كلمات واختبارات للمنفعة - 8 -



من أقوال وسِيَر الآباء القديسين
الراهب والعمل اليدوي



من سيرة القديس أنبا أنطونيوس:

+ كان (القديس أنطونيوس) يوماً جالساً في قلايته(1) فأتى عليه بغتةً روحُ صِغَرِ نَفْسٍ ومللٌ وحَيْرةٌ عظيمةٌ، وضاق صدرُه، فبدأ يشكو إلى الله ويقول: ”يـا ربُّ إني أحبُّ أن أَخْلُصَ لكنَّ الأفكار لا تتركُني، فماذا أصنع؟“. وقام من موضعه وانتقل إلى مكانٍ آخر وجلس. وإذا برجلٍ جالسٍ أمامه وعليه اسطوانـةٌ ومتوشِّـحٌ بزنَّـارِ صليبٍ مثال الإسكيم، وعلى رأسه كوكلس(2) شبه الخُوذة، وكان جالساً يُضفِّر الخوص(3). وإذا بذلك الرجل يتوقَّف عن عمله ويقفُ ليُصلِّي. وبعد ذلك جلس يُضفِّرُ الخوصَ، ثم قام مرةً ثانيةً ليُصلِّي، ثم جلس ليشتغلَ في ضفر الخوص، وهكذا… أمَّا ذلك الرجل فقد كان ملاكَ اللهِ أُرسِلَ لعزاءِ القديس وتقويته؛ إذ قال لأنطونيوس: ”اعْملْ هكذا وأنت تستريح“. ومن ذلك الوقت، اتَّخذ أنطونيوس لنفسه ذلك الزِّيَّ الذي هو شكلُ الرهبنة، وصار يُصلِّي ثم يشتغل في ضفر الخوص. وبذلك لم يَعُد المللُ يُضايقه بشدَّةٍ. فاستراح بقوة الرب يسوع، له المجد.

الراهب وعمل اليدين:

+ كان الرهبان يعملون حتى في شيخوختهم، فقد انطلق الأب مقاريوس مرةً من الإسقيط حاملاً زنابيل فأُعْييَ من شدة التعب، ووضع الزنابيل على الأرض وصلَّى قائلاً: ”يا ربُّ، أنت تعلمُ أنه ما بَقِيَ فيَّ قوةٌ، وإذ به يجدُ نفسه على شاطئ النهر“.

+ وقال أنبا بيمين: ”إنَّ أنبا إيسيذوروس كان يُضَفِّرُ في كلِّ ليلةٍ حزمةَ خوصٍ. فسأله الإخوة قائلين: "أيها الأب، أَرِح نفسَك لأنك قد شختَ". فأجابهم: "لو أحرقوا إيسيذوروس بالنار وذَرَّوْا رمادَه، فلن يكون لي فضلٌ، لأن ابن الله من أجلي نزل إلى الأرض"“.

+ وقيل عن الأب بموا أيضاً لمَّا حضرته الوفاة، أنْ سأله الآباءُ قائلين: ”قل لنا كلمةً“. فقال: ”إني منذ دخولي هذه البرية وبنائي القلاية وسكناي فيها، ما انقضى عليَّ يومٌ واحدٌ بدون عمل، ولا أتذكَّر أني أكلتُ خبزاً من إنسانٍ، وإلى هذه الساعة ما ندمتُ على لفظٍ واحد تلفَّظتُ به. وها أنا منطلقٌ إلى الربِّ كأني ما بدأتُ بشيءٍ يُرضيه بعد“.

كيف يؤدِّي الراهب العمل ويُتمِّم صلواته؟

(طقس الرهبنة القبطية):

+ قيل: إنه حضر إلى الأب لوقيوس رهبانٌ من أولئك الذين يُدعَون مُصلِّين(4)، فسألهم عن عمل أيديهم، فقالوا له: ”نحن لا نهتمُّ بعمل اليدين، إنما نهتمُّ بالصلاةِ الدائمة، كقولِ الرسول“. فقال لهم الشيخ: ”أَمَا تأكلون وتنامون؟“. قالوا: ”نعم“. فقال لهم: ”فإذا ما جلستم تأكلون أو إذا نمتم، فمَن يُصلِّي عنكم؟“. فلم يكن لهم ما يُجيبونه به. فقال لهم: ”اغفروا لي، فإن عملكم ليس كقولكم، لكني أُريكم كيف أني أمارسُ عملَ يديَّ وأُصلِّي دائماً. وذلك بأن أجلس، بعون الله، وأَبُلَّ خوصاً وأُضفِّرَ الضفيرة، وأقول: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وككثرة رأفاتـك امْحُ إثمي". أَفمـا يُعتَبَر ذلك صلاةً؟“. أجابوه: ”نعم“.

قال لهم: ”وإذا مكثتُ هكذا طولَ النهار أعمل وأُصلِّي، فيكون لي عن عملي كل يومٍ ستة عشر فَلْساً، فأُعطي منها على الباب فَلسين (ليأخذها الفقير)، وآكل بالباقي. فيصبح آخذُ الفَلسين مُصلِّياً عني في وقت أكلي وفي وقت نومي، وبنعمة الله تَكمُل لي الصلاة الدائمة، كأمر الرسول. وإذ أُمارس عملي، فبذلك أَقهر شيطانَ الملل والشهوة. لأن الملل يؤدِّي إلى البطالة، والشهوةُ كائنةٌ في البطالة. والطريق التي سلَّمها لنا جماعةُ الآباءِ هي هذه: "إنه يلزمُنا أن نشتغل بأيدينا ونصوم طول النهار، ونقتني صمت اللسان، ونبكي على خطايانا"“.

+ زار أحدُ الإخوة الأب سلوانس في جبل سيناء. فلما رأى الإخوةَ مُنكبِّين على العمل، قال للشيخ: ”لا تعملوا للطعام البائد أيها الأب، لأن مريم اختارت لها الحظَّ الصالح“. فقال الشيخُ لتلميذه: ”أَعطِ الأخَ مُصحفاً (أي إنجيلاً) وأَدخِلْه في قلايةٍ فارغة“، ففعل. فلما حانت ساعةُ الأكل، بَقِـيَ الأخُ منتظراً على الباب مُترقِّباً وصول مَن يسألُه المجيءَ إلى المائدة. فلما لم يَـدْعُهُ أحدٌ، نهض وجاء إلى الشيخ، وقال له: ”أَمَا أكل الإخوةُ اليوم يا أبانا؟“. فأجابه: ”نعم“. فقال له: ”ولماذا لم تَدْعُني للأكل معهم؟“. فأجابـه الشيخ: ”ذلك لأنك رجلٌ روحانيٌّ، لستَ في حاجـةٍ إلى طعامٍ، وأمَّا نحن فجسديون نحتاجُ إلى طعامٍ، ولذلك نمارِسُ الأعمالَ. أمَّا أنت فقد اخترتَ النصيبَ الصالح، تقرأُ النهارَ كلَّه، ولا تحتاج إلى أن تأكل طعاماً“. فلما سمع الأخُ هذا الكلام، خرَّ ساجداً، وقال: ”اغفر لي يا أبانا“. فأجابه الشيخ: ”لا شكَّ أن مريمَ تحتاجُ إلى مرثا، لأن مريمَ بمرثا مُدِحَت“.

+ قال أحدُ الآباءِ: ”اهتم بعمل يديك ومارِسْه إنْ أمكنك ليلاً ونهاراً، لكي لا تُثقِّل على أحدٍ، وحتى يكـون لـك مـا تُعطي المسكين، حسب ما يأمر بـه الرسول، ولكي ما تصرع شيطانَ الضجر، وتُزيل من نفسك بقية الشهوات، لأن شيطان الضجر منكبٌّ على البطالـة وهـو في الشهوات كامنٌ“.

+ قال القديس نيلوس: ”إنَّ البطالة هي مصدر رداءة الأعمال، لا سيَّما من أولئك الذين قد عَدِموا الأب (الروحي). لأن اليهود لمَّا لم يكن لهم في البرية عملٌ يشتغلون به، خرجوا من البطالة إلى عبادة الأوثان. فعلينا ألاَّ نُفارِق عمل اليدين، لأنه نافعٌ جدّاً ومُهذِّبٌ“. (يتبع)

(عن كتاب: ”بستان الرهبان“)

(1) قلايـة مـن الكلمة اليونانية +++++++، ومعناها حجرة أو غرفة.
(2) من الكلمة اليونانية ++++++++++ المشتقة عن اللاتينية cucullus، ومعناها: غطاء للرأس.
(3) يأتي هذا الوصف في النص العربي، أما النص اليوناني فيكتفي بالقول: ”رأى رجلاً يُشبهه جالساً يعمل“، دون أن يذكر شكل ملابسه.
(4) بدعة ظهرت في سوريا، كانت تُنادي بعدم عمل الرهبان، ويعتبرونه مُعطِّلاً عن الصلاة الدائمة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis