قصة من واقع الحياة 



محفظة جيب ضائعة

بينما أنا سائر في طريقي إلى منزلي، في يوم من أيام الصقيع، تعثَّرَت رجلاي في محفظة جيب مُلقاة على الطريق، يبدو أنَّ أحد المارة قد فقدها دون أن يدري.

انحنيتُ والتقطتها، ونظرتُ في داخلها لعلِّي أجد فيها أية بيانات عن صاحبها فأتصل به لإرجاعها له. ولكن المحفظة لم تكن تحوي سوى 3 دولارات، ورسالة ورقيَّة مطويَّة يبدو أنها كانت في المحفظة منذ سنوات.

كان المظروف الذي يحوي الرسالة مُتهرِّئاً. والشي الوحيد الذي يمكن قراءته كان عنوان الراسل. وبدأتُ في فضِّ الرسالة، لعلَّي أجد مفتاحاً يدلُّني على صاحب المحفظة. وأول ما قرأته كان تاريخ الرسالة عام 1924، أي أنَّ الرسالة قد كُتِبَت منذ أكثر من 60 عاماً مضت (حيث إنَّ أحداث هـذه القصـة وقعت في الثمانينيات من القرن الماضي)!

وكان خطُّ الرسالة يبدو أنه بخطٍّ نسائي جميل، وعلى ورق رسائـل ذي اللون الأزرق الفاتح. ومطبوع على الجانب الأيسر منه صورة زهرة جميلة. وكـانت الرسالة مُعَنوَنـة بـاسم: ”عزيزي جون“، ومضمونها أنها تُخبر المُرسَل إليه، والذي كان اسمه ”مايكل“، بأنَّ كاتبة الرسالة تقول له إنها ما عادت قادرة أن تراه مرة أخرى، لأن والدتها منعتها من ذلك. وكتبت في نهاية الرسالة أنهـا ستظل تحبُّه دائماً. وكـان توقيع الرسالة باسم ”هناء“.

كانت الرسالة جميلة، ولكن لم تكن هناك أية وسيلة لمعرفة شخصية صاحبتها إلاَّ من كَوْن اسمها ”هناء“، وليس أكثر من ذلك. ولكن كان يمكن طلب رقم استعلامات تليفونات المدينة، فقد يمكن لعاملة الاستعلامات أن تجد في قوائم أرقام التليفونات مَـن تتسمَّى باسم ”هناء“ في العنوان المكتوب بجانب الاسم على المظروف.

وبـدأتُ المحاولة، وتساءلتُ: ”حضرة عاملة الاستعلامات، عندي سؤال غير عادي. فإني أريد أن نجد وسيلة لتُخبريني برقم تليفون اسم الراسل الذي كـان عنوانـه مكتوباً على المظروف الذي وجدتُه داخل المحفظة“!

وردَّت عاملة الاستعلامات بأنها سوف تسأل رئيسها المُباشر لغرابة الاستفسار! وإذ تردَّدت إلى لحظةٍ، قـالت: ”حسناً، يوجد هنا رقم تليفون لهذا العنوان، لكني لا أستطيع أن أُعطيه لك“. وقـالت له على سبيل المجاملة، إنها هي سوف تطلب الرقم، وستشرح لصاحبته القصة، وتسألها ما إذا كانت تسمح بأن توصِّلها بك.

وانتظرتْ لعدة دقائق، ثم رَجَعتْ إليَّ وأنا في انتظار الردِّ، وقالت لي: ”الآن توجـد مُكالمة مُشتركة بيننا نحن الثلاثة، وستردُّ عليك صاحبة الرقم“.

وكان المُتكلِّم امرأة، فسألتها إنْ كانت تعرف أي شخص اسمه ”هناء“؟ وردَّت المتكلِّمة وهي تلهث: ”أوه، لقد اشترينا هذا البيت من أُسرة كان لها ابنة اسمها "هناء". ولكن كان ذلك منذ 30 عاماً مضت!“.

وسألتها: ”هل يمكن معرفة أين تسكن هذه العائلة الآن؟“. فأجابت بعد تردُّد: ”إني أتذكَّر الآن أنَّ ابنتهم "هناء" قد أَودَعت أُمَّها في بيت لإيواء العَجَزَة منذ عـدة سنوات مضت. فـربما إنْ استطعتَ الاتصال بهم، فلعلهم يدلُّونك على ابنتهم هـذه“.

وأعطت لي السيدة المُتكلِّمة اسم بيت إيواء العَجَزَة. وطلبتُ رقم تليفونه متسائلاً. فأخبروني بأنَّ السيدة العجوز قد توفِّيَت منذ عدة سنوات مضت، لكنهم يعرفون رقم تليفون ابنتها حيث تعيش الآن.

وشكرتهم جميعاً. وطلبتُ رقم هذا التليفون. وردَّت سيدة عليَّ قائلة بأنَّ ”هناء“ هذه التي أطلبها هي نفسها لم تَعُد في هذا البيت، لكنها الآن تعيش في بيت لإيواء العَجَزَة!

وقلتُ لنفسي: ”ما أسوأ هذه القصة! فما الذي يضطرني إلى الاستمرار في هذه العملية التي لا تنتهي؟ هل من أجل الثلاثة دولارات التي في المحفظة! ورسالة تعود إلى 60 سنة مضت!“. وعزمتُ على الانصراف إلى منزلي، وأدرتُ السيارة للعودة إلى البيت.

ولكني أقنعتُ نفسي بالاستمرار في تتبُّع هذه الرحلة التي تنقلني من رقم تليفون إلى آخر.

وهكذا طلبتُ رقم تليفون بيت إيواء العَجَزَة الجديد، حيث توجد ”هناء“ هذه. وأخبرني الرجل الذي ردَّ عليَّ: ”نعم، غالباً هي موجودة في غرفة المعيشة، وأنها معنا في هذا البيت“.

وكـانت الساعة قـد بَلَغَت العاشرة مساءً، وسألته إنْ كان يمكنني أن أحضر لرؤيتها؟ فأجابني بعد تردُّد وتعجُّب: ”حسناً، فربما تكون لك فرصة إذا كانت ما زالت في غرفة المعيشة تُشاهد التليفزيون“.

فشكرتُ الرجل، وسرتُ بالسيارة تجاه بيت الإيواء هذا. وكانت المُمرضة المُخصَّصة لفترة الليل والحارس هما اللذان استقبلاني عند الباب. وصعدنا معاً إلى الدور الثالث للمبني الكبير الذي يضمُّ بيت الإيواء. وفي غرفة المعيشة، قدَّمتني المُمرضة للسيدة ”هناء“.

كانت ”هناء“ سيِّدة في أواخر عمرها، وقد صار شعرها فضي اللون، مع ابتسامة جميلة على وجهها، وبريق في عينيها.

ذكرتُ لـ ”هناء“ عثوري على محفظة الجيب التي كانت مُلقاة في الشارع، وأظهرتُ لها الرسالة. وحال رؤيتها الرسالة ذات اللون الأزرق الفاتح والزهرة الصغيرة المرسومة على يسارها، تنهَّدَت تنهدة عميقة وقالت: ”أيها الشاب، هذه الرسالة كانت هي آخر صلة لي مع "مايكل"“.

وظلَّت ”هناء“ تنظر إلى الأمام، وكأنها تُفكِّر بعمق ثم قالت لي بلُطف: ”لقد أحببتُه جداً. ولكني كنتُ في السادسة عشرة من عمري في ذلك الوقت، وكانت أُمي تحسُّ بأني أصغر من أن أرتبط وأنا في هذه السنِّ. وكان "مايكل" جميلاً، لكني عزمتُ ألاَّ أُفكِّر في الزواج من أيِّ إنسانٍ آخر“.

وأرْدَفَت: ”"مايكل جولدشتاين" كان شخصاً رائعاً. إنْ كنتَ سوف تعثر عليه، فأَخْبِره بأني أُفكِّر فيه كثيراً“.

وتردَّدَتْ قليلاً، وكانت تعضُّ على شفتيها. ثم أردفت: ”أَلا تعلم! قُلْ له إني ما زلتُ أُحبه“. قالت هذا وهي تبتسم، والدموع تنهمر من عينيها، ثم استطردت: ”وأنا لم أتزوَّج. وإني أحسُّ بأنه لا يوجد إنسانٌ مثل مايكل“.

وشكرتُ ”هناء“، وودَّعتُها. ودخلتُ المصعد إلى الطابق الأرضي. وبينما أنا خارجٌ من الباب مُنصرفاً، إذا بحارس العمارة يُناديني متسائلاً: ”هل استطاعت السيِّدة أن تُساعدك فيما ذهبتَ إليها من أجله“. فأجبتُ: ”لقد أعطتني بيانات مُفيدة. على الأقل عرفتُ منها اسم عائلة مايكل "جولدشتاين". ولكني أظنُّ أني سأترك الموضوع إلى حين، لأني قضيتُ النهار كله مُحاوِلاً العثور على صاحب المحفظة“.

وكنتُ أحمل في يدي المحفظة منذ أريتُها للسيدة ”هناء“، وكانت من الجلد البنِّي بشريط أحمر على جانب إحدى زواياها. وحالما رأى الحارس المحفظة في يدي، قال لي: ”هاي! انتظر دقيقة واحدة من فضلك! هذه المحفظة هي للمستر "جولدشتاين". أنا أعرفها جيداً من الشريط الأحمر على جانب إحدى زواياها. وهو دائماً يفقدها. لقد عثرتُ عليها ثلاث مرات في دهاليز العمارة“!!

فانتبهتُ، وسألته: ”من هو مستر "جولدشتاين" هذا!“، بينما أَخَذَت يدي ترتجف.

فردَّ عليَّ: ”إنه واحد من العَجَزَة في الدور الثامن. إنه "مايكل جولدشتاين"، وهو دائماً يُضيِّع محفظته الجلدية وهو في الطريق“!

+ + +

وشكرتُ الحارس، وسريعاً رجعتُ إلى مكتب المُمرضة، وأخبرتها بما قاله الحارس. ورجعنا إلى المصعد ودخلناه، وأخذتُ أُصلِّي لعلَّه يكون هـو مستر ”مايكـل جولدشتاين“، وليته يكـون حاضراً هناك.

وفي الدور الثامن، قالت لي المُمرضة: ”أظنُّ أنه ما زال في غرفة المعيشة. إنه يحب القراءة. إنه عجوزٌ مُحبَّبٌ لنا جميعاً!“.

وتوجَّهنا إلى غرفة المعيشة التي ما زالت مُضاءة في هذا الدور الثامن، وكان قابعاً هناك رجلٌ يقرأ في كتاب. فتوجَّهَتْ نحوه المُمرضة وسألته: ”هـل فقدتَ محفظتك؟“. ونظـر إليها مستر ”جولدشتاين“ باندهاش! ثم دسَّ يده في جيبه الخلفي، وقال: ”أوه! إنها ضاعت! إنها غير موجودة!“.

فردَّت عليه المُمرضة: ”هذا الرجل الطيِّب وَجَدَ محفظة ضائعة على الطريق، ولعلَّها تكون هي محفظتك؟“.

وحينذاك سلَّمتُ للمستر جولدشتاين محفظته، وحالما رآها ابتسم، وقد انفرجت أساريره! وقال: ”نعم، إنها هي. ربما تكون قد انزلقت مني هذا اليوم. أنا أُريد أن أُعطيك مكافأة على أمانتك“.

فقلتُ له: ”لا، شكراً لك. لكني أُريد أن أُخبرك شيئاً ما. لقد قرأتُ الرسالة على أمل أن أعثر على صاحب المحفظة“.

وسرعان ما اختفت الابتسامة من على وجهه، وقال: ”هل قرأتَ الرسالة؟“. فرددتُ: ”وليس فقط قرأتها، بل وإني أعرف أين تكون "هناء" الآن؟“.

وفي التوِّ شحب وجهه مُتسائلاً: ”"هناء"! هل أنت تعرف أين هي؟ كيف هي الآن؟ وما حالها؟ من فضلك أخبرني!“، قال هذا متوسِّلاً.

ورددتُ بهدوء: ”إنها في حالة جيدة، وهي ما زالت متألِّقة تماماً كما عرفتَها“.

وابتسم الرجل العجوز إلى بُرهةٍ، ثم سألني: ”هل يمكنك أن تُخبرني أين هي الآن؟ أنا أُريد أن أُكلِّمها تليفونياً غداً“. وأمسك بيدي، وقال: ”هل تعرف أيَّ شيء عنها، يا مستر؟ لقد أحببتُ هذه الفتاة، وعندما وصلتني هذه الرسالة، اعتبرتُ أنَّ حياتي قد انتهت واقعياً! وامتنعتُ عن الزواج. وإني أظنُّ أني ما زلتُ أحبُّها!“.

وفي التوِّ قلتُ له: ”مستر جولدشتاين، هَلُمَّ معي“.

وأخذنا المصعد – أنا وهو والمُمرضة - ونزلنا إلى الدور الثالث. وكانت كل الممرَّات مُظلمة، فيما عدا واحداً أو اثنين مُضاءَين بضوءٍ خافت، مـا جعلنا نخطو طريقنا إلى غرفـة المعيشة، حيث كـانت ”هناء“ مـا زالت جالسة وحدها تُشاهد التليفزيون.

وسارت المُمرضة نحوها، وقالت لها: ”هناء“، وهي تُشير بلطف إلى ”مستر جولدشتاين“ الذي كان واقفاً بجواري عند الممر أمام باب الغرفة، وتساءلت المُمرضة وهي تشير إلى ”مايكل“: ”هل تعرفين هذا الرجل؟“.

وثبَّتت ”هناء“ نظَّارتها الطبيَّة على عينيها، وتطلَّعت لحظةً، ولكنها لم تنطق بأية كلمة. وتكلَّم ”مايكل“ بلُطف وكأنه يهمس: ”هناء، أنا مايكل! هل تتذكَّرينني؟“.

وشهقت هناء قائلة: ”مايكل! أنا لا أُصدِّق. مايكل! هل هو أنت يا مايكل؟“.

وتوجَّه ببطء نحوها، وتعانقا. وانصرفنا، أنا والمُمرضة، والدموع تنهمر من أعيننا على وجهينـا!. وقلتُ للمُمرضـة: ”انظري، كيف أنَّ الرب الطيِّب يعمل! وما يريده، فإيَّاه يعمل!“.

+ + +

وبعد ثلاثة أسابيع تلقَّيتُ مُكالمة، وأنا في مكتبي، من بيت الإيواء: ”هل يمكنك أن تأتي يوم الأحد القادم لتحضر مراسم الزواج؟ مايكل وهناء سوف يرتبطان في ذلك اليوم المقدَّس“.

وفي يوم الأحد، تمَّت مراسم الزيجة المقدسة، وقد حضر الاحتفال كل نُزلاء بيت الإيواء، وقد ارتدوا ملابس الاحتفال البيضاء الناصعة. وكانت هناء ترتدي لباس العُرس، وكانت كأنها في بهاء ونضارة الشباب!

وكان مايكل يرتدي حُلَّة سوداء، وكانت قامته الممشوقة تبدو وكأنه في ريعان الشباب. أما أنا فقد اعتبروني الصديق الأول لهما.

وقد منحهما بيت الإيواء غرفة خاصة لاستقبال المُهنِّئين ليروا العريس ذا الـ 79 عاماً، والعروس ذات الـ 76 عاماً، وكأنهما في ريعان الشباب. وكأنَّ فترة الخطوبة كانت حوالي 60 عاماً.

+ + +

+ «قـد علمتُ أنـك تستطيع كل شيء، ولا يَعْسُرُ عليك أَمْرٌ» (أي 42: 2).

+ «أَمَا قرأتم أنَّ الذي خلق من البدء خلقهما ذَكَراً وأُنثى؟ وقال: مـن أجل هـذا يترك الرجلُ أبـاه وأُمَّـه ويلتصق بـامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسدٌ واحدٌ. فـالذي جَمَعَه الله لا يُفرِّقه إنسانٌ» (مت 19: 4-6).

**** الإيمان والتقوى شقيقان مُتلازمان ***************************************************

[الإيمان والتقوى مرتبطان أحدهما بالآخر. هما شقيقان مُتلازمان: فمَن يؤمن (بالله) فهو تَقي؛ وكذلك أيضاً مَن هو تَقي، فهو أكثر يقينية في إيمانه (راجع يو 7: 17). فمَن بَقِيَ في حالة الإثم، كان بلا ريب أيضاً حائداً عن الإيمان؛ ومَن تخلَّى عن التقوى، تخلَّى كذلك عن الإيمان الحقيقي. وهذا ما شهد به الرسول بولس في هذا الشأن عينه، عندما ينصح تلميذه قائلاً: «وأما الأقوال الباطلة الدنسة فاجْتَنِبْها، لأنهم يتقدَّمون أكثر في عدم التقوى (ترجمة حرفية من النص)، وكلمتهم ترعى كآكلةٍ، الذين منهم هيمينايُس وفيليتُس» (2تي 2: 17،16). ثم يُعلِن أنَّ عدم تقواهما يرجع إلى أنهما: «زاغا عن الحقِّ (أي عن حقيقة الإيمان)، قائلَيْن: إن القيامة قد صارت» (2تي 2: 18).

وإذ أراد الرسول أن يؤكِّد مرة أخرى على أنَّ الإيمان هو قرين التقوى، قال: «وجميع الذين يُريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهَدون» (2تي 3: 12). ولكيلا يجحد أحدٌ التقوى مـن جراء الاضطهاد، عـاد ينصحهم (ينصح تيموثاوس وبقيـة المؤمنين) بالمحافظة على الإيمان: «وأمَّا أنت فاثبُتْ على ما تعلَّمتَ وأيقنتَ» (2تي 3: 14).

وكما عندما يصير الأخ مصدر عون لأخيه، ويصبحان سنداً الواحد للآخر؛ كذلك الإيمان والتقوى، إذ ينموان معاً يعتمد كلٌّ منهما على الآخر. فمَن تمرَّس بأحدهما، فبالضرورة يتشدَّد بالآخر. لذلك فحينما رغب الرسول أن يتروَّض تلميذه بالتقوى حتى النهاية، وأن يُجاهد من أجل الإيمان، قال له: «جاهد الجهاد الصالح الذي للإيمان، وتمسَّك بالحياة الأبدية» (1تي 6: 12).

********************** [القديس أثناسيوس الرسولي (295-373م) - من رسالته الفصحية الـ 11 لعام 339م]

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis