المسيح
-30-


إعداد: الراهب باسيليوس المقاري

الخدمة العلنية للرب يسوع
- 6 -
الرحلة نحو أورشليم – تجلِّي المسيح فوق جبل طابور
وصوت الآب عن محبته للابن المتجسِّد

منذ معمودية الرب يسوع بالماء في نهر الأردن، وحتى ”معموديته“ بالدم على الصليب، كان ينمو الإيمان لدى التلاميذ بطريقة متدرِّجة، بحتمية حدوث واقعة في المستقبل لا نظير لها. هذا الإدراك الذي استنبطه كَتَبَة الإنجيل، هـو ما سَعَوْا إلى سَرْده ليجعلوا مـن تـلك الواقعة المنتَظَرَة حقيقة مستقبلية لدى قارئ الإنجيل، ليتهيَّأ لقبولها. وكانت حادثة تجلِّي المسيح فوق جبل طابور هي لحظة استيضاح لتلك النهاية الآتية التي لم تكن متوقَّعة من التلاميذ.

تلك النهاية كانت هي موت المسيح على الصليب، والذي خَتَم به خدمته الأرضية. وكانت هي تلك النهاية غير المتوقَّعة من جموع التلاميذ.

اعتراف القديس بطرس الرسول:

+ الاعتراف بأنَّ هذا هو الملك ”المسيح ابن الله الحي“ المسيَّا المنتَظَر: فقبل تجلِّي المسيح، بلغت خدمته في الجليل إلى قمتها. فالرب يسوع وتلاميذه كانوا قد بدأوا يكرزون في المنطقة المجاورة للحدود الشماليـة الغربيـة لفلسطين. وخدمة الكرازة هذه التي بدأت في الجليل، كانت على وشك أن تتحوَّل تجاه أورشليم.

وقد سعى الرب يسوع استعداداً للمراحل النهائية لجهاده على الأرض أن يوضِّح لأقرب تلاميذه إليه ما هو محور رسالته. ففي مدينة ”قيصرية فيلبُّس“ سألهم: «مَن تقولون إني أنا؟». وبادر بطرس بالإجابة بجرأة، بكلماتٍ صارت هي قلب أو محـور الإيمـان المسيحي: «أنت المسيح (المسيَّا)» (مر 8: 29). وهو اللقب الذي لم يكن يتردَّد على فم المسيح (راجع مقال: ”المسيح“ - مجلة مرقس، عدد أكتوبر 2015، عنوان: لقب ”ابن الإنسان“، ص 18).

+ وقد استقبل الرب يسوع هذا التأكيد بقولٍ هام كان له تأثيرٌ كبير على تاريخ الكنيسة: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، ما كشف لك هذه الحقيقة أحدٌ من البشر، بل أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تَقْوَى عليها. وأُعطيك مفاتيـح ملكوت السموات. فكـلُّ مـا تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات. وكل ما تحلُّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت 16: 17-19 عـن الترجمة العربيـة الحديثـة والترجمة البيروتية).

+ المسيح - المسيَّا المتألِّم: حقّاً كانت إجابة بطرس صحيحة، ولكن دون فهم كامل لِمَا تتضمَّنه من تعبيراتٍ عن الآلام وإنكار الذات. ويقول الإنجيل إنَّ الرب يسوع قال للتلاميذ حينذاك: «وابتدأ يُعلِّمهم أنَّ ابن الإنسان ينبغي أن يتألَّم كثيراً، ويُرفَض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكَتَبَة، ويُقتَل، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مر 8: 31؛ مت 16: 21؛ لو 9: 18: 22). ولكن اعتقاد الربِّيين اليهود المعاصرين للمسيح أنهم لم يكونوا يتوقَّعون تألُّم وموت ”المسيح - المسيَّا“؛ بل كانت توقعاتهم مُركَّزة على الملك الآتي من نسل داود ليَحكُم، وليس ليُقتل! ولكن أصبح واضحاً لتلاميذ المسيح، تدريجياً، بأنَّ ”ابن الإنسان“ سوف يُكمِل رسالته من خلال آلامه وموته!

