طعام الأقوياء
- 87 -



«احفظهم في اسمك الذين أعطيتني،
ليكونوا واحداً كما نحن»
(يو 17: 11)
- 2 -

«نحن الكثيرين جسدٌ واحد في المسيح»:

نحن نعترف كـل يوم في قانون الإيمان الذي أقرَّته المجامع المسكونية الثلاثة، واعتمدتـه كافة الكنائس التقليدية قانوناً لإيمانها الذي نُردِّده كـل يـوم في القدَّاس الإلهي قائلين: ”نؤمن... بكنيسة واحدة مقدَّسة جامعة رسولية. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا“.

فنحن نؤمـن بوحدانية الكنيسة ووحـدة جسد المسيح الواحـد، كما يشهد بذلك القديـس بولس الرسول قائلاً:

+ «هكَـذَا نَحْـنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ. وَلكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا» (رو 12: 6،5).

+ «... وَيُصَالِحَ الاِثْنَيْنِ فِي جَسَـدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ (الآب) بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ... لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ» (أف 2: 18،16).

+ «وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُـلَّ فِي الْكُـلِّ» (أف 1: 23،22).

+ «الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ. وَهُـوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُـوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ. لأَنَّـهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِـهِ الْكُـلَّ لِنَفْسِـهِ، عَامِـلاً الصُّلْحَ بِـدَمِ صَلِيبِـهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ أَمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ» (كو 1: 17-20).

+ «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غل 3: 28).

+ فـالمسيح لمَّا صار جسـداً وحلَّ فينا (يو 1: 14)، اتَّحد لاهوته بناسوته الذي أخذه منَّا، فصار ابناً للإنسان وابناً لله في آنٍ واحـد، كما يقـول القديس كيرلس الكبير شارحاً سرَّ التجسُّد الإلهي هكذا:

[فإنـه إلهٌ بحسب الطبيعة لكونـه ابـن الله الوحيد، ولكونه غير منفصل عن جوهر أبيه، بل وماسكٌ بهذا الجوهر، بل ويُعتَبَر من ذات هذا الجوهر؛ ثم إنه إنسانٌ أيضاً من حيث إنه صار جسـداً، وجعـل نفسه مُشابهاً لنا لكي يربط بالله - بواسطة نفسه - ما كان منفصلاً عنه بحسب الطبيعة (بمعنى الإنسان)](1).

+ كما يقول أيضاً:

[إنَّ تأكيده بـأنَّ ”الكلمة حـلَّ فينا“ ذو منفعةٍ عُظمى، لأنه بذلك يكشف لنا سرّاً مـن أعمق مـا يكـون. فـإننا جميعـاً كنَّـا في المسيح، والشخصية البشريـة عموماً تستعيد فيه الحياة. ولذلك فإنه يُدعَى آدم الأخير، لأنه يُغْنِي طبيعتنا المُشتركة معه بكـلِّ مـا يـؤول إلى السعادة والمجد... لقد حـلَّ الكلمة في الجميع بواسطة الواحد، حتى إذا ما تعيَّن هذا الواحد ابناً لله بقوَّة من جهة روح القداسة (رو 1: 4)، تمتدُّ هذه الكرامة إلى البشريـة كلها، وبسبب الواحد منَّا يُدركنا القـول: «أنا قلتُ إنكم آلهة وبنو العَليِّ كلكـم» (مـز 81: 6 سبعينية)... أَفـلا يظهر بجلاءٍ للجميع أنه نزل إلى مستوى العبد، ليس لكي يربح من ذلك شيئاً لنفسه، بل لكي يُنعِم علينا بشخصه فنغتني بافتقاره (2كو 8: 3)، ونرتقي بمُشابهتنا لـه إلى صلاحـه الخاص، ونكون آلهةً وأبناء لله بالإيمان! لقد حلَّ الكلمة في الجميع بحلولـه في هيكـل جسـده الواحد المأخـوذ منَّا ولأجلنا، حتى يقتني الجميع في نفسه، فيُصالِح الكلَّ في جسدٍ واحد مع الآب (أف 2: 16)](2).

+ وفي نفس الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي أيضاً:

[... هؤلاء هم الذيـن قبلوا اللوغُس، فأخذوا منه «سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ» (يـو 1: 12)، بينما هُم بحسب الطبيعة مجرَّد خلائق، إلاَّ إذا قبلوا روح الابن الحقيقي الذي هو ابنٌ بحسـب الطبيعة. وبالتالي لكي يتحقَّق ذلك، فقـد صار الكلمة جسداً، لكي يجعل الإنسان قادراً أن يستقبل اللاهوت... حتى يظهر من ذلك أننا لسنا نحـن أبناء بحسب الطبيعة، بل هذا يخصُّ ابن الله الذي فينا...](3).

+ كمـا يقـول في ذلـك أيضـاً القديـس غريغوريوس النزينزي:

[هذه هي غاية السرِّ الأعظم (سر التجسُّد) من نحونا، هذا هو ما يُريده لنا الإله الذي تأنَّس وافتقر مـن أجلنا، لكي يُقيم الجسـد ويفتدي الصـورة (التي تشـوَّهت)، ويُجـدِّد خِلْقـة الإنسان، لكي نصير نحن جميعاً واحـداً في المسيح (غل 3: 28)، الذي قد صار بالتمام «الكلَّ في الكلِّ» (كو 3: 11) فينا جميعاً بكلِّ كيانه، حتى لا يكون فينا فيما بعد ذكرٌ وأُنثى (غل 3: 28)، بربـري، سكِّيثي، عبدٌ، حُـرٌّ (كو 3: 11) التي كلها صفات الجسـد؛ بـل لا نعـود فيما بعد نحمل في ذواتنا إلاَّ الشكل الإلهي، الذي به وله قـد خُلِقنا، بـل وتشكَّلنا وتطبَّعنا، لدرجة أننا لا نعود فيما بعد نُعْرَف إلاَّ بهذا الشكل وحده](4).

فـالمسيح، بتجسُّده، جعلنا كلَّنا واحـداً فيه، وأَزال كل الفوارق والعداوات بين كل الأجناس والأديـان والطبقات والشعوب؛ بـل وبين العبد والحُر، والغَني والفقير، والذكر والأُنثى. وبموته على الصليب رَفَـعَ عنَّا جميعاً العداوة واللَّعنة والحسد والبُغضة، وصنع الصُّلْح بين كل الأُمم والشعوب بكل طوائفهم، وهذا ما عبَّر عنه بولس الرسول قائلاً:

+ «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَـا إِلَى جَسَـدٍ وَاحِـدٍ، يَهُـوداً كُنَّـا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْـرَاراً، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحـاً وَاحِداً» (1كو 12: 13).

+ «إِذْ خَلَعْتُمُ (في المعمودية) الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَـعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيـدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُـورَةِ خَالِقِهِ، حَيْثُ لَيْسَ يُونَـانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَـلِ الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ» (كو 3: 9-11).

المسيح تجسَّد وصُلِبَ وقام «ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد» (يو 11: 52):

حينما أقام الرب يسوع لعازر مـن الموت، ونظر الكثيرون مـن اليهود ما فعل، آمنوا بـه؛ فجمع رؤساء الكهنة والفرِّيسيون مجمعاً وقالوا:

+ «”مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هكَـذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِـهِ، فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا“. فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: ”أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُـونَ شَيْئاً، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّـهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِـدٌ عَـنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا“. وَلَمْ يَقُلْ هـذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ، بَـلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَـاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يو 11: 47-52).

وهـذا هـو نفس ما قاله بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس كما استُعلِنَ له من الله:

+ «إِذْ عَرَّفَنَا بِسِـرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِـهِ الَّتِي قَصَدَهَـا فِي نَفْسِـهِ، لِتَدْبِيرِ مِـلْءِ الأَزْمِنَـةِ لِيَجْمَعَ كُـلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَـا فِي السَّمَوَاتِ وَمَـا عَلَى الأَرْضِ فِي ذَاكَ» (أف 1: 10،9).

+ وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[لقد قال قيافا: إنَّ موت المسيح سيكون عن اليهود وحدهم، ولكـن (يوحنا البشير) يقول: إنَّ ذلك كان مـن أجل البشرية كلها (يو 11: 52)؛ ذلك لأننا كلنا دُعينا ”ذُريَّـة الله“ (أع 17: 28) وأولاده، مـن حيث إنـه آب الكل لكونه أوجدنا عن طريق خِلْقتنا وبعثَ ما لم يكـن موجود إلى الوجـود؛ بـل ولأننا نلنا كرامة الخِلْقة على صورته منذ البدء، وكرامة السيادة على الكائنات التي على الأرض...

لكـن الشيطان لم يشأ أن نبقى في هـذه الحال، فبعثرنا وأَضلَّ الإنسان بطُرُقٍ شتَّى عـن قُرْبـه لله. وأمَّا المسيح فقد جمعنا كلنا من جديـد، وضمَّنا معاً بالإيمان إلى حظيرة الكنيسة الواحـدة، ووضعنا تحت نيرٍ واحد، فصار الجميع واحـداً، يهوداً أم يونـانيين، برابرة أم سكِّيثيين، مخلوقين من جديد ”إلى إنسانٍ واحدٍ جديـد“ (أف 2: 15)، وعابدين إلهاً واحداً](5).

«احفظهم في اسمك الذين أعطيتني،

ليكونوا واحداً كما نحن» (يو 17: 11):

هذه الصلاة جاءت في الليلة التي كان المسيح مزمعاً أن يُسلِّم فيها ذاته للموت عن حياة العالم، وذلك بعد أن قدَّم جسده مكسوراً ودمه مسفوكاً لتلاميذه، ليأكلوا جسده ويشربوا دمه، تحقيقاً لِمَا قاله لهم في (يو 6)، بأنـه ”هو الخبز الحي الذي نزل من السماء“، وأن ”هذا الخبز هو جسده الذي يبذله من أجل حياة العالم، ومَن يأكله فهو يحيا به“ (يو 6: 57،51،50).

وبذلك حينما أَكَلَ التلاميذ جسده وشربوا دمه الأقدسين، صار فيهم بجسـده ودمـه. وبعد ذلك مُباشرةً رَفَعَ الرب عينيه نحو السماء ونطق بهذه الصلاة التشفُّعيَّة التي كـرَّر فيها مـراراً ”أنـا فيهم“، «لِيَكُونُوا وَاحِـداً كَمَا نَحْـنُ»، «لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَـا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي»، «وَأَنَا قَـدْ أَعْطَيْتُهُمْ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِـداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ»، «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِـدٍ»، «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَـرِّفُهُمْ، لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ» (يو 17: 10، 26،23،22،21،11).

+ ويُعلِِّق على ذلك القديس كيرلس الكبير قائلاً:

[كيف ينبغي أن نفهم القول القائل: «كما أننا نحن واحدٌ، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا. أنـا فيهم وأنت فيَّ، ليكونوا مُكمَّلين إلى واحـد» (يـو 17: 23،22 حسـب النص)؟ لمَّا أراد كلمة الله أن يُقدِّم لجنس البشر عطية عُظمى وفائقة الطبيعة، أَخَذَ يجتذب الجميع إلى نوعٍ مـن الاتِّحاد بنفسه. فقد لَبِسً الجسد البشري وبذلك صار داخلنا؛ ومن جهةٍ أخرى، فهو له الآب في ذاته لكونه كلمته الخاص وشُعاعه.

فكأنـه يقـول: ”كما أنني أنا فيهم بسبب لِبْسي نفس الجسـد الذي لهم، وأنت أيها الآب فيَّ بسبب كوني مـن جوهـرك الخاص؛ هكذا أُريـد أنهم هـم أيضاً يـرتبطون بنـوعٍ مـن الاتِّحـاد، حتى يصـيروا متداخلين بعضهم في بعض، وكـأنهم صاروا جسداً واحـداً. فيكونوا جميعاً فيَّ، وكـأني أحملهم جميعاً في هيكـل (جسدي) الوحيد الذي اتَّخذتـه لنفسي. وهكذا يكونون ويظهرون مُكمَّلين، لأني أنـا الكامـل وقد صرتُ إنساناً“](6).

أليست هذه هي شهوة قلب المسيح أن نصير كلُّنا واحداً فيه، ليؤمن العالم بالمسيح؟!

(يتبع)

(1) On John 5: 46; LFC 1,309.
(2) On John 1: 14; PG 73,161-164.
(3) Against the Arians, 2,59; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 380.
(4) Oration 7,23; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 237.
(5) On John 11: 49-52; LFC 2,134.
(6) Thesaurus 12; PG 75,204.
(الكن‍ز في الثالوث: 12).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis