قصة
من واقع الحياة



صديق ”كايل“

في أحـد الأيام، وعندمـا كنتُ طالباً في المدرسة الثانوية، رأيتُ شاباً صغيراً من صَفِّي في طريقه إلى منزله راجعاً مـن المدرسة، كان اسمه ”كايل“. وبَدَا عليه وكأنه كـان يحمل كـل كُتُبه المدرسية. فكَّـرتُ في نفسي: ”لماذا يُحضِر أيُّ شخصٍ جميع كُتبـه المدرسية يـوم الجمعة؟ لابد أن يكون حقّاً شخصاً مهووساً“.

كـان لدينا عطلة نهاية الأسبوع المُخطَّط لها سَلَفاً (ستقوم الفرق الريـاضية بمُمارسة الألعاب ومن ضمنها كـرة القدم، واتفقنا على ذلك مـع أصدقائي أن يكـون ذلك بعد ظهـر الغد). لذلك هززتُ كتفيَّ ومضيتُ في طريقي.

وبينما كنتُ أسـير، رأيتُ ثُلَّة مـن الأطفال يركضون نحو ”كايل“. وعندما وصلوا إليه، بدأوا يطرقون على كل كُتُبه التي كـان يحملها على ذراعيـه، ثم قامـوا ببعثرتهـا حتى وقعت على التراب. كما هوت نظَّارتـه الطبيَّة وسقطت على الأرض، ثم بعد ذلك جلسوا على العشب. وعندما تطلَّعتُ إليه، رأيتُ حزناً رهيباً يرتسم على وجهه وعلى عينيه.

لقد تمزَّق قلبي جداً على حاله. ولذلك ركضتُ إليه، وأخـذتُ أزحف على الأرض بحثاً عـن نظَّارته، ولكنني رأيتُ الدموع تنساب من عينيه. وعندما وجدتُ النظَّارة، أعطيتها له، وقلتُ:

- ”هؤلاء الأولاد هم حَمْقَى. حقّاً كان يجب أن يحصلوا على معرفة الحياة“.

نظر إليَّ وقال: ”شكراً“! وبَدَت ترتسم ابتسامة هادئة على وجهه.

كانت هذه الابتسامة من تلك الابتسامات التي أظهرت الامتنان الحقيقي منه لي.

ثم بدأتُ في مساعدته في التقاط كُتُبه المُبعثرة على الأرض. وسألته: ”أين يعيش“؟ وكما اتضح لي، أنه يعيش بالقُرب مـن مَسكني. لذلك سألته: ”لماذا لم أَرَه من قبل“؟ فقال لي: إنـه ذهب إلى مدرسة خاصة قبل الآن. وأنا لم أتعرَّف من قبل على فتًى مُلتحق بمدرسة خاصة.

تحدَّثنا طوال سيرنـا في الطريق إلى البيت، وقـد حملتُ بعض كُتُبه. لقـد رأيتُه شاباً رائعاً، وسألته: ما إذا كان يُريد أن يلعب كرة القدم مع أصدقائي. فأجابني: ”نعم“.

ثم توقَّفنا عـن اللقاء طـوال عطلة نهايـة الأسبوع. ولكنني كلَّما تعرَّفتُ أكثر على شخصية ”كايل“، كلَّما أحببته أكثر. ولاحظتُ أنَّ أصدقائي كان لديهم نفس هذا الشعور تجاهه.

ثم جاء صباح يوم الاثنين، وهناك كان ”كايل“ يحمل معه حزمة ضخمة من الكُتُب مرَّةً أخرى. ولكنني اعترضته وقلتُ له:

- ”حقّاً، يا فتى، إنك لابد أن تقوم ببناء بعض العضلات المفتولة لتستطيع أن تحمل هذه الحزمة من الكُتُب كل يوم“!

فضحك من قولي هذا، دون أن يتكلَّم، وسلَّم لي نصف الكُتُب التي كان يحملها، لكي أحملها أنا معه.

+++

وعلى مدى الأربع السنوات التالية صرنا نحن الاثنين: ”كايل“ و”أنا“، أفضل الأصدقاء. وعندما بلغنا عمر الشباب الجامعي، بدأنا في التفكير في الكلية الجامعية التي سيلتحق بها كلُّ واحدٍ منَّا.

وقرَّر ”كايل“ الالتحاق بجامعة ”جورج تاون“، أمَّا أنا فقررتُ الذهاب إلى جامعة ”دوق“. كنتُ أعرف أننا سنكون دائماً أصدقاء أوفياء، وأنَّ مئات الأميال بيننا لن تكون عائقاً أبداً.

كـان ”كايل“ سيتخرَّج طبيباً، أما أنـا فكنتُ سأذهب في منحة دراسية لدراسة لعبة كرة القدم.

كان ”كايل“ طوال سني دراسته هـو الطالب المتفوِّق. وأنا كنتُ أُمازحه طوال الوقت في أنه شخصاً يفتقد إلى الكياسة.

كان عليه إعداد خطاب التخرُّج، ومِن ثمَّ كان ينبغي عليه أن يستيقظ مُبكِّراً؛ أمـا أنـا فكنتُ مسروراً جداً لأنه ليس مفروضاً عليَّ أن أستيقظ مُبكِّراً.

وفي يوم تخرُّج ”كايل“، الذي كان عليه أن يُلقي فيه خطاب التخرُّج، كان يبدو رائعاً. كان واحداً من هؤلاء الشباب الذين أثبتوا جدارتهم حقّاً طوال سنوات الدراسة، وكان يبدو أنيقاً مالئاً مركزه العلمي وهو يلبس نظَّارته الطبيَّة!

+++

في هذا اليوم، وكان يوماً من تلك الأيام التي لا تُنسَى، استطعتُ أن أرى ”كايل“، وكان متوتِّراً بعض الشيء بشأن خطاب التخرُّج. لذلك، ربَّتُ على كتفه وقلتُ له:

- ”هيَّا، أيها الشاب النبيه، عليك أن تكـون رجلاً عظيماً“!

فنظـر إليَّ نظرةً فاحصة مـن تلك النظرات التي تُظهِر امتنانه بي حقّاً، وابتسم قائلاً: ”شكراً“.

وعندما بـدأ ”كايـل“ في إلقاء كلمته، ”هَمْهَم“ وتنحنح كمَن يُمرِّن حنجرتـه على الكلام، ثم هَمَّ بإلقاء خطابه قائلاً:

- ”إن التخرُّج هـو الوقـت المُناسب لشُكر أولئك الذين ساعدونـا على تحقيق النجاح خلال تلك السنوات الصعبة: والداك، مُعلِّموك، أشقَّاؤك، وربما "مُدرِّب"، لكن في الغالب "صديق". أنا هنا لأقول لكم جميعاً إنَّ الصديق بالنسبة لأيِّ شخصٍ مـا هـو أفضل هديَّة يُمكنُك تقديمها. وسأُخبركم بالقصة“.

لقـد نظرتُ إلى صديقي ”كايل“، وأنـا غير مُصدِّق ما أسمعه منه، لأنـه بدأ يُخبر الحضور بقصة اليوم الأول الذي التقينا فيه - أنـا وهو - معاً، منذ سنواتٍ مضت.

وبدأ يسرد قصته حينما خطَّط للانتحار خلال عُطلة نهايـة الأسبوع. حيث تحدَّث عـن كيف أنـه قام بتنظيف خزانـة ملابسه حتى لا تضطر والدته إلى القيام بتنظيفها في وقتٍ لاحق. لقد كان ينظـر إليَّ مُظهِراً لي ابتسامة جميلة وبسيطة، ثم أردف قائلاً:

- ”الحمد لله، لقد أَنقذني. صديقي أنقذني من قيامي بما لا يُمكنني وصفه (أي الانتحار)“!

وسمعتُ أصوات الأنَّات التي كانت تخرج من صـدور الحشد المجتمع، حيث إنَّ هـذا الشاب الوسيم، أخبرنا بكـلِّ شيء، حتى عـن أضعف لحظةٍ مرَّ بها في حياته (وهي الانتحار)!

ورأيتُ أُمَّه وأباه ينظران إليَّ نظرة الامتنان، ويبتسمان نفس الابتسامة الشاكـرة (مثلما كـان يبتسمها ”كايل“)، وذلك لإنقاذ ابنهما من الانتحار! وحتى تلك اللحظـة، لم أكـن أُدرك عُمْـق تلك اللحظات الحاسمة.

+++

+ لا تُقلِّل من قوَّة أفعالك، فمع بادرة واحدة صغيرة، يمكنـك تغيير حياة شخصٍ مـا: إمَّـا للأفضل، أو للأسوأ.

+ الله يضعنا جميعاً في حياة بعضنا البعض، وذلك لنؤثِّر في بعضنا البعض بطريقةٍ ما.

+ ابحث عن الله في الآخرين.

+ الأصدقاء هم الملائكة الذين يرفعوننا إلى عنان السماء، عندما تُخْفِق أجنحتنا في تذكُّر كيفية الطيران!

+ لا توجد بداية ولا نهاية؛ فقط: أمس هو التاريخ. وغداً هو الغموض!

+ أمَّا اليوم فهو عطية الله لمَن يفتح عينَي قلبه، ليأخذها.

+++

+ «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُـلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ» (لو 10: 27).

+ «مَـنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يع 4: 17).

+ «أَيُّهَا الإِخْـوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَـنِ الْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَـنْ ضَـلاَلِ طَرِيقِـهِ، يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ الْمَـوْتِ، وَيَسْتُرُ كَـثْرَةً مِـنَ الْخَطَايَـا» (يع 5: 20،19).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis