بحث في العصر الرسولي



الحياة المسيحية في العصر الرسولي

القوة الروحية للمسيحية:

المسيحية العملية(1) إنما هي حياة جديدة روحية متميِّزة عن الحياة الأخلاقية الأدبية وتفوق الحياة الطبيعية. إنها حياة قداسة وسلام، حياة اتحاد وشركة مع الله الآب والابن والروح القدس، فهي حياة أبدية تبدأ من الولادة الثانية وتبلغ إلى القيامة. إنها تمسك بأعماق قلب الشخصية الإنسانية، إذ تعتق الإنسان من سيطرة الخطيئة، وتأتي به إلى اتحادٍ حي بالله في المسيح. ومن هذا العُمق تعمل كقوة مُطهِّرة ورافعة لقَدْره ومُنظِّمة لقُدرات وكفاءات الإنسان، أي الانفعالات والمشيئة والذهن، وتُحوِّل حتى الجسد إلى هيكل للروح القدس!

المسيحية تـرتفع فوق جميع الأديـان في ممارسـة الفضيلة والتقوى. إنهـا تُوضِّح أعلى مستوى لحُبِّ الله والإنسان، وهذا ليس مجرد عقيدة معنوية أو موضوعاً فيه عناء ورجاء؛ بل إنه حقيقة حيَّة في شخص يسوع المسيح الذي تمتلك حياته وقدوته قوةً وتأثيراً أكثر من كلِّ قِيَم ووصايا الحكماء والمُشرِّعين.

فالأعمال تتكلَّم بطريقة أوضح من الكلام. إنَّ أجمل أساليب الفلسفة الأخلاقية لم تستطع أن تُجدِّد العالم وتنتصر عليه. فقد فعل ذلك إنجيل المسيح ولا يـزال يفعل ذلك بصفة دائمة. لقد أقـرَّ أكثر رجال اليونـان وروما حكمة الرِّق (أي العبوديـة) وتعدُّد الزوجات والمحظيات والظلم والانتقام وقَتْل الأطفال، أو أنهم أفسدوا بسلوكهم أطهر مـا لـديهم مـن قِيَم.

أما المستوى الأخلاقي لليهود فقد كان أسمى من ذلك، ومع ذلك فلم يَدَّعِ أحدٌ من بطاركتهم أو ملوكهم أو أنبيائهم الكمال. ويذكر الكتاب المقدس بـإخلاص ضعفات وخطايـا إبـراهيم ويعقوب وموسى وداود وسليمان بجوار فضائلهم.

أما شخصية المسيح من المذود حتى الصليب، فهي بدون وصمة أو ملامة، فهو فوق التوبيخ أو الشُّبْهَة. وقد تعرَّف عليه الصديق والعدو، بأنه أكثر طهارة وحكمة ظهرت على وجه الأرض. إنه أقرب ما يمكن أن يجعله الله مثيراً لاهتمام الإنسان، وما يمكن للإنسان أن يُثير اهتمامه بالله. إنه يُمثِّل أكثر ما يمكن تخيُّله والبلوغ إليه من انسجام المفهوم والواقـع الإلهـيَّيْن والبشـريَّيْن. والكنيسة المسيحية يمكن أن تنحلَّ بين يدَي أُناس خطاة، أمـا عقيدة وحياة مـؤسِّسها فهما ينبوع وتطهير لا يسقطان قط.

حياة الانسجام التام مع الله، والتكريس لصالح الجنس البشري، لابد أن تمتد من المسيح إلى أتباعه. فالحياة المسيحية إنما هي التشبُّه بحياة المسيح. فمِن كلمته وروحه وحياته ودستوره في الكنيسة، يتدفَّق تيارٌ لا ينقطع من الفداء والتقديس والقوة المُجدِّدة على الأفراد والعائلات والأُمم طوال أكثر مـن عشريـن قرناً، وسوف يواصل تدفُّقه حتى يتحوَّل العالم إلى ملكوت السموات، ويصبح الله هو الكل في الكل.

من أقوى البراهين على أصل المسيحية الفائق على الطبيعة، هو ارتفاعها فوق الثقافة الطبيعية والمستوى الأخلاقي لأساتـذتها الأوائـل. هـذه العقيدة والحياة الأكثر كمالاً قد تصوَّرت في صيادي السمك الجليليين غير المتعلِّمين، الذين لم يخرجوا من قبل ذلك من فلسطين، والذين كانوا بالكاد يقرأون ويكتبون!

وقـد علَّم الرسل عـن أعمق أسرار ملكوت السموات والتجسُّد والفداء والتجديـد والقيامـة لجماعات الفقراء والفلاحين الأُمِّيين، العبيد منهم والأحرار! لأنه «ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء» قد صاروا مدعوِّين؛ «بل اختار الله جُهَّال العالم ليُخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليُخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمُزدَرَى وغير الموجـود ليُبطِلَ الموجـود، لكي لا يفتخر كل ذي جسدٍ أمامه. ومنه أنتم بالمسيح يسوع، الذي صار لنا حكمةً من الله وبرّاً وقداسةً وفداءً، حتى كما هو مكتوب: ”مَن افتخر فليفتخر بالرب“» (1كو 1: 27-31).

إذا قارنَّا محيط الكنائس الرسولية بالحالة الفعلية لليهودية والوثنية المُحيطة بها، يكون ذلك مُفزعـاً مثل المقارنـة بين واحـة خضراء بها ينابيع حيَّة وأشجار عالية، وبين صحراء جرداء لا تحوي سوى رمل وحجارة.

فاليهودية بمجلس قُضاتها الرفيع، ارتكبت أبشع الجرائم بصَلْبها لمُخلِّص العالم ما عجَّل بهلاكها. والوثنية تمثَّلت فيما يُناسبها من أباطرة جبابرة مثل طيباريـوس وكاليجولا ونيرون ودومتيان، أظهرت صورةً من الفساد والانحطاط لا رجاء منها، كما وصفها بأكثر أشكالها ظلمة، ليس الرسول بولس فحسب؛ بل أيضاً مُعاصروها الوثنيون والكاتب الأخلاقي الرواقي الأكثر حكمةً فيهم ”سينيكا“، الذي هو مُعلِّم وضحية نيرون، الذي قال إنَّ تعاليم يسوع حملت أَسمى أخلاقيات يمكن للبشرية أن تبلغ إليها، وتأثير ديانته الروحانية ترجع إلى عظمة وطهارة وسُمو شخصيته التي ليس لها نظير، وإلى مبادئـه السامية لدرجة أنَّ ”الاقتداء بالمسيح“ أصبح هو غاية التبشير بديانته!

المواهب الروحية:

منذ يوم البنتيقسطي (الخمسين) مُنِحَت الكنيسة الرسولية جميع المواهب الروحية التي احتاجت إليها للتجديد الأخلاقي للعالم. فكأنها شكَّلت ثوب عُرْسها وسلاحها الكامل ضد المقاومة اليهودية والوثنية. وقد سُمِّيَت هذه المواهب ”قدرات خارقة“ charisms أو مواهب النعمة، تمييزاً لها عن المواهب الطبيعية، والتي لا تتعارَض معها. إنها طاقات خاصة يقينية وإظهار للروح القدس في المؤمنين لأجل المنفعة العامة (انظر 1كو 12: 7؛ 14: 12). فهي في أصلها، إذن، فائقة على الطبيعة، وهي تنسجم مع الفضائل الطبيعية. وفي عملها تتبع جميع مَلَكَات الإنسان الذهنية والأخلاقية، فترفعها إلى حيويَّة أعلى وتُكرِّسها لخدمة المسيح، وتستند كلها على الإيمان الذي هو ”موهبة المواهب“.

والمواهب الروحية تنقسم إلى ثلاث فئات: الأولى: مواهب عقلية للمعرفة، وهي - بصفة رئيسية - نظرية بطبيعتها وتتعلَّق مبدئياً بالعقيدة واللاهوت. والثانية: مواهب عاطفية للشعور، وهي تظهر - بصفة رئيسية - في العبادة الإلهية ولأجل التثقيف المباشر. والثالثة: مواهب عملية للمشيئة، مُخصَّصة لتنظيم وتعليم وتقويم أعضاء الكنيسة. ولكن هذه الفئات ليست منفصلة، بل إنها تعمل معاً بانسجام لأجل تقويم جسد المسيح. وقد ذَكَرَ العهد الجديد عشر مواهب: أربع مواهب لها علاقة بالعقيدة رغم أنها ليست قاصرة على ذلك، واثنتان منها لها علاقة بالعبادة، والأربع مواهب الباقية تتعلَّق بالسُّلطة الكنسية والأمور العملية.

الأولى: موهبة الحكمة والمعرفة أو البصيرة العميقة في طبيعة وأسلوب الكلمة الإلهية وعقائد الخلاص المسيحي.

والثانية: موهبة التعليم أو التطبيق العملي لموهبة المعرفة، أي قوة تفسير الأسفار المقدَّسة لتعليم وتقويم الشعب.

والثالثة: موهبـة النبـوَّة، وهي مُماثِلـة للموهبتَيْن السابقتَيْن، ولكنها تُوجَّه للشعور التَّقَوي أكثر منه للتأمُّـل النظري، وتنطوي على إلهامٍ أسمى من غيرها.

والرابعة: موهبة تمييز الأرواح، وهي تعمل – بصفـة رئيسـية - كمُرشد للموهبـة الثالثة بالتمييز بين الأنبياء الحقيقيين والزائفين، وبين الإلهام الإلهي والحماس البشري أو الشيطاني.

والخامسة: موهبة الألسُن، أي النُّطق بلغاتٍ، والذي ينبثق من حالة دَهَش بدون إدراك أو دراية المتكلِّم، وتكون غير مفهومة لدى السامع إنْ لم تُتَرجَم.

والسادسة: موهبة التفسير أو الترجمة، وهي تَدعم موهبة الألسُن، وتجعلها ذات نفع لجماعة المؤمنين بترجمة الصلوات والألحان من لُغة الروح والدَّهَش الروحي إلى مفهوم الوعي الرشيد.

والسابعة: موهبة الخدمة والمعونة، أي الكفاءة الخاصة أولاً لخدمـة الشمامسـة والشمَّاسـات، أو العنايـة الكنسـية المنتظمة بـالفقراء والمرضى، وبمعناها الواسع لأعمال المحبة المسيحية.

والثامنة: موهبـة التدبير الكنسي والعنايـة بـالنفوس، وهي لا غِنَى عنها للرعـاة وقـادة الكنيسة بالنسبة إلى مدى اتِّساع حقل عملهم.

والتاسعة: موهبة إجراء المعجزات، وهي القدرة التي امتلكها الرسل والآبـاء الرسوليون، لشفاء كل أنـواع الأمـراض الجسديـة، وإخـراج الأرواح الشريرة، وإقامة الموتى، وغيرها، بمقتضى الإيمان الفائق، وباسم الرب يسوع ولمجده.

والعاشرة: موهبـة المحبـة، وهـي أعظم المواهب وأثمنها وأكثرها نفعاً وأكثرها تحمُّلاً. وقد وصفها ومدحها بولس الرسول في الأصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى كورنثوس.

المسيحية في حياة الأشخاص:

+ «لكي تكونوا بلا لومٍ، وبُسطاء، أولاداً لله بلا عيب في وسط جيلٍ مُعَوَّجٍ ومُلْتَوٍ، تُضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم» (في 2: 15).

التحوُّل إلى القوة الروحية للمسيحية تظهر أولاً في حياة الأشخاص. فإنَّ الرسل والمسيحيين الأوائل قد ارتفعوا إلى أخلاقيات وتقوى تفوق جدّاً على أبطال الأساطير الوثنية، بل وتفوق على الصِّدِّيقين اليهود. لقد كان سلوكهم اليومي يُعبِّر عن اتحادٍ حي بالمسيح، لا يطلب سوى مجد الله وخلاص البشر. فإنَّ الفضائل الرئيسية، مثل: الاتضاع ومحبة الأعداء، لم تكن معروفة قبل المسيحية. ويُمثِّل كلٌّ من الرُّسل بطرس وبولس ويـوحنا أشكال القيادة الروحية المختلفة، أو نماذج التقوى المسيحية، بالإضافة إلى المعرفة اللاهوتية. وهم لم يكونوا بلا عيوب، ولكنهم تحقَّقوا بأنفسهم من عدم وجود كائـنٍ بلا خطيئة سوى سيِّدهم ومُعلِّمهم، كمـا أنهـم اعترفـوا بنقائصهم (انظـر مثلاً: في 3: 12-14؛ 2كـو 12: 7؛ 1كو 9: 27؛ يع 3: 2؛ 1يو 1: 8-10؛ غل 2: 11؛ أع 15: 39). ومع ذلك فقد اقتربوا من الكمال بقدر ما أمكنهم في وسط عالمٍ خاطئ، وكـان تـأثيرهم الأخـلاقي، في حياتهم وكتاباتهم في كل أجيال الكنيسة، بغير قياسٍ قط.

فكل شخصٍ كان، ولا يزال، يُظهِر روح المسيح وحياته بطريقته الخاصة. لأن الإنجيل لا يُهلك بل يفدي، ويُقدِّس وزنات البشر الطبيعية وطباعهم. فهو يُكرِّس نار لهيب كل مَن هو مثل بطرس؛ وطاقة كل مَن هو مثل بولس؛ والأفكار التأمُّلية لكل مَن هو مثل يوحنا، لخدمة الله. إنه يعرض، بطريقة مُذهلة، قوة الخَلْق من جديد في الاهتداء الفجائي لرسول الأُمم من أخطر عدو للكنيسة إلى أكفأ أحبَّائها.

لقد حلَّ روح الله على القديس بولس كعاصفة فيَّاضة، وعلى القديس يوحنا كنسيمٍ رقيق مُنعش. ولكن سكن في الجميع بنفس مبدأ الحياة الإلهية الجديدة والفائقة. وهم جميعاً يُعتَبَرون مُدافعين بنفس مبدأ الحياة الإلهيـة الجديـدة والفائقـة. وهم جميعاً يُعتَبَرون مُدافعين بملء الحيوية عـن المسيحية التي لا يمكن لأيِّ قلبٍ مُحبٍّ أن يُقاومها.

تأثير الإنجيل في حياة المرأة:

لاحِظ أيضاً تأثيرات الإنجيل الأخلاقية في حياة المرأة، فإنَّ المسيحية ترفع المرأة من حالة العبودية التي كانت تُقاسيها في كِلا اليهودية والوثنيـة، إلى مكانتها وأهميتها الأدبية، وتجعلها وارثة للخلاص مثل الرجـل: «كـونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف، مُعطِين إيَّاهُنَّ كرامةً، كالوارثات أيضاً معكم نعمة الحياة، لكي لا تُعاق صلواتكم» (1بط 3: 7).

كما أنَّ الإنجيل يفتح للمرأة مجالاً لأسمى وأحب الفضائل، فلا يُجرِّدها من أفضل زينتها. ووالدة الإله العذراء مريم، كأُمٍّ للمسيح، آدم الثاني، لها صلة بحواء، وتُعتَبَر - بالمفهوم الروحي - أُمّاً لجميع الأحياء (انظر تك 3: 20). وباعتبارها ”مُبارَكة بين النساء“ (لو 1: 42،28)، أصبح كل جنسها مُبارَكاً. ومع كونها ليست معصومة من الخطيئة، فهي كابنة لآدم تحتاج، مثل كل البشر، إلى الفداء والتقديس بواسطة المسيح، وهي نفسها تدعو الله مُخلِّصاً لها (لو 1: 47).

ونحن لابد أن نوقِّر العذراء مريم دون أن نعبدهـا، كنموذج للفضائـل المسيحية: الطهارة، والرِّقَّة، والبساطة، والاتضاع، والطاعة الكاملة لله، والخضوع للمسيح بإخلاص.

ونجد بعدها مجموعة من تلميذات الرب مثل: مريم زوجة حَلْفى، وسالومي أُم الرسولَيْن يعقوب ويوحنا، ومريم المجدلية، والنسوة الفاضلات اللائي كُنَّ يخدمن الرب في فقره الأرضي بعطايا حُبِّهن (انظر لو 8: 3)، واللائي رافقنه حتى الصليب (انظر يو 19: 25). وكانت مريم المجدلية أول مَن ظهر لها الرب بعد قيامته.

وبعد أن كانت المرأة مُستَعبَدَة لشهوة الرجل، أصبحت هي فخر زوجها وفرحه، والتي تُربِّي أبناءها على الفضيلة ومحبة الله. فهي زينة الأُسرة وكنزهـا، والأُخـت المُخْلِصة والخادمـة الغيورة لجماعة المؤمنين، وهي الملاك الحارس للسلام، ومثال الطهارة والاتضاع والرِّقَّة والصبر والمحبة والإخـلاص حتى الموت؛ حتى أنَّ ليبانيـوس الفيلسوف الوثني، الذي مدح الأدب اليوناني، عندما رأى والدة القديس يوحنا ذهبي الفم، قال بدون إرادته: ”ما أعظم النساء لدى المسيحيين“!

? وأحـوال المسيحيين في العصر الرسـولي يشرحها بأجمل وصف كاتب الرسالة إلى ديوجنيتس غير المعروف في القرن الثاني، بقوله:

[المسيحيون لا يُميِّزهم شيء عن غيرهم من ناحية الوطن أو اللغة أو المنشآت المدنية؛ لأنهم لا يُقيمون في مدنٍ خاصة بهم، ولا يستعملون لهجة خاصة، ولا يعيشون طريقة حياةٍ مستقلة. وهـم يتبعون عـاداتِ بـلادهم في مـلابسهم وطعامهم وجميع شئون الحياة. ولكنهم يُبدون سلوكاً رائعاً مختلفاً. إنهم يسكنون في أوطانهم ولكن مثل غربـاء، ويُشاركـون في الأمور (العامة) كمواطنين، ويُقاسون في كـلِّ شيء كغرباء. كل بلد غريبة يعتبرونها وطناً لهم، وكل وطن يعتبرونه غريباً... هم في الجسد، ولكنهم لا يعيشون حسب الجسد. يعيشون على الأرض، ولكنهم مواطنون سماويون. يُطيعون القوانين، ولكنهم يتفوَّقون على القوانين بسيرة حياتهم. يحبون الجميع، ويُضطهَدون من الجميع. هم غير معروفـين، ولكـن يُحكَم عليهم. يُقتَلون، ولكنهم ها هم يَحْيَوْن. هم فقراء، ولكنهم يُغنون كثيريـن. يُفـترَى عليهم، ولكنهم يتـبرَّرون. يُلعَنون، ولكنهم يُبارِكون. يُحتَقَرون، ويُكرمـون مَـن يحتقرهم. يعملون الخير، ويُعاقَبون كفاعلي شر، فيفرحون. ولا يمكن لأعدائهم أن يـذكروا سبب عداوتهم لهم.

كمـا يكـون الـروح في الجسد، هكـذا المسيحيون في العالم. الـروح منتشرة في جميع أعضاء الجسد، والمسيحيون ينتشرون في جميع مدن العالم. الروح تسكن في الجسد، ولكنها ليست من الجسد؛ هكذا المسيحيون يسكنون في العالم، ولكنهم ليسوا من العالم. الروح غير مرئيـة وتسهر على الجسد المرئي؛ هكـذا فالمسيحيون يُرَوْن أنهم عائشون في العالم، ولكن تقواهم غـير مرئيـة... الـروح تحب الجسد والأعضاء التي تُبغضها؛ هكذا يحب المسيحيون مُبغضيهم. الروح الخالدة تسكن في جسدٍ مائت؛ هكذا يسكن المسيحيون في العالم الفاسد إلاَّ أنهم يتطلَّعون إلى عـدم الفساد في السـماء. هـذا النصيب قد عيَّنه الله للمسيحيين في العالم، ولا يمكن أن يُؤخَذ منهم].

(1) History of the Christian Church, Ph. Schaff, Vol. I, p. 432.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis