مؤتمرات مسكونية



مؤتمر الروحانية الأرثوذكسية 
الثالث والعشرون

يُعدُّ مؤتمر الروحانية الأرثوذكسية الذي يُعقد سنوياً في دير الآباء الكاثوليك المعروف بدير بـوزي Bose بإيطاليا، واحداً مـن أهم اللقاءات الأرثوذكسية التي تتمُّ على مستوى العالم المسيحي. وقد عُقد مؤتمر هذا العام في الفترة من الأربعاء 9 سبتمبر وحتى السبت 12 سبتمبر 2015. وكان الموضوع العام للمؤتمر بعنوان: ”الرحمة والمغفرة“.

شارَك في المؤتمر نُخبة من الآباء والعلماء الأرثوذكس والكاثوليك والأنجليكان. ألقى كلمة الافتتاح الأب Enzo Bianchi رئيس الدير؛ ثم الكاردينال Walter Kasper, Rome، المسئول السابق عن الحوار بين الكنيستَيْن الكاثوليكية والأرثوذكسية؛ ثم المطران الأرثوذكسي المعروف Kallistos of Diokleia, Oxford.

وشارَك أيضاً في هذا اللقاء الأب John Behr, New York رئيس معهد سانت فلاديمير، والدكتور Sebastian Brock, Oxford العالِم في المخطوطات والدراسات السريانية، والدكتور Christos Yannaras, Athens عالِم الآبائيات اليوناني. بالإضافة إلى بعض مطارنة وأساقفة ورهبان وراهبات الكنيسة الأرثوذكسية من روسيا واليونان وقبرص وكريت، وأساقفة الكنيسة الأنجليكانية بالمملكة المتحدة، ورئيس أساقفة الكنيسة الروسية بالولايات المتحدة.

دارت محاور المؤتمر حول مفهوم الرحمة في الكتاب المقدس، وعند آباء الكنيسة، وفي تقليد الكنائس الأرثوذكسية المختلفة. كما كان هناك لقاء عن المغفرة في حياة أبرار معاصرين، وأهمهم الأب الشهيد الروسي ألكسندر مين، الذي يمرُّ هذا العام خمس وعشرون سنة على استشهاده؛ والأب متى المسكين. وقد ألقى نيافـة أنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس ديـر القديس أنبا مقار الكلمة عنه.

وقد وجَّه بطاركة الكنائس المختلفة رسائل تحية لهذا المؤتمر، قرأها مندوبون عنهم، أشهرها رسالة من قداسة البابا تواضروس الثاني، وقد قرأها نيافة أنبا إبيفانيوس؛ ورسالة من قداسة البابا فرنسيس؛ ومن البطريرك المسكوني بالقسطنطينية؛ ومن رئيس أساقفة اليونان، ومن رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية.

ومن المقرر أن يُعقد مؤتمر خاص في نفس الدير في العام القادم، بمناسبة مرور عشر سنوات على نياحة الأب متى المسكين، ستوجَّه فيه الدعوة للكثيرين مـن المهتمين بالدراسات الكنسية على مستوى العالم.

كلمة قداسة البابا تواضروس الثاني

+ نقرأ أولاً الكلمة التي أرسلها صاحب القداسة البابا المعظم أنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للآباء والإخوة المجتمعين في دير بوزي:

إلى قدس الأب إنزو بيانكي إيغومانس دير بوزي Bose بإيطاليا،

إن أقصر صلاة ترفعها الكنيسة يومياً هي: ”كيرياليصون“، أي: ”يا رب ارحم“. إنها صرخة التائب الحقيقي، واحتياج المسيحي في مسيرة حياته اليومية، وهي أيضاً اشتياق المؤمن إلى النصيب السماوي في الأبدية.

ولأن المسيح هو مُعطي الرحمة والمغفرة على الصليب، فإنَّ الإنسان كلما اقترب إليه مؤمناً، فإنه ينال نصيباً من الرحمة يفيض به على إخوته من البشر.

الله كلِّي الرأفة، وهو مانح الرحمة والمغفرة للإنسان، وفي ذات الوقت يطلب من الإنسان أن يكون رحيماً بأخيه في البشرية حيث الوصية: «كونـوا رحماء كما أن أبـاكم أيضاً رحيم» (لو 6: 36).

إننا نُصلِّي في كنيستنا يومياً ومراتٍ كثيرة مزمور التوبة وطَلَب الرحمة الذي صاغه قلم تائب قدِّيس عظيم هو داود النبي، المزمور 50. ”يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ“.

البابا تواضروس الثاني

+ + +

+ كلمة نيافة أنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار:

مُعلِّم الرحمة: الأب متى المسكين

المغفرة في حياة الأب القمص متى المسكين

منذ أن التحقتُ بدير القديس أنبا مقار، تعلَّمتُ معنى المسامحة أو المغفرة. وكان من أجمل ما سمعتُ من آباء الدير، تفسير كلام الرب يسوع في إنجيل القديس متى (18: 15-17).

فبعد أن أعطى الرب يسوع مَثَل الخروف الضال، وكيف يترك الراعي التسعة والتسعين خروفاً من أجل البحث عنه، يقول بعدها مباشرة: «وإنْ أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إنْ سَمِعَ منك، ربحتَ أخاك. وإنْ لم يسمع، فخُذ معك أيضاً واحداً أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدَيْن أو ثلاثة. وإنْ لم يسمع منهم، فقُل للكنيسة. وإنْ لم يسمع من الكنيسة، فليكُن عندك كالوثني والعشَّار» (مت 18: 15-17).

فلماذا رَبَطَ ربنا يسوع بين الخروف الضال وخطيئة الأخ؟ لم يطلب الرب في هذا المَثَل أن يذهب المُخطئ للاعتذار، بل طلب من الذي كان على حقٍّ أن يذهب هو للمبادرة بالصُّلْح. وإنْ لم تتم المصالحة، فيجب الاستعانة بأكثر مـن شخص للوساطة. وأخيراً، يجب أن تتدخَّل الكنيسة. وإنْ فشلت كل هذه الجهود، ”فليكُن عندك كالوثني والعشَّار“.

ولكي نفهم معنى ”الوثني والعشَّار“، نرجع لحياة الرب يسوع نفسه، الذي قيل عنه إنه: «مُحبٌّ للعشَّارين والخُطاة» (مت 11: 19). كما نراه في مقابلته مع زكَّا رئيس العشَّارين، فهو يُسرِع بالذهاب إلى بيت زكَّا ليتعشَّى معه، وكانت النتيجة: توبة زكَّا وإيمانه بالمسيح هو وكل بيته (لو 19: 1-10).

وعندما دعا الرب يسوع متى العشَّار، دخل ليأكل عنده: «وفيما هو مُتَّكئ في بيته، كان كثيرون مـن العشَّارين والخُطاة يتَّكئون مـع يسوع وتلاميذه، لأنهم كانوا كثيرين وتبعوه. وأمَّا الكَتَبَة والفرِّيسيون، فلما رأوه يـأكل مـع العشَّاريـن والخطاة، قـالوا لتلاميذه: ”ما باله يـأكل ويشرب مـع العشَّارين والخطاة؟“» (مر 2: 16،15). كما نراه يمتدح العشَّار (لو 18: 14)، ويُثني على السامري قائلاً: «أَلم يوجد مَن يرجع ليُعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس؟» (لو 17: 18)

معنى هذا: إنه إنْ لم يسمع أخوك لمبادرة الصُّلْح، يجب أن تعتبره مثل الوثني والعشَّار؛ ذلك الإنسان الضعيف الذي جاء المسيح من أجل خلاصه، والذي يستحقُّ محبتك أكثر!

أليست هذه قصة الخليقة كلها؟ عندما أخطأ الإنسان الأول إلى الله، بادَر الله نفسه للسؤال عن هذا الخروف الضال: «فنادَى الربُّ الإلهُ آدمَ: أين أنت؟» (تك 3: 9). فلما ألقى آدم بالتهمة على حواء، وحواء بدورها ألقتها على الحيَّة؛ عاد الله وأرسل الأنبياء والرُّسل، «لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدَيْن أو ثلاثة»، ثم من بعدهم الكنيسة مُمثَّلة في الذبائح والشرائع والقوانين.

أخيراً، بعد فشل جميع محاولات إعادة الصُّلْح مع تلك الخليقة التي ضلَّت وتاهت بعيداً، كان يجب أن يُعاملها الربُّ مثل الوثني والعشَّار، أي مثل جُبْلة ضعيفة ليس لها أية استطاعة على المصالحة، وليس عندها أية إمكانية للرجوع، فاضطر أن يترك التسعة والتسعين خروفاً التي لم تضلَّ، وجاء وبحث عن هذا الخروف الضال.

+ يقول الأب متى المسكين:

[المسيح لا يستهين بمشاعر مَن أُخطِئَ إليه، ولا يستهين بالغدر الواقع علينا؛ ولكن عين المسيح على المحبة والرحمة التي تحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء، حتى نُشابه الآب الذي يُعاملنا بأكثر من هذا ويغفر لنا كثيراً جداً. والمسيح، في النهاية، عينه على المغفرة الكلِّية التي ستُكلِّفه هو آلاماً وأحزاناً وصَلْباً وتمزيقاً لجسده وموتاً ثمناً لخطايانا الثقيلة جداً](1).

+ ويقول أيضاً:

[قانون ملكوت السموات، في الحقيقة، أنَّ الذي يحيا هو المظلوم، والذي يَغلب هو المقهور. الأمور معكوسة بصورة عجيبة جداً: «مَن لطمك على خدِّك الإيمن، فحوِّل له الآخر أيضاً» (مت 5: 39)... عندما يضربني إنسانٌ على خدِّي الأيمن، أقول له: ”كتَّر خيرك“، وأمضي في طريقي، (وهذا الطريق هو المؤدِّي إلى ملكوت السموات)؛ ذلك لأن هدفي ثمين ورحلتي خطيرة، فإذا وقفتُ وتعاركتُ معه ستكون هذه نهايتي](2).

[إنني بقلمي كنتُ أستطيع أن أُدافع عن نفسي وأُقنِع. ولكني أكون حينئذ قد ألقيتُ عني نِير المسيح، وصرتُ علمانياً. إنني راهبٌ، وقد وُضِعنا لهذا الاضطهاد والضيق. ولكن بدون كلمة الله، لن يكُفَّ الإنسان عن الصراخ والشكوى والتأوُّه. أمَّا كلمة الله، فقد كانت لي مرهماً وعُصابةً وطبيباً ماهراً، يُدخِلني غرفته مُحطَّماً، فأخرج سليماً مجبوراً، أخرج في سلام أكثر مِمَّا دخلتُ. لقد كانت كلمة الله تُعزِّيني ليلاً ونهاراً. وكما قال الرسول بولس: «نُشتَم فنُبارِك، نُضطَهَد فنحتمِل» (1كو 4: 12)](3).

+ كان الأب المسئول في الدير قد أساء للأب متى وأبنائه الرهبان، وتسبَّب في خروجهم من الدير وتشتُّتهم. استيقظ ضمير هذا المسئول بعد ذلك بمدَّة. وبعد معاناتهم لعدة سنوات في وادي الريان، وبعد أن صار هذا المسئول أسقفاً، بعث برسالة إلى الأب متى المسكين، يعتذر فيها ويتأسَّف عمَّا بَدَرَ منه نحوهم، طالباً الصَّفْح والمغفرة. كما أنه أرفق مع الخطاب مبلغاً من المال تعبيراً عن أسفه.

فجمع أبونا متى الرهبان وقرأ عليهم الرسالة. فبدا منهم رأيان: الرأي الأول: رفض الرسالة والمبلغ المُرفق بها بسبب إساءته لهم ظُلماً؛ والثاني: قبول الاعتذار والمغفرة.

+ فقال لهم أبونـا متى: ”اسمعوا حُكْم الله والإنجيل“. ثم حدَّثهم في كلمة مطوَّلة عـن موضوع المحبة فوق الحق، قال فيها:

[المحبة هي إحدى مواهب الكنيسة، ولكنها تأخذ حيِّزاً ضيقاً جداً في حياتنا، حيث إننا خُدعنا كثيراً، لأننا وضعنا لها حدوداً كحاجزٍ لنا عن المحبة. وإنني أضرب لكم مَثَلاً بنفسي. فإذا وجدتُ أن أخاً يعمل شيئاً فيه خطأ، أجد نفسي أمام أمرين: إمَّا أن أسكت وأُظهِر له حُبي بعاطفة المحبة الإلهية التي تستر العيوب والخطايا؛ أو أُواجهه بالحق وأُعنِّفه وأُظهِر له خطأه وأُصحِّحه. فلقد مكثتُ طول حياتي أتكلَّم الحق، وأجعل المحبة خلفي. ولكنني في هذه السنة فقط، أحسستُ أنني وصلتُ إلى حالةٍ خطرة، وهي كافية أن تُرجعني إلى الوراء كل أيام حياتي. لذلك فلابد أن تسود المحبة](4).

+ وفي تعليق الأب متى المسكين على قول الرب يسوع في إنجيل مرقس: «ومتى وقفتُم تُصلُّون، فاغفروا إن كان لكم على أحدٍ شيء» (مر 11: 25)، يقول:

[هنا تبلغ روعة الإنجيل إلى أقصى مداها، إذ يرى المسيح أنَّ الصلاة لكي تفوز بالاستجابة من الله، يلزمها أن تكون صلاة خارجة من قلبٍ طاهر! ولا يُنجِّس القلب إلاَّ البُغضة والقطيعة والغضب وحِفظ السيِّئة في القلب وإدانة الآخرين](5).

لقد فَهِمَ الأب متى المسكين المسامحة أو المغفرة في معناها المتَّسع، وهو قبول الآخر، الآخر المختلف عني في كلِّ شيء، وخاصة المختلف عني في الإيمان أو العقيدة.

قبل رهبنته، تقابَل مع مجموعة من قادة الخدمة في عصره (في الأربعينيات من القرن العشرين)، وكانوا قد طرحوا هذا السؤال: هل الكاثوليك والبروتستانت سيدخلون ملكوت السموات، بحسب رأيهم؟ فكانت الإجابة (منهم) طبعاً بالنفي.

فحَزِنَ جداً، لأن هذا كان مفهوم قادة الخدمة في الكنيسة. وتمرُّ الأيام، وكان الأب متى يجوز عملية جراحية في إحدى المستشفيات، وأتى لزيارته رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر، وطرح على الأب متى المسكين هذا السؤال: هل البروتستانت سيدخلون الملكوت؟

فكـان ردُّ الأب متى المسكين: لا الكاثـوليك ولا البروتستانت، ولا حتى الأرثوذكس سيدخلون الملكوت؛ بل الخليقة الجديدة في المسيح يسوع هي التي ستنال الملكوت: «لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغُرْلة، بل الخليقة الجديدة» (غل 6: 15)، «إذاً إنْ كان أحدٌ في المسيح يسوع فهو خليقةٌ جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكلُّ قد صار جديداً» (2كو 5: 17).

(1) القمص متى المسكين، ”الإنجيل بحسب القديس لوقا - دراسة وتفسير وشرح“، طبعة أولى: 1998، ص 294.
(2) الأب متى المسكين، ”هجرة المسيحي إلى الله“، الطبعة الأولى: 2011، ص 19.
(3) ”أبونا متى المسكين، ونعمة الاستنارة بالإنجيل المقدَّس“، دير القديس أنبا مقار، 2015، ص 49-50.
(4) نفس المرجع السابق، ص 60-61.
(5) ”الإنجيل بحسب القديس مرقس - دراسة وتفسير وشرح“، الطبعة الأولى: 1996، ص 480-481.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis