دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مقالات سابقة للأب متى المسكين

تأملات في أسبوع الآلام

ـ 3 ـ

جمعة الصلبوت

 الأب متى المسكين

كتاب: تأملات في أسبوع الآلام (3)

      جمعة الصلبوت

(مقالات وعظات كُتبت وأُلقيت في مناسبات متنوعة، ونُشرت ضمن طبعات كتاب: ”مع المسيح في آلامه حتى الصليب“ من سنة 1976 إلى سنة 2000).

*******

المقالة الأولى

 

عظة يوم الجمعة العظيمة:

 ”أما يسوع فجلدوه وأسلموه ليُصلَب“

    في هذا اليوم تمَّت جميع النبوَّات والرموز. يوم تكدَّست فيه جميع أنواع المظالم والقسوة ليتم كل المكتوب عنه.

UvVvU

 

كانت محاكمة يسوع والسعي في سفك دمه أموراً تجري بغاية السرعة لأن حقد رؤساء الكهنة والفرِّيسيين عليه كان شديداً، حتى أن كل لحظة تأخير كانت تزعجهم. وكان كل غرضهم أن يتخلَّصوا منه حتى يتفرَّغوا للتمتُّع بالعيد والاحتفال به.

كان سخطهم عليه شديداً لأنه كشف ما بداخلهم لأنفسهم وللناس، فلم يطيقوا رؤيته أو احتمال بقائه.

كانوا قساة ولكنها قسوة مملوءة بالخوف والرعب منه، فأرادوا أن يتأكَّدوا من موته بأنفسهم، ولما مات ظلوا مرتعبين أيضاً لئلا يعود فيقوم كما سبق وقال لهم. كم من معاندين ليسوع المسيح اتَّصفوا بالجرأة والقحة في أساليب مهاجمتهم له ولأولاده في كل العصور، ولكن كان في قلوبهم دائماً رعب من سطوته أشد من رُعبة اليهود الذين قتلوه.

 

”اصْلِبْهُ، اصْلِبْهُ“:

كان الشعب ضحية القيادة العمياء، وكان المال أصل البلاء.

فهؤلاء الذين استقبلوه بأجمل مِمَّا يُستقبل به الملوك، استطاع رؤساء الكهنة بمالهم وسلطان كهنوتهم أن يجعلوهم يصرخون في وجهه: «اصْلِبْهُ، اصْلِبْهُ!» (لو 21:23)

نسوا إحساناته ومواساته. أين معجزاته؟ أين الذين أقامهم من الموت؟ أين الذين شفاهم من البرص والشلل والعَمَى والصَّمَم؟ أين الذين أعتقهم من قيود الشيطان؟ أين الخمسة آلاف الذين أطعمهم في الجبل وأشبعهم من تعاليمه؟ أين تلاميذه؟ أين الشجاع بطرس؟ هربوا، هربوا كلهم! ما أحقر المُثُل والمشاعر التي قدَّمتها البشرية نحو مخلِّصها في يوم آلامه!! ولو كنا نحن في أيامهم لعملنا كما عملوا، وربما أردأ مِمَّا عملوا، لأننا بدونه لا نساوي شيئاً.

 

”ابْكِينَ على أنفسكُنَّ“ (لو 28:23):

لم يقبل المسيح بكاء النسوة عليه. رفض أن يتقبَّل مشاعر الأسى والحزن نحوه إذ هو «مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا... أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها، ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً.» (إش 5:53و4)

لم يتألم لأنه كان مُستحقاً للألم، ولم يُصلب من أجل ذنب عمله حتى يتقبَّل تعزية الناس له.

أخشى أن نخطئ في هذا اليوم ونحزن أو نبكي كبكاء النسوة ظانين أنه تألَّم من أجل نفسه، إنه جيدٌ أن نبكي على أنفسنا وعلى أولادنا لئلا تكون كل هذه الآلام التي قاساها السيد عبثاً، إذ نكون بجهالتنا قد ابتعدنا عنه بقلوبنا، فنُحرَم من المجد الذي أعدَّه لنا بآلامه!

إن كل ضربة وكل إهانة وكل ألم عاناه المسيح على الصليب كان من أجل كل فرد من البشرية في ماضيها وحاضرها، ليرفع عن كل واحد منا الحكم الذي كان لابد أن يوفيه.

إنها لم تكن آلام المسيح في الحقيقة، ولكنها آلامي وآلامك المستحقة علينا. نعم، فلنبكِ على أنفسنا.

 

”فخرج وهو حاملٌ صليبه“ (يو 17:19):

يوحنا الرسول يوضِّح لنا أن سمعان القيرواني لم يحمل الصليب كل المسافة، إذ قام المسيح بحمل صليبه في الأول، ولما سقط تحت الصليب رفعوه عنه وأعطوه لسمعان القيرواني، لا رحمة بالمسيح، وإنما خوفاً من أن يموت في الطريق فلا يُتمِّمون شهوة حقدهم وغيظهم بصلبه!!

أودُّ لو نتأمل: لماذا سقط المسيح تحت الصليب؟

لقد أمضى نصف الليل في جثسيماني في الصلاة، وكان عرقه يتصبَّب كقطرات دم.

ثم جاء يهوذا مع أعوانه وقبضوا عليه وقُدِّم وحوكم أمام مجلس السنهدريم.

ثم ذهبوا به موثقاً لبيلاطس ليُصادِق على الحكم، فاستهزأ به ثم أرسله إلى هيرودس، وبعد فحصه أعاده هيرودس إلى بيلاطس مرة أخرى، حيث ضغط رؤساء الكهنة على بيلاطس بإثارة الشعب وبتهديده بمكر أنه إذا أطلقه يكون عدوًّا لقيصر! فأسلمه لهم ليُصلب بعد أن هزأ به عساكر الرومان غلاظ القلوب وجلدوه ووضعوا على رأسه إكليل الشوك، حينئذ خرج وهو حاملٌ الصليب!!

كم مرة خار في الطريق؟ لا ندري. كم مرة أُغْمِيَ عليه؟ لا ندري. إنها أُخفِيَت عنا ولم تُذكر لأنها أقسى من أن توصف!!

 

احملوا هذا الشرف:

نعم، احملوا الصليب. لا أقصد هذه الصلبان الذهبية المتلألئة على صدوركم علامة البذخ والترف، وإنما أقصد صليب الموت!! لأن ليس للصليب معنى إلاَّ الموت.

يسوع المسيح حمل الصليب لأنه كان مستعداً أن يموت عليه.

فكل مَن يحمل الصليب ولا يكون مستعدًّا أن يموت عليه فهو كذَّاب منافق، لم يكذب على الناس وإنما على الصليب.

مَن يحمل الصليب، عليه أن يستعد للموت. ومَن استعد للموت، عليه أن يحتمل آلام الصَّلْب وما قبل الصَّلْب. فقبل أن تحمل الصليب أعدد نفسك للآلام!

طوبى للإنسان الذي لا يخشى الموت، وأسعد منه هو الإنسان الذي مات عن العالم وصَلَبَ أهواءه مع شهواته!

شعر بذلك غريغوريوس الكبير فقال: ”وقفت على قمة العالم حينما شعرت في ذاتي أني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً“.

 

”يا أبتاه اغفر لهم“ (لو 34:23):

هذا هو تاج الصليب أن نُصلَب نحن، ولا نَصلِب أحداً معنا!!

كان لابد أن يقول المسيح هذا ويطلب المغفرة لصالبيه حتى لا يكون في صلبه صلبٌ لأحد، ولا يكون في موته موتٌ لأحد؛ بل يموت هو ليُعطي الحياة لجميع الناس!!

هذا هو الذي قال لنا: «أحِبُّوا أعداءكم. باركوا لاعِنيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.» (مت 44:5)

احملوا الصليب، يا أحبائي، ولكن أعود فأقول ليس صليب الذهب ذو السلاسل الجميلة؛ ولكن صليب الموت، الموت عن العالم، الصليب ذو الآلام، وذو الصَّفْح والغفران.