من تاريخ كنيستنا
- 161 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م) - 10 - +

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

الأنبا باسيليوس مطران الكرسي الأورشليمي:

+ كـان السفر إلى الأراضي المقدَّسة آنذاك مـن المشقَّة بمكـان، سواء أكـان عـن طريق البحر الأحمر أو البحر الأبيض المتوسط. وكـان المطـران أنبا باسيليوس يختار الطريـق الثاني، فكان يركب ”المركب“ مـن دمياط إلى يافـا، ثم يركب عربة من يافا إلى القُدْس.

+ وحدث، ذات مرَّة، أن ذهب المطران إلى يافا كالمعتاد، وحينما وصل إليها قُرْب الغروب، اضطر إلى المبيت فيها. وعَـرَض الأَرمن عليه المبيت عندهم، ذلك لأن الأقباط لم يكن لهم أملاك في ذلك الميناء آنذاك. ولكنه رفض، وأَعلن أنـه سـوف يبيت في العراء مـع أبنائـه الأقباط، إذ وجدهم مجتمعين معاً تحت ظلِّ الأشجار. كما أنَّ أهـل المدينة أُحرجـوا جـداً وأعلنوا للمطران استعدادهم لعمل ما يراه ملائماً! فردَّ عليهم قائلاً: ”إن كنتم تُريدون حقّاً أن تُرضوني، فـابحثوا لي عـن منزلٍ أشتريه لكي آوي، ليس أنـا فقط، بل أنـا وأبنائي معي! إذ كيف ينام أب على سريـر وداخـل 4 جـدران، بينما "أحشاؤه" (أي أبناؤه الأقباط) ينامـون على قارعة الطريق“! (صورة تستحقُّ الوقوف عندها وتأمُّلها).

+ وتنفيذاً لهذه الرغبة، جاءوه بعد ساعة مـن الزمان أو ما يزيد بقليل، ليُخبروه بأنَّ هناك منزلاً تُحيط به ”بيَّارة“ (وهي أرضٌ مزروعة بالبرتقال)، وقد ارتضى صاحبها أن يبيعها للمطران.

+ وهذا البيت كان قائماً على رَبْوَة مُرتفعة، ما يمكـن للجالس في شُرْفتها أن يـرى المدينـة مُمتدَّة أمامـه إلى الشاطئ! وكـان صاحب البيت حاضراً معهم، فتفاوَض مـع الراعي اليقظ المُحب لشعبه ورعيَّته؛ واتَّفقا على أن يدفع المطران للبائع ثُلْث الثمـن، ثم يأتي له بالباقي على مـدى سنتين متواليتين! وهكذا تمَّت الصفقة.

+ وكوَّن الأقباط لأبيهم الروحي موكباً، وساروا جميعاً معاً وهم يترنَّمون بالترانيم الكنسية، إلى أن وصلوا إلى البيت الذي أصبح مِلْكاً لهم.

+ ثم أقـام المطـران أنبا باسيليوس صلاة الشكر، وصلَّى على ماءٍ ورشَّ به البيت والبيَّارة التي حوله، وبات الجميع في تلك الليلة معاً.

+ وفي الصباح، ذهبـوا جميعاً إلى ”مدينـة الملـك العظيم“ (أي ”أورشليم“)، وقـد ارتفعت صلواتهم في ذلك الموسم من الحجِّ بأكثر حرارة وفـرح. ثم جمعوا مـن بعضهم البعض كـلَّ ما استطاعوا جمعَه من المال، وقدَّموه لمطرانهم، وذلك تقديراً لأُبوَّته وعطفه ومحبته!

+ ولمَّا انتهى موسـم عيد القيامـة المجيدة، وعـاد أنبا باسيليوس إلى مصر، ذهب إلى باباه، وقال له: ”أرجوك أن تُعيدني إلى الديـر، فلستُ قـادراً أن أقـوم بـأعباء المطرانية التي شئتَ قداستكم أن ترفَعَني إليها“!

+ وبالطبع، استفسر البابا أبـو الإصلاح عـن السبب لهذا الطلب الغريب! ولما عرف البابا، أعطى للمطران مبلغاً من المال. ثم قَصَدَ البابا إلى بيت أحد كبـار أغنياء المنصورة، فلما قدَّموا للبابـا القهوة، رفض أن يشـربها إلاَّ إذا رصَّوْا صينية القهـوة بالجنيهات الذهبية. ومـن غير سؤال عـن السبب، وبلا تردُّد، رَصَّوْا له الجنيهات الذهبية، فجمعها!

+ وبعد أن شـرب القهوة، أوضح لهم السبب في طلبه. وهكـذا استطاع البابا أن يجمع المبلغ المطلوب قبل موعد التقديس التالي في أورشليم.

+ ولمَّا وَصَلَ المطران إلى يافا، وجاء أهلها للسلام عليه، ومـن بينهم الرجل الذي بـاع له البيت؛ قدَّم له المبلغ المتبقِّي عليه. وأمام هـذه السرعة في تسديد باقي قيمة البيت، تنازَل الرجل عن عُشْر المبلغ. وفي خلال إقامة المطران في الأراضي المقدَّسة في هـذا الموسم الثاني، شَرَع في بناء كنيسة في رُكنٍ من البيَّارة وأتمَّ بناءها وهو ما زال في حياته!

+ ثم لمَّا بلغ الرجـل نهايـة حياتـه على الأرض، دفنوه تحت المذبح هناك.

+ أمَّا البيَّارة، فحَفَر فيها بئراً ارتوازياً، وأقام إلى جانبه آلة بُخارية لريِّ الزراعات بسهولة!

+ وهكـذا أصبح للأقباط في القـدس مكـانٌ ممتاز في يافـا ما زال مِلْكاً لهم. لكـن الإسرائيليين خلعوا أشجار البرتقال كلها من البيَّارة، كيلا تكـون مخبأً يلجأ إليه الفدائيون العرب.

الأنبا باسيليوس في مواجهة تعنُّت

الأحباش (اسمهم الآن ”الإثيوبيون“):

ولم يكتفِ المطران بالشراء والبناء والتجديد، ولكنه واجه بدوره تعنُّت ”الأحباش“ فيما يتعلَّق بدير السلطان، فسار على خُطَى أسلافه بأن كافح كفاح الأبطال، لاسترجاع الدير إلى ملكية الكنيسة القبطية. وعلى الرغم مـن تعضيد بعض الدول الغربية للأحباش، فقد استمرَّ المطران في مقابلة المسئولين مـن رجال حكومات روسيا وانجلترا ومصر، ونجح في النهاية في الحصول على حُكْم تثبيت ملكية الكنيسة القبطية للدير.

+ وهناك حجَّة في يد الكنيسة القبطية في 17 ذي الحجة سنة 1095هـ، نشرها القمص جرجس النقادي الأنطوني في آخر الدليل الذي كَتَبَه عـن مـزارات القُدْس التابعة للكنيسة القبطية، قـال فيه: ”وكـان لطائفة الحَبَش قنديل فضة أَخَـذَه الأَرمـن لكونهم كانوا واضعي اليد على مواضـع الحَبَش... ومـن أغرب ما يُروَى، أنَّ في الدير المُسمَّى "دير السلطان" شجرة اتَّخذها الأحباش إثباتـاً لدعواهـم، حيث يقولون إنها الشجرة التي وَجَـدَ فيها إبراهيم الخليل كبشاً مربوطاً، أَخذه ليفدي به ابنه "إسحق". ولهـذا يكون الموضع باسم "قربـان الخليل" (أي "إبراهيم"). وبُطلان هذه الدعوى ظاهرٌ لا يحتاج إلى دليل. فقد مضى على إبراهيم الخليل إلى اليوم نحو 4000 سنة! فمِن أين لشجرته أن تبقى إلى اليوم؟ زِدْ على ذلك أنـه جاء في التوراة أنـه قدَّم ابنه "إسحق" على جبل "الموريا" حيث بُنِيَ هيكل سليمان، وليس على جبل صهيون حيث بُنِيَ "دير السلطان"“.

+ وبعد حديثه عن دير السلطان والمنازعات التي لم تنتهِ بعد حوله، أورد ”توفيق اسكاروس“ سِجِلاًّ بأمـلاك الكنيسـة القبطيـة في الأراضي المقدَّسة، مُبتدئـاً بذكـرى كنيسة بناهـا ”مقـاره النبراوي“ بأَمر ”البابا ياكوبوس“ (البابا الإسكندري الـ 50) تُعـرَف بكنيسة المجدلانيـة، ثم عمَّرها ”منصـور اليعقـوبي التلباني“ في عهـد ”البابـا كيرلس الثاني“ (البابا الإسكندري الـ 67).

+ ثم انتقل إلى أنَّ للقبط ميزة عظيمة هي امتلاكهم هيكلاً مُلاصقاً للقبر المقدَّس يقع غَرْبيه. ويُعلِّق على ذلك بقوله: ”فالمُتأمِّل يـرى أنَّ أُمماً أوروبية كبيرة ليس لها أملاكٌ أو حصصٌ، ولو جزئية، في هذه الكنيسة (أي كنيسة القيامة)، ومِن ثمَّ، أخذوا يتحجَّجون ويتصيَّدون لهؤلاء الذين هم - في ظنِّهم - "حيطة مايلة"، معتقديـن أن ليس لهم مَـن يقوم بالدفـاع عـن "صوالحهم" (أي مصالحهم) والذَّوْد عن حقوقهم. لكن الله قيَّض لهم الأنبا باسيليوس...“.

+ ”وكذلك أَوْرَد سِجِلاًّ خاصاً به صُوَر حجج ومضابط وأوامر بأملاك الوقف بالقدس الشريف، وإيـراد البطريـركخانة بتصديق أنبا باسيليوس مطـران "القيامة" رقـم غـرة بـرمودة سنة 1598ش، يتضمَّن اثنتين وخمسين حجَّة. وجميع هـذه الحجج مُصدَّقٌ عليها، إمَّا مـن مُتصرِّفي القُدْس أو مـن القضاة الشـرعيين أو السلاطين العثمانيين، ولم يأتِ تصديقهم عفواً، بل كان نتيجة للسعي المُتواصل الذي بذله البابوات أو مطارنة القُدْس. فحـقَّ لنا هنا أن نهتف مع النبي: «كيف يطرد واحـدٌ ألفاً، ويهزم اثنان رَبْوَة، لولا أن صَخْرَهُم باعهم (أي اليهود)، والرب سلَّمهم؛ لأنه ليس كصخرنـا صخرهم، ولـو كـان أعداؤنـا القضاة» (تث 22: 30-31). فمـا أعجب عمل الله الذي تجلَّت قوَّته في ضعف الأقباط“.

الأنبا باسيليوس يُجدِّد كنيسة القيامة:

وفوق هـذا، فقد جدَّد الأنبا باسيليوس كنيسة القيامـة، وشيَّد بجوارهـا ديـراً كبيراً على اسم ”القديس أنبا أنطونيوس“. وبعد ذلك، أحاط الهيكل الذي يملكـه الأقباط والمُلاصـق للقبر المقـدَّس بسياجٍ من الحديد المُزخرف المُفرَّغ.

ولكن حميَّته في البناء لم تقتصر على القُدْس ويافا، بل امتدَّت إلى الإيبارشيات الخاضعة له في مصر. وهكذا شيَّد الكنائس التالية:

1. ”كنيسـة المنصـورة“ سنـة 1584ش؛ 2. ”كنيسـة طـوخ طنبشـا“ سنـة 1585ش؛ 3. ”كنيسـة القديسـة دميانـة“ سنـة 1587ش؛ 4. ”كنيسـة بـلقاس“ سنة 1587ش؛ 5. ”كنيسـة كفـر نقباس“ سنة 1595ش؛ 6. ”كنيسـة نبروه“ سنـة 1595ش؛ 7. ”كنيسـة بـورسعيد“ سنـة 1601ش؛ 8. ”كنيسـة القلـزم“ سنـة 1601ش؛ 9. ”كنيسـة القشيش“ سنة 1601ش؛ 10. ”كنيسة أبهنسي“ سنة 1603ش؛ 11. ”كنيسة كفر سمري“ سنة 1603ش؛ 12. ”كنيسة كفـر يوسف شحاتة“ سنـة 1607ش؛ 13. ”كنيسة كفـر الخـير“ سنة 1608ش؛ 14. ”كنيسـة بنهـا“ سنـة 1610ش؛ 15. ”كنيسة السويس“ سنة 1614ش. وقـد وُجِدَت بعض الكنائس في بـوش ودمياط وسمنود وهي في حاجة إلى الترميم، فأصلحها وجدَّد عمارتها.

خدمته الرعويَّة وخدمته للمعوزين:

+ ومن حيث إنَّ الأنبا باسيليوس اعتاد افتقاد شعبه في مختلف الإيبارشيات التابعة له، فقد كان يعرفهم ويعرف احتياجاتهم. ولذلك فقـد خصَّص مُـرتَّبات شهريـة لخمسين عائلة يصـرف لهم عَيْناً، بأن يبعث بهـا إليهـم في شكل حـوالات بريديـة. وهذه المُرتَّبـات ظلَّت طـيَّ الكتمان، إلى أن انتقـل إلى الأخدار السمائية، وعنـدهـا انكشف سرُّها.

خدمته لرجل مُوسِر سخيٍّ في عطائه:

+ وكان من بين أبنائه الروحيين رجلٌ مُوسِر سخيٍّ في تقدماته. وحدث أن انقطع هـذا الرجل عـن أخباره فجأة، وعـن زيارته لأبيه الروحي الأنبا باسيليوس. فلما سأل المطران عنه، عَلِمَ أنَّ السبب في غيابه هو الضيق المالي الذي أصابه، فأرسـل يطلبـه. فلمـا مَثَلَ بين يديـه، أعطاه المطران خمسة جنيهات لتغطية مصاريف السفر وخصَّص له راتباً شهريـاً. وظهر التملمُل على وجه الرجل، فقال الأنبا باسيليوس: ”لا فَضْلَ لي إطلاقاً. فهـذا المال هـو مالك، والكتاب المقدس يقول لنا: «مَن يُعطي الفقـير، يُقرِض الـرب». وأنت أعطيتَ الكثير للفقراء. وهـذا مالُك الـذي يَرُدُّه إليك الرب، لأنه لا ينسى كأس ماء بارد“.

الله يمدُّ في عُمْر الأنبا باسيليوس:

وقـد أَمدَّ الله في عُمْر الأنبا باسيليوس الذي كان يُجاهد على مدى ثلاث وأربعين سنة. ولكي يُدرك القارئ إلى أيِّ حدٍّ تفانَى هذا الراعي في خدمة كنيسته، نُقدِّم مَثَلاً واحداً يتلخَّص في أنـه أُصيب بنزيف أثناء انهماكـه في مُباشرة العُمَّال وهم يبنون الأبنية المُلحقة بكنيسة القيامة.

+ وحدث أن ذهـب لزيارتـه القمص عبـد المسيح رزق خـادم كنيسـة المنصورة - إحـدى إيبـارشيات الأنبا باسيليوس - فـأشفق على أبيـه الروحي، واقترح على البنَّائين بـالكفِّ عـن العمل ريثما يستعيد صحتـه. فلمَّا عَلِمَ المطران بالأُمـر، طلب أن يحملوه على كرسي وينزلـوا بـه حتى يُباشـر العمل رغم مرضه قائـلاً: إنَّ واجبه له المكان الأوَّل مـن نفسه، ولـن يمنعـه عنه غير الموت. وقـد انتهى به الصرف مـن طاقته بـلا حساب، أن انتهى بـه الأَمـر إلى المرض بالفالج، مِمَّا أقعده عـن العمل. فـاختار أحد رهبانه، وهـو القمص عبـد المسيح الستلِّيمي، وكتب لـه تـزكية أرسلهـا إلى البـابـا كيرلـس الخامـس الـذي رسمه أسقفاً باسـم ”تيموثـاوس“ في 23 أغسطس سنـة 1896م. ومـع ذلـك فقـد ظـلَّ الأنبـا باسيليوس المُرشد والمُوجِّه والمُناضل عن حقـوق شعبـه، إلى أن استودَع روحـه الطاهـرة بـين يـدَي الآب السماوي يوم الأحـد 26 مـارس سنة 1899م، عـن اتنتين وثمانين سنة(1).

(يتبع)

(1) عـن: ”قصـة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 352-354.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis