دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من تاريخ كنيستنا:

الكنيسة القبطية في القرن الثامن
البابا ميخائيل الأول

(735-759م)

رجل الصلاة، والتدبير الحسن، والقيادة الروحية للكنيسة

-5-

التدبير الحكيم، والقيادة الروحية للبابا ميخائيل الأول،

موضوع دراسة لابد أن تقتدي بها الأجيال اللاحقة:

يلذُّ للبعض أن يتغنوا بمصير الحُكَّام المدنيين الطغاة الذين آذوا الكنيسة القبطية، دون أن يهتموا أولاً وبالأَوْلَى بأسلوب التدبير والقيادة التي كان ينتهجها آباء الكنيسة ومدبِّروها في مواجهة طغيان هؤلاء الطغاة. وهذا عيب كبير، ولابد من تلافيه وتصحيحه، حتى يمكن للأجيال اللاحقة، لا أن تنتظر ”عقاب السماء على المضطهِدين“ (فهذه نزعة تنتمي للعهد القديم)، بل أن يلتزموا بتعليم المسيح وخبرات الآباء القديسين الذين قادوا سفينة الكنيسة قيادة روحية حكيمة مرتشدة - لا بفكرٍ بشريٍّ شخصيٍّ - بل بذهن مستنير بالروح القدس، الذي وإن كان حقاً يسكن ويملأ كل عضو في الكنيسة، لكنه يُنعم على مدبِّري الكنيسة بالأخص، بالتدبير الحسن والمشورة الصالحة التي تعْبُر بالكنيسة في أوقات المحن إلى برِّ السلام.

وإننا نوجِّه النظر إلى سيرة هذا الأب القديس البابا ميخائيل الأول، الذي يمكن أن يكون نموذجاً لمنهج روحي كنسي في تدبير وتوجيه الكنيسة إبان المحن والآلام والضيقات التي تعبرها على مدى الأجيال؛ فنشجِّع الشباب عموماً، والدارسين خصوصاً، على دراسة هذا الموضوع، وذلك لشيوع المنفعة.

تكملة المسيرة المقدسة للبابا ميخائيل والكنيسة:

وهكذا هدأ الاضطراب إلى حينٍ عن المسيحية بتقلُّص ظل حُكْم بني أُميَّة عن مصر وانكسار نيرهم عن أعناق الناس، وذلك بانكسار الخليفة الأموي الهارب إلى مصر ”مروان“. وبسقوطه هو وجيشه بسيوف الخراسانيين الذين مهَّدوا للحُكْم الجديد، حُكْم العباسيين؛ انتقل مقر الخلافة من دمشق إلى الكوفة ثم بغداد في العراق.

أما البابا ميخائيل الأول، فقد لَقِيَ كل إكرام من الخراسانيين (الذين عاونوا ”أبا العباس“ على النصر). وقد صقلت التجارب البابا ميخائيل فزادته حكمة وحنكة روحية.

وعيَّن العباسيون (من العراق) أول والٍ عباسيٍّ لمصر سنة 742م، وهو ”أبو عون“.

الأقباط في بداية عهد العباسيين:

والتمس الأب أنبا ميخائيل من الوالي الجديد إعادة بناء الكنائس التي تهدَّمت واستعادة أموالها التي تبدَّدت في جميع المدن، فأمر له الوالي بما طلب. وأما البشموريون الثوَّار فقد سامحهم الوالي عن الضرائب السابقة، وحدَّد لهم ضرائب جديدة. وظل الهدوء والسلام في أرجاء الكنيسة إلى مدة ما بين سنتين إلى أربع سنوات.

وكان مروان الوالي السابق قد أحرق جميع مستندات وحسابات الضرائب، فلم يَعُد الحكَّام الجدد بقادرين على معرفة مبالغ الضرائب والجزية والخِراج. فبعد قليل وصل إلى مصر موظفان لتصحيح وإعادة وتسجيل هذه المبالغ. وعيَّن الوالي واحداً منهما على الوجه البحري وآخر على الوجه القبلي، لكنهما كانا متعصِّبَيْن ضد أهل البلاد من الأقباط، بالإضافة إلى محبتهما للمال وبُعْدهما عن معرفة الله، فأخذا يدسَّان على الوالي ناقلَيْن حقدهما ضد الأقباط ومثقلَيْن الجزية عليهم. لكن الوالي كان قد أصدر أمراً إلى ذيْنك الكاتبَيْن قائلاً لهما: ”كلُّ ما أراده البطريرك افعلاه له“، فرفضا تنفيذ ذلك. فهال الأنبا ميخائيل الأمر، وتوجَّع قلبه، وذهب لمقابلة الوالي، وذكَّره بالعهد الذي كان قائد الخراسانيين قد عاهده عند انتصاره على مروان. فأجابه الوالي بأن الخليفة قد بعث بأوامر مشدَّدة بفرض الجزية الباهظة والحصول عليها بكافة الوسائل، لأن أحد رجال بلاطه قد نجح في إقناعه بأنه إنْ اتَّبع سياسة اللين مع الأقباط فسيثورون عليه. على أن مثل هذا العُذر لم يَنْطلِ على البابا الإسكندري.

ولجأ البابا البطريرك - كما هي عادته ومنهجه دائماً - إلى حلِّ هذا الأمر بالتفاهم والتذرُّع بالصبر، فقام بملازمة قصر الوالي والتفاهم مع هذين الكاتبين، وكان مع البابا البطريرك الأسقف الحكيم أنبا مويسيس وتلميذ البابا الراهب كاتب سيرته.

ويُشاهد هذا الموقف شيخ إسماعيلي (أي من العرب الذين هاجروا إلى مصر)، وكان ينظر إلى البابا والأسقف وتلميذ البابا في كل يوم وهم يأتون إلى هذين الكاتبين. ويقول كاتب السيرة إن هذا الشيخ كان خائفاً الله، فتقدَّم من البابا أنبا ميخائيل وأخذ يحدِّثه مشارِكاً إيـَّاه في محنته مع هذين الكاتبين، وقال له: ”مثلما افتقرنا، نحن العِبَاد المسلمين، أنا أعلم أنكم سوف تكونون مثلنا“. وسأله البابا ميخائيل: ”صَدَقتَ يا شيخ، وأنا أريدك أن تُعلِمَني معنى قولك“. فأخذ الشيخ يسرد قصة حدثت له وهو صبي مع تاجرَيْن إسماعيليَّيْن، ملخَّصها أن أحدهما سرق الآخر بحيلة ماكرة، ثم ختم قصته بقوله للبابا ميخائيل: ”... والآن، أيها الرجل القديس، فهوذا ترى كل واحد كيف هو محبٌّ للظلم، وقد جعلوا السوءَ تاجاً على رؤوسهم، وها أنت مُشاهد هذا وتعْلَم أنه صحيح“! ولما انتهى هذا الشيخ من حديثه، تفرَّق كل واحد إلى موضعه.

الكنيسة كلها بقيادة البابا الأنبا ميخائيل تصلِّي

من أجل صعود مياه النيل، والله يستجيب:

تقول سيرة البابا الأنبا ميخائيل إن الله منع مياه النيل أن تصعد كعادتها، ويُرجـِع كاتب السيرة امتناع صعود مياه النيل إلى سوء تصرُّف ذينك الرجلَيْن الكاتبَيْن، ولكن الأفضل أن نقول إنه كلما تكثر الآلام والضيقات، كلما تظهر إعلانات الله عن مجده وقدرته وضبطه لكل شيء. وهكذا يصفها نفس كاتب السيرة بعد ذلك بقوله: ”وكان منع الله الماءَ بإرادته، ليُظهِر عجائبه التي أظهرها في كل زمان، وليُظهِر صحة الإيمان المسيحي“.

وكان الأساقفة قد وصلوا من كراسيهم إلى البابا ميخائيل ليجتمعوا عنده في عيد الصليب (27 سبتمبر / 17 توت) كما جرت العادة أن يجتمعوا عنده ليعقدوا المجمع في دورته الثانية من كل عام (المجمع الأول يُعقد قبل الصوم الأربعيني). ولكن تغيَّرت الخطة، إذ بدلاً من الذهاب إلى مقر البابا في الإسكندرية، توجَّهوا إلى القاهرة القديمة (الفسطاط)، واشتركوا مع جمع من كهنة الجيزة وشعب غفير من الفسطاط، وحَمَلَ الجميع الأناجيل ومباخر البخور، ودخلوا إلى الكنيسة الكبرى (تسمَّى القاثوليكون) المسمَّاة على اسم القديس بطرس، وكانت مبنية أصلاً على شاطئ نهر النيل. وضاقت عليهم الكنيسة من كثرة الجمع. ورفع البابا ميخائيل الصليب، وحمل الأنبا مينا أسقف منف الإنجيل المقدس، وخرج الجميع في موكب مهيب متجهين إلى شاطئ النيل عند الفجر قبل شروق الشمس، وظل الجميع يصلُّون صارخين: ”كيرياليسون“ إلى ثلاث ساعات من النهار، حتى بُهت الجميع من اليهود والمسلمين وغيرهم من الصراخ والتضرُّع إلى الله. فسمع الله، وارتفع منسوب النيل ذراعاً واحداً (يتراوح ما بين 55 و80 سنتيمتراً)، ومجَّد كلُّ واحد الله وشكره.

ويقول كاتب مخطوطة ”تاريخ البطاركة“ إن الوالي أبا عون بدأ منذ ذلك الوقت يزداد في فعل الخير مع أقباط مصر ولكنائسهم، وخفَّف عليهم الخِراج. ومن ذلك اليوم كان الأب البطريرك والأساقفة وبنو المعمودية والكنيسة كلها تحت الأمن والسلامة بفرح وابتهاج عظيم بأرض مصر والخمس المدن الغربية.

الأقباط إكليروساً وشعباً وحدة واحدة:

لقد اعترف الوالي بأن المسيحيين صاروا قلباً واحداً، وكانوا متفقين. وكانت أعمال آباء الكنيسة في ذلك الجيل كما يقول كاتب ”تاريخ البطاركة“ مثل أفعال الملائكة الروحانيين في تنوُّع مواهبهم. فكان بعض الآباء واحداً يشفي المرضى، وآخر يُظهِر العجائب، وثالثاً يُفسِّر الكتب والأسفار ويُعلِّم ويعظ، ورابعاً يُتعب جسده بالعمل والكدِّ. وكان جميع الشعب يتعجَّبون منهم ويطلبون بركتهم. أما البابا ميخائيل فكان ينظر هذه المواهب المتنوعة في شعبه وكنيسته ويُسرُّ بأساقفته وجميع رعيته بسبب وحدة قلبهم وتنوُّع مواهبهم.

+ هذه الصورة الجميلة التي يرسمها كاتب ”تاريخ البطاركة“: وحدة مع تنوُّع وتعدُّد المواهب، هي ذاتها صورة كنيسة الرسل الأولى، وكانت هذه الوحدة هي سرُّ مباركة الله على شعبه وكنيسته في مصر وحِفظهم في هذه الأيام الصعبة.

البابا ميخائيل يفتقد شعبه ويرعاهم:

وفي هذا الجو المشبَّع بالوحدة، بدأ البابا ميخائيل يطوف على شعبه يفتقدهم ويهتم بأحوالهم، ويعظهم بكلامه المحيي، كما كان يفعل رسل المسيح الأوائل. وكان يزور سكان البراري والمغائر يثبِّتهم ويُعلِّمهم الجهاد ضد الشياطين، أما رهبان الأديرة فكان يعلِّمهم التواضع والمحبة. أما باقي الشعب المؤمن فكان يهديهم إلى أن يعيشوا بما يسرُّ الله ويرضيه. أما قليلو الإيمان فكان يعلِّمهم التعاليم الإنجيلية. والمتخاصمون كان البابا ميخائيل يُصلح بينهم، ويهدِّئ من شرِّهم، ويُسكِّن حقدهم، بتعاليمه المستقاة من الكتب المقدسة.

- هكذا يعرض كتاب ”تاريخ البطاركة“ وصفاً دقيقاً مفصَّلاً لأعمال الروح القدس في كنيسة الله المقدسة في مصر بواسطة هذا الأب القديس الممتلئ حكمةً، وحُسنَ تدبير، وصفاء قلب، واتساع حضن.

من شيم بابوات الإسكندرية التشوُّف إلى الأبدية:

يلاحظ قارئ سِيَر آبائنا البطاركة بابوات الإسكندرية أن كاتب السيرة يسجِّل ما يعتمل في نفس بابا الإسكندرية حينما يتقدَّم في السن، من تشوُّفه إلى الآخرة، وتشوُّقه إلى لقاء رب المجد، ودخوله ضمن زمرة سابقيه من القديسين.

وهكذا يُسجِّل كاتب سيرة البابا القديس ميخائيل الأول أنه لما طعن في السنِّ سأل الله الرحوم أن ينقله من هذا العالم، ليتنيَّح أي ليستريح مع القديسين؛ فأجابه الله إلى سؤله. وحينئذ أسلم روحه الطاهرة في يدي الرب بعدما جاهد وعمل الكثير من الأعمال الحسنة.

وكانت نياحته في اليوم السادس عشر من شهر برمهات عام 759م، وكانت مدة مقامه على الكرسي الرسولي المرقسي ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر.

بركة جهاده وصلاته تكون مع الكنيسة كلها. آمين.

(يتبع)