+ وبالنسبة لتلاميذ المسيح، فيجب أن تكون علامة تلمذتهم للمسيَّا - المسيح، هي أن يموتوا: فالذين سيتبعون الرب يسوع في خدمته لابد أن يكونوا على استعدادٍ لأن يتبعوا خطواته وبَذْل ذواتهم من أجل الآخرين: «مَن أراد أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإنَّ مَن أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها. ومَن يُهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يُخلِّصها» (مر 8: 35،34). فالرغبة في التألُّم، وإذا لَزِمَ الأمر الموت، من أجل الحقِّ الإلهي ومجيء المسيح الثاني؛ هو الشرط اللازم لتلمذتهم.

+ الاستشهاد لا يجـري وراءه المؤمـن، ولا يهرب منه: لابد أن تكون خطوة الاستشهاد التي اتَّخذها المؤمن صحيحة وبتدبيرٍ صحيح. فقانون الاستشهاد يمنع الجري وراءه بالإرادة الشخصية ليناله، ولا بالارتداد عنه إن هو أتى علينا؛ ”فالأول يُظهِر تهوُّراً، والآخر يدُلُّ على الجُبن“ - القديس غريغوريوس اللاهوتي(1).

أما في مجيء المسيح لكي يذوق الموت، فلم يكن نوعاً من التلذُّذ بالاضطهاد masochistic، ولا هو هروب من الموت craven؛ بل كان كما قـال الرب في إنجيل يوحنا: «جسدي الذي أبذله مـن أجل حياة العالم» (يو 6: 51). وهذا هـو هدف التجسُّد: ”الموت من أجل حياة العالم“.

تجلِّي المسيح: الصورة المُسْبَقَة لتمجيده؟

جاء قرار المسيح بأن يُثبِّت وجهه نحو أورشليم، مدفوعاً مُسْبقاً بحَدَثٍ حاسم، هو سَبْق إعلان مجده: تجلِّي المسيح أمام ثلاثة من تلاميذه المُقرَّبين: بطرس ويعقوب ويوحنا.

”التجلِّي“ metamorphoô، أو تغـيُّر شكـل المسيح إلى بهاءٍ سماوي أمام التلاميذ في حضور ”موسى النبي“ و”إيليا النبي“، وصوت الآب من السماء؛ يؤكِّد بنوَّة المسيح لله (مت 17: 1-8؛ مر 9: 2-8؛ لو 9: 28-36).

+ «وبعد ستة أيام أخذ يسوعُ بطرس ويعقوب ويوحنا، وانفرد بهم على جبلٍ مرتفع، وتجلَّى بمشهدٍ منهم. فصارت ثيابه تلمع ببياضٍ ناصع لا يقـدر على مثلـه أيُّ قصَّار (أي مُبَيِّض الأقمشة). وظهر لهم موسى وإيليا وكانا يُكلِّمان يسوع. فقال بطرس ليسوع: ”يا معلِّم، ما أجمل أن نكون هنا. فلنَنصبْ ثلاث مظال: واحدة لك، وواحدة لموسى، وواحدة لإيليا“»، وكان لا يعرف ما يقول من شدَّة الخوف الذي استولى عليه هو ورفاقه.

«وجاءت سحابة ظلَّلتهم، وقال صوتٌ من السحابة: ”هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا“. وتلفَّتوا فجأة حولهم، فما رأوا معهم إلاَّ يسوع وحده» (مر 9: 2-8 الترجمة العربية الحديثة).

أما القديس لوقا فقد أخبر بالتالي: «ظهرا (موسى وإيليا) في مجدٍ سماوي، وأخذا يتحدَّثان عن موته الذي كان عليه أن يُتمِّمه في أورشليم» (لو 9: 31). لقد استُعلِن شخصه المسيَّاني (المسيحي) لنُخبة من الحضور، وكذلك حتمية موته الآتي، وقيامته، حسب الأسفار الإلهية.

+ بُنوَّته الإلهية للآب، تأكَّدت من الأعالي: وكما حدث في معمودية الرب يسوع على يد يوحنا المعمدان؛ هكذا هنا في حادثة التجلِّي أتى مرة أخرى نفس الصوت: «وقال صوتٌ من السحابة: ”هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا“!» (مر 9: 7). إنَّ عبارة: ”هذا هو ابني“، هي تثبيت لهويَّة المسيح ”ابن الله“ الذي استُعلِن ”ابن الله“ يوم معموديته، وها هو يتكرَّر بتأكيدٍ في التجلِّي، ما سيقوده نحو الصليب.

وبهـذا التأكيد، ظهر واضحاً بـأنَّ التدبير النهائي لخلاص البشريـة على وشـك أن يتمَّ، بموت المسيَّا - المسيح، من أجل حياة العالم.

