في رحلة الحياة والمصير, كلا
ثم كلا, فتاريخ فكرنا الحديث والمعاصر يفخر بغير حدود بالإنجازات
الرائعة والتي من واجبنا أن نفخر بها ونقدرها حق قدرها. وأود الإشارة
بإيجاز عن دورهم في الثقافة, قبل الحديث عن الأب متي المسكين. إن
الحديث عن دورهم في الثقافة بمعناها الواسع الشامل, يحتاج منا إلي
مجموعة من المجلدات, فأعمالهم لا يستطيع إنكارها إلا كل جاهل أو متعصب
أو ضيق الأفق. هل نستطيع أن نتغافل عن دورهم القومي في منطقة الشرق
الأوسط من تعليم ونشر ثقافة وإنشاء صحف ومجلات رفيعة المستوي وإسهام في
تأسيس الجامعة المصرية ونشر للفكر السياسي( اخنوخ فانوس, استر فهمي
ويصا, أبسخرون, مكرم عبيد, جورج خياط, روجينا خياط) وتأريخ
للفلسفة طوال عصورها( يوسف كرم).
بل إن من يطالع المجلد الكبير والذي يعد دراسة توثيقية بعنوان:
الإنجيليون والعمل القومي, سيجد واجبا عليه الاعتراف بالدور الرائد
والحيوي الذي أداه ومازال يؤديه إخوة لنا في الوطن, وذلك في المجال
الثقافي والاجتماعي والسياسي, مجال الحرب والسلام, مجال الحوار بين
الأديان, ميدان غرس الروح الوطنية ونشر مباديء المحبة والأخوة. وهل
يمكن أن نقلل من الدور الإيجابي الذي قام به معاصرنا الدكتور القس صموئيل
حبيب, والذي يعد شعلة نشاط ليس في مصر وحدها, بل في أكثر بلدان
العالم شرقا وغربا.
إن التعرف علي معالم ثقافتنا الحديثة والمعاصرة وتحليل جذورها وسبر
أغوارها لايمكن تصوره إلا من خلال اخوتنا في الوطن والإنسانية. ومن
يتغافل عن ذلك, فوقته ضائع عبثا, وسيظل خارج إطار ثقافتنا
الحقيقية, سيبقي في الفناء حتي يدركه الفناء. أسماء كثيرة لا حصر
لها, كما قلت نجدها في تاريخ ثقافتنا بمعناها الواسع. صحيح أننا من
جانبنا قد نتفق معهم تارة ونختلف تارة أخري, ولكن هذا يعد من الأمور
المنطقية والطبيعية. نعم لقد بذلوا جهدا كبيرا يستحق الفخر والثناء,
وكانت أفكارهم خالية من روح التعصب والفتنة الطائفية. كانت ثقافتهم
موسوعية, وتدعو إلي فتح النوافذ أمام كل التيارات الفكرية في العالم
كله شرقا وغربا, لأنهم أدركوا أن من يحصر نفسه داخل جدران أربعة سوف
تكون ثقافته محلية الطابع, ثقافة راكدة فاسدة, ثقافة لا تملك لغة
الحوار مع الثقافات الأخري. لقد وضعوا في اعتبارهم أن الثقافة العربية
الجادة منذ قديم الزمان لم تتشكل إلا بعد أن حدث اللقاء السعيد بين الفكر
الغربي اليوناني, والفكر العربي. وهذا اللقاء السعيد قام به في
الأساس مجموعة كبيرة من النصاري والذين أقبلوا علي الترجمة, ترجمة
أمهات الفكر اليوناني من اللغة اليونانية والسريانية إلي اللغة
العربية, ولولا مجهوداتهم لما أمكن لعلماء العرب وفلاسفة العرب التعرف
علي ثمار العقلية اليونانية, وخاصة أننا لا نجد فيلسوفا عربيا في
المشرق, وفي المغرب العربي كان علي علم باللغة اليونانية, كما لا نجد
علما عربيا بالمعني الدقيق لكلمة العلم إلا ابتداء من العصر العباسي,
العصر الذي يمثل الاهتمام الفائق بالترجمة, والتعرف علي فكر الآخرين.
وما نجده من أفضال لهم علي ثقافتنا قديما, نجده حديثا. ألا يكفيهم
فخرا أننا لا نجد واحدا منهم, كان من أشباه المثقفين وأنصاف
المثقفين. أليس مما يجعلنا نعتز بمجهوداتهم ابتعاد كل واحد منهم عن
ثقافة البتروفكر, الفكر الزائف, الفكر الرجعي. هل يمكن أن ننسي
مجهودات الأنبا غريغوريوس, والبابا شنودة, ووليم سليمان قلادة,
وميشيل باخوم, ونسيم مجلي, وفخري قسطندي, وأنجيل بطرس وفرح أنطون
وفيليب خوري حنا, وحنا خباز, وجورجي زيدان وسلامة موسي ولويس عوض
وسامي جبرة وسامي عزيز وخليل صابات ومجدي وهبة ويعقوب صروف وبول غليونجي
والذي يعد كتابه عن ابن النفيس أفضل ما كتب بالعربية عن هذا الطبيب وبحيث
لا نجد دراسة أكاديمية واحدة عن ابن النفيس تكاد تقترب من هذا الكتاب,
لأن الدراسات الأخري إنما تعتمد علي المبالغة والخطابة والإنشاء, والأب
متي المسكين, والدكتور زكريا إبراهيم, وفوزي متري نجار, وغيرهم من
مئات الأسماء والشخصيات البارزة والتي وضعت بصماتها البارزة علي مسار
فكرنا العربي الحديث, وذلك بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم في
بعض الآراء.
وإذا انتقلنا الآن للحديث عن الأب متي المسكين, فإنه يمكننا القول إنه
يحتل مكانة رفيعة في تاريخ الثقافة الدينية المعاصرة. إن القاريء لكتبه
وما أكثرها يدرك تمام الإدراك أن مفكرنا الأب متي المسكين والذي يعمل في
صمت العلماء وهدوء المفكرين, قد أثري المكتبة العربية بالعديد من الكتب
والرسائل التي تكشف عن إيمانه بالتسامح الديني والابتعاد كل البعد عن روح
التعصب. لقد أدرك الرجل بثاقب نظره أن الشعوب لا يقدر لها الاستمرار
والازدهار إلا إذا اتخذت من التسامح دليلا ومرشدا لها في حياتها الحاضرة
والمستقبلة, أما إذا سادت روح التعصب, فإنها سرعان ما تتفرق وتتشتت
وتنتهي إلي زوال. وهل يمكن أن نذكر دير القديس أنبا مقار والرهبنة في
مصر, إلا ونذكر معها الدور الرائد والحيوي الذي أداه ومازال يؤديه
المفكر الزاهد والعالم المتأمل في صمت الأب متي المسكين. ترك لنا الرجل
مجموعة من المؤلفات والرسائل لا حصر لها, ومن بينها حياة الصلاة
الأرثوذكسية وصوم العذراء القديسة مريم, وفلسفة الموت عند شهداء مصر
وتاييس امرأة الأساطير, وملكوت الله, والمرأة حقوقها وواجباتها
والحياة الاجتماعية والدينية في الكنيسة, و أتباع المسيح وبهرجة
الفلسفات, و رأي في تحديد النسل, وقصة الإنسان, ورسائل روحية, و
مقالات بين السياسة والدين, و أعياد الظهور الإلهي, و توجيهات في
الصلاة, والوحدة المسيحية في ضوء معني الكنيسة, وحقيقة المسيح,
والمسيحية في الأسرة, والتوبة, وغاية الحياة المسيحية, والرهبنة في
عصر القديس أنبا مقار, والقيامة والصعود, وصوم الرسل ومكانته الروحية
في الكنيسة, والشهادة والشهداء, والعمل الروحي, وسفراء من العالم
الآخر, والقديس أنطونيوس, ناسك إنجيلي, والفضائل المسيحية بحسب
الإنجيل, وقصة استشهاد الرسولين, بطرس وبولس, والتوبة والنسك في
الإنجيل, والصوم الأربعيني المقدس.
هذه نماذج من كتب ورسائل الأب متي المسكين, والواقع أن القارئ لهذه
الكتب وغيرها من الكتب التي تركها الرجل, يجد نفسه أمام عالم غزير
الثقافة, مفكر مثقف تشغله المشكلات الاجتماعية والثقافية. إنه يمثل
المثقف خير تمثيل, فهو لا يقتصر علي مجال محدد من المجالات الفكرية,
بل نراه حريصا علي وصف الداء وتقديم العلاج. نعم إنه صاحب ثقافة روحية
موسوعية, وبحيث لا يملك القارئ له, إلا الإعجاب بالرجل الذي يعمل في
صمت والإشادة بنموذج الحياة التي اختارها وبعيدا عن ضجيج الدنيا والتكالب
علي المناصب الزائلة, وبحيث يبتعد تماما عن بريق الشهرة والطبل
الأجوف. |