الخليقة كلها تهلَّلت بمجيئك

 

إن فرحة الكون العلوي في لحظة ميلاد المسيح، وظهور الملائكة يسبِّحون بأمجاد الله، دليلٌ ما بعده دليل على أن سر التجسُّد يتجاوز حدود الخليقة المنظورة.

ألم تسبق أخباره في العالم العلوي غير المنظور، حيث بدأت البشارة من فوق، قبل أن تفيق البشرية من نعاسها لتدرك سر الميلاد؟

لقد سرى التجسُّد لا كخبر بل كقوَّة بين الخلائق الروحانية! حتى إن الملائكة وهي منحجبة بطبيعتها عن أعين الناس وأسماعهم، وُهبت في هذه اللحظات قوة على الظهور والبشارة والتسبيح، ورأى الإنسان وسمع ما لم يُرَ وما لم يُسمع ...

ألا يعني هذا أن بميلاد المسيح قد رُفع الحجاب المتوسط، توطئة للمصالحة العظمى المزمع أن يكملها على الصليب، ثم بقيامته وصعوده يفتتح الطريق إلى السماء؟

'&'

لقد ظلَّت ساعة البشرية في دوراتها الطويلة المملَّة عبر الدهور السالفة، تعد أيام الإنسان التي طالت في شقاء وبلا رجاء، دون أن تحس الملائكة لا بغدوات الإنسان التي تشرق ذابلة ولا بأمسياته التي تذهب حزينة، إلى أن بلغت ساعة البشرية لحظة، حُسبت أسعد لحظات الإنسان طرا، انفتحت فيها السموات لتستقبل خبر ميلاد ابن الله وظهوره بالجسد في عالم الإنسان؛ ومن بعدها دخلت أيام البشرية في مجال الخلود بقدر ما اقتحم الخلود مجال أيام الإنسان وآلامه!!

لقد غيَّرت لحظة ميلاد المسيح مركز انطلاق الزمن، وجدَّدت قياسه. فبعد أن كان يرتكز في انبعاثه على حوادث الإنسان، بدأ ينطلق من يوم الميلاد كأساس لقياسه، وبعد أن كان يعدُّ على الإنسان أيام شقائه، صار يقيس له أيام خلاصه. ففي المسيح، كل يوم للإنسان صار يوم خلاص إذا شاء؛ وكل ساعة وقتاً مقبولاً في وجه يسوع المسيح ...

الله كلَّمنا، في قديم الأزمان، بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة، ولكنه في هذه الأيام كلَّمنا في ابنه يسوع المسيح بهاء مجد الله ورسم جوهره (عب 1:  1 - 2)! وبهاؤه ورسمه لا يُدرَكان إلا بالإيمان بالرؤيا المعقولة غير المصوَّرة، حينما يحل المسيح بالإيمان في القلوب التقيَّة، فتمتلئ من بهجة حضور الله وتشتعل بالحب غير المنطوق به.

'&'

كان استعلان الله للعالم في العصور السالفة يتم على مستويات الحكمة في حدود المنطق والبلاغة، وبقدر ما أوتي الإنسان من فلسفة وتصور، وكان ذلك ضرورة حتى يتمهد ذهن الإنسان ومنطقه لقبول استعلان الله، بواسطة المسيح الذي هو عقل الله وكلمته.

وبميلاد المسيح بلغ استعلان الله للعالم آخر مراحله ومنتهاها، لا بتوسُّط الحكمة ولا على مستوى المنطق، بل تعدَّى كل ذلك وكل حدود الفلسفة والتصوُّر أيضاً، فقد تم الاستعلان الإلهي على مستوى حياة! حياة في إنسان! حياة فيها كل ملء الله وحضرته ببرهان القوة والفعل لا ببرهان الكلمة والعقل! ... حياة الله في إنسان كامل: يسوع المسيح!!

بميلاد المسيح بطلت الحكمة البشرية وفقدت قيمتها، كواسطة لاستعلان الله أو حتى الاقتراب إليه ... وتوقَّفت الكلمة البشرية بكل منطقها وبلاغتها، وأعطت الطريق لكلمة الله يسوع الحي المذخر فيه كل كنوز حكمة الله وقدرته، لكي بكلمته يحيي ويجدِّد ويقيم من الموت!!

لقد كان العالم يستمد معنى وجوده وكيفية عمله وغاية سعيه من عقل الإنسان ومنطق تفكيره، ولكن بعد أن تجسَّدت كلمة الله الخالقة للكون والمدبِّرة والضابطة لحركته وتطوُّره، ابتدأ يستمد الكون معنى وجوده ونظامه وغايته من مصدره الحقيقي يسوع المصلوب والقائم من الموت؛ ففي هذا المسيح الميت والحي فُهمت طبيعة العالم التي سقطت وقامت، وفي مجيئه الذي لا بد أن يتم سوف تنكشف غاية العالم ونهاية كل شيء!!

لقد حمل المسيح في صميم طبيعته وكيانه معنى الله ومعنى العالم!!

ما أجمل الله في شخص يسوع وما أبدع العالم معه.

لقد رُئي الله في يديه الحانيتين شافياً معافِياً، وفي فمه معزِّياً مفرحاً، وفي عينيه باكياً متألِّماً!!

وقد رُئي العالم في المسيح كطفل صغير يتعلَّم كل يوم، ويتهذَّب ويتأدَّب في مدرسة الله، «اذهبوا ... تلمذوا جميع الأُمم!» (مت 28: 19؛ مر 16: 15)

لم يعد الله - في المسيح - بعيداً عن العالم، متجاهلاً أمراضه وأتعابه وأعوازه ...

ولم يعد العالم - في المسيح - بعيداً عن الله، متجاهلاً حبه ورحمته وفداءه ...

'&'

المسيح في تجسُّده لم يعلن عن عظمة الله المنظورة لأن العالم المادي لا يحتملها، لذلك أخلى ابن الله ذاته من كل مجد منظور ليعطي العالم فرصة ليدرك عظمته من وراء اتضاعه!!

فالتجسُّد في حقيقته وسره، استعلان منظور لعظمة اتضاع الله!!

وهو قصد في نفسه أن يعيش في سحق وضعف وإذلال، توضيعاً لقلب الإنسان المتعالي ...

الله ظهر بجبروته مرة في جبل سيناء فأرعدت سيناء وارتعدت الأرض ودخَّنت الجبال واشتعلت ناراً، واستعفى الشعب العاتي من سماع صوت القدير لأنه أرعبهم! ...

وفي الميلاد ظهر وديعاً بصوت خافت من فم طفل رضيع، فاهتزَّت له أساسات السماء بجبروتها وطأطأت وانخفضت وانحدرت جماهير جند العلي إلى الأرض تسبِّح الله من فرط تأثرها، لأن اتضاع الله أرهبهم! ...

وهكذا فإن كل جبروت الله لا تحتمله الخلائق الخاطئة، فاتضاع الله لا تحتمله الخلائق السمائية الطيبة! ...

لذلك، فسرُّ الميلاد لا يهز إلا القلوب التقية.

'&'