+ الإثبات التاريخي للتجلِّي: وإن كان هناك مناقشة ما إذا كانت واقعة التجلِّي قد حدثت فعلاً، فإنَّ الرسالة الثانية للقديس بطرس الرسول قد أوردتها. فهذه الرسالة قد واجهت تلك الشكوك، وأثبتت حقيقة حدوث التجلِّي:

«فما أَتبعْنا نحن خُرافات مُلفَّقة حين أطلعناكم على قوة ربِّنا يسوع المسيح وعلى مجيئه، لأننا بعيوننا رأينا عظمته، فإنـه نال مـن الله الآب إكراماً ومجداً، وجاءَه من مجد الله تعالى صوتٌ يقول: ”هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيتُ“. سمعنا هـذا الصوت آتياً مـن السماء، وكنَّا معه على الجبـل المقدَّس» (2بط 1: 16-18 الترجمـة العربية الحديثة).

لقد تحدَّث القديس بطرس كشاهد عيان، برؤيته هذا الحَدَث، ما جعله يبلغ التأكيد المتزايد بالدعوة المسيَّانية ليسوع.

سَبْق تذوُّق للمجد الأَسْنَى:

وقد سبق الرب يسوع قبل تجلِّيه على الجبل أن قال لتلاميذه: «الحقَّ أقول لكم: في الحاضرين هنا مَن لا يذوقون الموت حتى يُشاهدوا مجيء ابن الإنسان في ملكوته» (مت 16: 28). وقد قال لهم هذا ليُهيِّئهم للآلام التي كانت على وشك الحدوث، كما قال القديس يوحنا ذهبي الفم(2).

التجلِّي كان سَبْق رؤية الملكوت والمسيح في هيئته الملكوتية. وعلى جبل التجلِّي، كان هؤلاء الرسل المُقرَّبون على وشك رؤية وتذوُّق الدم والموت بسبب اضطهاد اليهود، وقـد سمح لهم المسيح برؤيـة المجد الـذي سيكون عليه في الملكـوت الآتي، قبل أن يُقبِلوا على هـذه الآلام والأحزان.

لذلك، كـان مُناسباً جـداً أن يُطلِع المسيح التلاميذ على مجد جسده الحقيقي مُستَعلَناً، هـذا المجد الـذي سيُحوِّل إليه خاصته الذين له.

- 7 -

لقب ”المسيَّا - المسيح“

”المسيَّا - المسيح“ هو أهم ألقاب المسيح. فهو الـذي كـان اليهود، في عهد المسيح، ينتظرون مجيئه ليكون ”المسيَّا الملك“ الذي يملك عليهم مُلْكاً أرضياً كما فهموا ذلك من نبوَّاتهم. ولكن القديس يوحنا البشير خَتَمَ إنجيله بهذه الكلمات: «وأمَّا هذه فقد كُتِبَت لتؤمنوا أنَّ يسوع هـو المسيح ابـن الله، ولكي تكـون لكم إذا آمنتم حياةٌ بـاسمه» (يو 20: 31،30).

+ وفي مدينة قيصرية فيلبُّس، أثار المسيح هذا السؤال لتلاميذه: «وأنتم مَن تقولون إني أنا؟»، وأجاب بطرس وقال له: «أنت المسيح» (مر 8: 30،29). ويعترف قانون الإيمان بأن الرب يسوع هو ”المسيَّا - المسيح“. فماذا يعني هذا اللقب؟

الأغراض التي من أجلها مُسِحَ يسوع من الله

ليكون هو ”مسيَّا - المسيح“:

ماذا يعني اسم: ”مسيَّا - المسيح“؟ إنه يعني أولاً أنه مُسِحَ من الآب (وليس من البشر)، ليكون ”ملكاً“، و”كاهناً“, و”نبيّاً“. وفي العهد القديم كان حاملو هذه الألقاب الثلاثة منفصلين، ويُمسحون من النبي الموجود آنذاك، وكانوا يُمسحون بسَكْب زيتٍ مقدَّس على رؤوسهم، وهم: ”النبيُّ“, و”الكاهن“، و”الملك“. لكن المسيح مُسِحَ ليجمع هذه الثلاث وظائف في نفسه. ومُسِحَ بالروح القدس وليس بالزيت، وأُقيم ورُسِمَ من الله وليس من البشر، ليكون هو ”النبي“، أي المعلِّم، ليُعلِن لنا المشيئة الإلهية لخلاصنا بفدائنا بدمه؛ وليكون أيضاً ”الكاهن“ الأعظم، لأنه هو الذي افتدانا، ليس بذبيحة حيوانية يُسفَك دمها، بل بالذبيحة الواحدة الوحيدة التي هي جسده، وليشفع فينا دائماً أمام الله أبيه في السماء؛ ورُسِمَ ”ملكاً“ أبدياً على نفوسنا وقلوبنا، ليُدبِّر حياتنا بكلمة الله والروح القدس، ويحفظنا في فدائه الذي ربحه لنا من أجل حياتنا الأبدية، ولتكون لنا حياة إذا آمنَّا باسمه.

اسم ”المسيَّا - المسيح“:

اسم المسيح في العبرية ”Mashiah مشيح“، كان هو ”ابن داود“ أي من نسل داود، ويُمسح لكي يُخلِّص إسرائيل. والقيامة هي التي كانت ستؤكِّد وتوضِّح نسبة هذا الاسم للمسيَّا الحقيقي. وقد أعلن ذلك القديس بطرس الرسول بعد قيامة المسيح: «فليعلَم بنـو إسرائيل كلهم علم اليقين، أنَّ الله جعل يسوع هـذا الذي صلبتموه أنتم ربـّاً ومسيحـاً» (أع 2: 36 – الترجمـة العربيـة الحديثة).

+ ”المسيح“ اسم عَلَم: وفي زمن القديس بولس الرسول، أصبح اسم ”المسيَّا - المسيح“ اسماً عَلَماً، ومرتبطاً ومُلتحماً باسم ”يسوع“ لكل الذين شهدوا قيامة المسيح.

وقد تكلَّم القديس بولس مراراً عن ”يسوع المسيح“ أو ”المسيح يسـوع“ أو ”المسيح“ فقط، أكثر من استخدامه لاسم ”يسوع“.

وهكذا أصبح اسم ”المسيَّا - المسيح“ اسماً عَلَماً لدى الذين تزايد عددهم، الذين كانت لهم ارتباطـات واتصالات مـع الثقافات اليونـانية القديمة، والذين كانوا يُطلقون عليه باللغة اليونانية Christos، وكذلك لدى مَن كانوا يُعرفون بأنهم ”الأُمم“، أي ”غير اليهود“.

والتلاميذ الأوائل، الذين تعمَّدوا على أيدي الرسل، كـان يُطلَق عليهم اسم ”المسيحيون“ Christianoi، وذلك ليس في ”فلسطين“، بل في مدينة ”أنطاكية“ بسوريا، كما وَرَدَ في سِفْر أعمال الرسل (11: 26).

+ ممسوحاً، ليس بيد إنسان، بل من الله: إنَّ التفاسير القديمة أكَّدت على أن شخصية الرب يسوع باعتباره ”ممسوحاً“؛ تأتي من كونه كان ممسوحاً، ليس بأيدِ بشرية، بل من الله فقط: ”إنه يُدعَى "المسيح"، ليس لكونه مُسِحَ بيدٍ بشرية، بل مسْحَته كانت من الآب، وكانت مسحة أبدية ككاهن أعظم على البشر“ - القديس كيرلس الأورشليمي(3).

ويقول القديس أثنـاسيوس الرسولي بـأنَّ المسيح لم يأخذ هذا اللقب من الناس، بل كان هو ”مسيَّا - المسيح“ من قبل أن يُسمِّيه الناس هكذا(4).

ويؤكِّد هـذه الحقيقة الآباء اللاحقون: القديس غريغوريـوس اللاهـوتي(5)، والقديس كيرلس الإسكندري(6)؛ إذ ليس لقب ”المسيَّا - المسيح“، هو مَن أطلقه الناس عليه، بل الله الآب.

(يتبع)

(1) Gregory Nazianzen, Orat.. XLIII, 6; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 397.
(2) Chrysostom, Hom. on Matt. LVI; NPNF, 1st Ser., Vol. X, pp. 345-51.
(3) Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. X.
(4) Athanasius, Ag. Apollinarius 2: 1-2.
(5) Gregory Nazianzen, Orat. XXX,21; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 317.
(6) Cyril of Alexandria, To Emperor Theodosius 28; To the Empresses.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis