الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله
- 25 -

«أنا هو خبز الحياة»(1)

إنجيل يوم الخميس من الأسبوع السادس من الصوم المقدس

المزمور: «14لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ابْنَةِ صِهْيَوْنَ، مُبْتَهِجاً بِخَلاَصِكَ» (مز 9: 14).

الإنجيل: «47”اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. 48أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. 49آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. 50هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. 51أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ“. 52فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: ”كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟“ 53فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ”الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. 54مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، 55لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. 56مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. 57كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. 58هذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ“. 59قَالَ هذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُـوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ. 60فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: ”إِنَّ هذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟“ 61فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تَلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هذَا، فَقَالَ لَهُمْ: ”أَهذَا يُعْثِرُكُمْ؟ 62فَإِنْ رَأَيْتُمْ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! 63اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ، 64وَلكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ“. لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. 65فَقَالَ: ”لِهذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِي إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي“. 66مِنْ هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. 67فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: ”أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟“ 68فَـأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: ”يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، 69وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ“. 70أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: ”أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!“ 71قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأَنَّ هذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ» (يو 6: 47-71).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القدَّاس:

فصل إنجيل قدَّاس هذا الصباح طويلٌ، فهو يحتاج إلى شرح، لأنه دخل في ثلاثة مواضيع؛ ولكن طبعاً الأساس فيه هو الإفخارستيا. وإذا تحدَّثنا فقط عن الإفخارستيا لكي نُوفيها حقَّها فيلزمنا شهرٌ للحديث عنها. ولكنني سأُحاول تلخيص التعليم العملي الذي أوضحه المسيح في هذا الفصل الطويل.

إذا قرأنـا هـذا الأصحاح مـن الإنجيل بتمعُّنٍ، فسوف نكتشف أنَّ القديس يوحنا قدَّم موضوع الإفخارستيا بمفهومٍ روحي على درجاتٍ؛ وأنا سوف أُقدِّم هذا الموضوع وأشرحه، وأُريدكم أن تنتبهوا جداً لأن الكلام مُركَّزٌ!

أول درجة قالها الرب: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ»؛

الدرجة الثانية: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ»؛

الدرجة الثالثة (وأرجو أن تُلاحظوا مقدار التوضيح والت‍ركيز): «وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ»؛

الدرجة الرابعة: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»؛

والدرجة الخامسة (وهي ليست واردة في إنجيل القديس يوحنا، وإنما وردت في الأناجيل الثلاثة الأخرى: إنجيل القديس متى، إنجيل القديس مرقس، وإنجيل القديس لوقا. وأنا مُضطرٌ أن أضعها هنا لأن‍ها هي التي تختم على الدرجات السالفة): «أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: ”خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي...“» (مت 26: 26؛ مر 14: 22؛ لو 22: 19).

في الدرجات الأربع الأولى، لا يوجد ذِكْرٌ لكلمة ”خبز“، بمعنى الخبز الذي يؤكل، وباللغة اليونانيـة: + +++++؛ وكذلك لم تُذكَر كلمة ”كـأس“. بينما في الدرجة الخامسة ذُكِـرَ ”الخبز“: «أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: ”خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي“»؛ كما ذُكِرَت ”الكأس“: «وَأَخَذَ (يسوع) الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: ”اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا“».

والآن نحاول أن نشرح بأكثر تفصيل درجات استعلان ”الإفخارستيا“، وذلك من درجةٍ إلى درجة.

الدرجة الأولى:

+ «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ».

في هذه الآية يُعطي المسيح المعلومة الإفخارستية في صورت‍ها المطلقة. فالحياة التي يقصدها المسيح في هذه الآية، ليست هي الحياة الجسدية؛ وبالتالي فالخبز الذي يذكره الرب، ليس هـو الخبز الجسدي. فماذا يكون هذا الخبز؟ هذا الخبز هو خبزٌ روحيٌّ طبعاً!

وما دام الخبز خبزاً روحيّاً؛ إذن، فالروح هي التي تأكله وتغتذي به. وأنت إذا كنتَ حاضراً القدَّاس الإلهي، ومنجذباً بكلِّ جوارحك لِمَا يُقال فيه من كلمات تقديس وكسر الخبز وتقديم الكأس، فإنك تشعر وكأنك شبعان، وهذا بالفعل هو الغذاء الروحي. ولذلك فكلُّ مرَّة تحضر فيها القدَّاس الإلهي، وتصلِّي بعُمق، وتستمع لكلمات الإنجيل والتقديس، ثم تشترك في الأسرار المقدَّسة؛ فإنك تخرج من القدَّاس وأنت فرحان، وأنت في حالة اطمئنان وارتياح، وأنت بالفعل شبعان. لقد أكلتَ روحيّاً، أكلتَ من الله، وأقول: ”أكلتَ الله“!

الخبز هنا هو الطعام الروحي الفائق، وقـد أسماه المسيح بعد ذلك ”المأكل الحق“. فالذي يغتذي ب‍هذا الخبز، فإنه يغتذي بالحقِّ، وطبعاً يحيا إلى الأبد.

«أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ». ”أنـا هو“ +++ ++++، عندما يقولها المسيح، فإنه يَستعلِن طبيعته الإلهية التي كـانت مخفية فيه وهـو الآن يُعلنها. وهـو عندما يقول: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو 14: 6)، فهـو هنا يُعلن ”الحق الإلهي“ الذي فيه، أي إنـه يُعلن ”الله“؛ لأنه لا يستطيع أحدٌ أن يقول: ”أنا هو“ (إيجو إيمي +++ ++++) إلاَّ الله وحده، ”يهوه“.

فـ ”أنا هو“ +++ ++++، تُفيد الطبيعة الإلهية الذاتية، الذات الإلهية الواحدة، وكذلك أقانيم الثالوث الأقدس ذات الطبيعة الإلهية الواحدة. وهكذا يكشف المسيح ب‍هذا القول: إنَّ الإنسان أُعطِيَ أن يغتذي من الله، في شخص المسيح الحي، لأن ”خبز الحياة“ هو ”طبيعة الله“!

الدرجة الثانية:

+ «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ».

واضحٌ هنا أنَّ ن‍زول ابن الله من السماء، أي تجسُّده؛ هو الذي استعلَنَ المطلق أي الله. وهنا يُوضِّح المسيح ويؤكِّد أنَّ النتيجة الأخيرة التي وصلنا إليها في الدرجة الأولى، أنَّ ”خبز الحياة“ الذي هو غذاء الإنسان، في شخص المسيح، قد جاء من السماء. ولذلك بعد أن قال: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ»، استطرد قائلاً: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». فهـو خبزٌ حيٌّ نزل إلينا من السماء. ومعنى هذا أنه كان فوق، أي أنَّ هذا الخبز هو من الله؛ إذن، فهو الله. فما دام المسيح قال عن نفسه إنه هو: «الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ»؛ إذن، فنتيجة ذلك أننا نغتذي من طبيعة الله. فالغذاء السرِّي الجديد للإنسان، في شخص المسيح، قـد جاء مـن السماء، جاء من الله، وهو الله.

فتعبير ”الذي نزل“، هو تعبيرٌ يُفيد أنَّ الخبز السرِّي الإلهي الذي من الله، أَخَذَ وَضْع الن‍زول. هو خبزٌ (أولاً) مطلق، طبيعة مُطلقة؛ ولكن هذا ”النازل من السماء“، بدأ يأخذ طبيعة الن‍زول. وطبعاً معروفٌ أنه فوق الكل. ولذلك عندما قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ»، فمعنى هذا أنه لا يستطيع أيُّ كائن أن يصل إليه؛ ولكن عندما قال: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ»، فهنا نحن نستطيع أن نراه، نقدر أن نتأمَّله، يكون لنا فيه نصيبٌ، يصير فيه حاجة مِنَّا؛ فيكون معنى هذا ”التجسُّد“. إذن، ”فالخبز الذي نزل من السماء“، معناه أنَّ ابن الله، الإله الحق من الإله الحق، صار مُتجسِّداً.

فالذي كـان فائقاً على كـلِّ تصوُّر وفَهم وطبيعة أخرى، أَخَذَ وَضْع التنازُل ليكون على مستوانا البشري، ليتوافق مع حالنا، حتى نستطيع أن نأكله. فالن‍زول أو التنازُل هو أنه ”أَخلى ذاته“ من كل مجد اللاهوت، بمعنى أنه انتقل سرّاً من حالٍ غير منظور ولا محدود ولا موصوف إلى حالٍ منظور ومحدود وموصوف، مع بقائه - كما هـو - بحسب لاهوته. هذا هو ”التجسُّد“ عينه، هذا هو الن‍زول، نزول ”الخبز الحي“ أو ”خبز الحياة“. فالمسيح تجسَّد، ليَهَبنا - فيه - الخبز الإلهي الفائق من السماء، الخبز الحي المطلق!

لا تنسوا ما ردَّده المسيح: ”أنا هو“، والتي تعني أنه هو بذاته، بشخصه، هو الذي نأكله، نأكله كله!

الدرجة الثالثة:

+ «وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ».

هنا ظهر في هذه الدرجة الثالثة كلمة: ”جسدي“؛ فالمسيح قبل أن يقول هذه الكلمة، قال: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». لذلك فقد كشف المسيح في هذه الدرجة الثالثة كشفاً محدوداً نوعاً ما: «جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ».

في الدرجتين السابقتين، قال المسيح: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ»، ثم «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ». والسؤال ال‍مُحيِّر هنا: كيف نأكله؟ فإذا كان هو ”الخبز الحي“، فكيف نأكله؟ ولذلك أردف كلامه بالقول: «الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ»، ولكن ما يزال السؤال يتردَّد: كيف نأكله، وهو الذي يقول عن نفسه ”أنا هو“؟

هنا في هذه الدرجة الثالثة أعطى المسيح الجواب، لأنه قال: «وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي»، ثم أردف قائلاً: «الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». ولكن هذا الكلام كان صعباً على الآذان، حتى قالت الجموع: «كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟». المسيح لم يَقُل: ”الخبز هو جسدي الحي“، ولكنه قال: «وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ»، ”أي أنَّ جسدي في حالة البَذْل“!

لابد لنا أن نُفسِّر كلمة ”البَذْل“، أي في حال ”الذبيحة“. الأَكل هنا - حتى هذه اللحظة التي تكلَّم فيهـا المسيح - لا يـزال واقعاً على شخصـه، وعلى طبيعتـه الإلهية، أي على الـ +++ ++++، وليس على أيِّ شيء آخر؛ ولكنه أَكْـلٌ في حـال ”الذبيحة“. وهنا أَبرز المسيح نفسه أنه سيكون خبزاً صالحاً للأَكل في حال ”الذبيحة“: «وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». وكـأنَّ المسيح يقول: ”أنا سأكون صالحاً للأَكل في حالةٍ واحدة، أنني سأكون مبذولاً، مذبوحاً. وهنا يكون الأكل مُمكناً“؛ ولكن قبل البذل لا يمكن أن يؤكل! هنا يُقدِّم المسيح نفسه ”ذبيحة فداء“، ”ذبيحة فصح“ لله، ”من أجل حياة العالم“، ليأكلها الإنسان كلها!

العقيدة الأرثوذكسية تقول: عندما نأكل جوهرة صغيرة من الجسد المقدَّس، فإننا نأكل المسيح كله. فالمسيح يُقدِّم ذاته ذبيحة فصح لله ليأكلها الإنسان كلها، حيث كلمة ”كلها“ تحوى عبارة: +++ ++++ ”أنا هو“. فالمسيح يقول: «مَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي»، فهنا أَكْل المسيح كله، وليس جزءاً منه فقط! وهذا هو مفهوم ”الفصح“، لأن خروف الفصح كـان يؤكل كله، ولا يتبقَّ منه شيءٌ أبداً (خر 12: 10)!

ففي بداية كلام المسيح، قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ»، ثم استطرد قائلاً: «وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ»، بمعنى: ”أنا هو فصح الحياة“؛ وهنا بَدَأَ يتضح لنا مفهوم ”الذبيحة“. ولذلك قال بعد ذلك: «مَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي». وكلُّ هذا الكلام يُبيِّن الاستعلانات التي أوضحها الرب يسوع واحدة تلو الأخرى. ولكن لا يزال الأَكل هنا واقعاً على ”الأنـا“: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ»، ولكن لابد أن يكون ”الأنا“ مذبوحاً وفادياً، أي ”ذبيحة فداء“.

هنا اتَّضح لنا كيف ومتى نأكل المسيح؟ أو كيف يصير المسيح غذاءً إلهيّاً لنا؟ أو كيف يصير لاهوت المسيح وطبيعته الإلهية ” +++ ++++“ قابلاً للأَكل؟ حيث إننا نأكل المسيح كذبيحة فداء! نأكل ابن الله النازل من السماء متجسِّداً، وهو بحال الفدية!

ولكن ذبيحة الفداء تشمل الموت والحياة، فهي ذبيحة أي حدث ”موت“؛ ولكن عندما نتكلَّم عن الطبيعة الإلهية لابـد سريعاً أن نقول: ”حياة“. فإذا قلنا ”موت“ لابد أن نقول ”حياة“، أو الموت والحياة معاً. فذبيحة الفصح - في العهد القديم - وذبيحة المسيح الكفَّارية، هي ذبيحة موت وحياة معاً. فنحن نأكل قوَّة الله التي في الذبيحة الإلهية - أي التي في طبيعة المسيح الإلهية - لتُحوِّلنا من الموت إلى الحياة.

فعندما نأكل من هذه الذبيحة الإلهية، فإننا نأكل المسيح مائتاً وقائماً من بين الأموات، نأكل المسيح الذي جاز الموت وأَظهر الحياة بآنٍ واحد. هذا هو المسيح ”فصح الحياة“ المبذول من أجل حياة العالم، والمأكول لكي يَهَب الحياة للعالم. هذه هي قوَّة «الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ»، لأنه يأكل الحياة.

ولكن، كيف يجوز الإنسانُ الذي يأكل هـذا الخبز الحي الموتَ؟ يجوز الإنسانُ الموتَ، لأن المسيح جاز الموت وانتصر عليه، فنحن نأكل الحياة الأبدية التي في المسيح، بعد أن نكون قد أكلنا قوَّة العبور فوق الموت. هذا هو المعنى الأساسي ال‍مُتغلغل في مفهوم البذل أو الذبيحة. فعندما يقـول المسيح: «جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِـنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ»، أي: ”جسدي الذي أَذبحه مـن أجـل حياة العالم“. فكلمة ”أذبحه“، أي يكون فيه موت، ولكن فيه أيضاً حياة. فـ «جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ»، أي فيه موت وفيه حياة بآنٍ واحد!

الدرجة الرابعة:

+ «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».

هنا ذَكَر المسيح، ليس ”جسدي“ فقط، ولكن ”دمي“ أيضاً. فالذبيحة لها شقَّان: صورة الجسد الميت؛ وصورة الدم الحي. وبذلك يُفسِّـر لنا المسيح معنى ”الذبيحة“. فـ ”الجسد“ يُشير إلى الموت، أو إلى معنى الموت ويحمله؛ بينما ”الدم“ يُشير إلى معنى الحياة ويحملها!

عندما يقول القديس يوحنا في إنجيله عند صليب المسيح: «لكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يو 19: 34). فالذبيحة فيها دمٌ حيٌّ، أي ”الحياة“. ولذلك قدَّم المسيح أولاً أَكْل جسده (أي الموت)، ثم أعقبه بشُرب دمه (أي الحياة)!

هنا المسيح - كخبز الحياة - يؤكل بحال الذبيحة، بمعنى أنَّ ابن الله النازل مـن السماء، بطبيعته الإلهية، تجسَّد وصار إنساناً، مع بقائه إلهاً. فالمسيح يؤكل بحال الموت والحياة بآنٍ واحد، ولا نستطيع أن نفصل أحدهما عن الآخر أبداً، فهو يؤكل ميتاً وحيّاً - في آنٍ واحد - من أجلنا. لأن مفهوم الذبيحة يشمل الموت والحياة معاً، وهذا ما تحويه ذبيحة الفداء من أجل الآخرين، من أجل حياة العالم، كما قال الرب يسوع: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».

ولابد مـن ملاحظة أن طبيعة المسيح الإلهية لم تُفارِق ناسوته لحظةً واحدة ولا طَرْفةَ عين حتى عندما ”ذاق الموت بالجسد من أجلنا نحن الخطاة“. فالمفهوم السرٍّي من أَكل جسد الرب (وبالتالي شُرب دمه) أننا نأكله (وبالتالي نشربه) كله، أي المسيح الإله ال‍مُتجسِّد، أي في حال موته بالجسد من أجلنا وفي حال قيامته من بين الأموات؛ وبالتالي نكون قد أَخذنا قوَّة العبور من الموت إلى الحياة، لأنه هو قام منتصراً على الموت. فإذا أكلنا المسيح واشتركنا في موته، نكون قد أخذنا قوَّة العبور من الموت إلى الحياة، وبالتالي لا يمكن أن نُمسَك من الموت، مثلما لم يستطع الموت أن يمسك بالمسيح أو يسود عليه.

فأَكْل جسد الرب وشُرب دمه، هو بمثابة الأَكل والشُّرب من ذبيحة الفداء الإلهية، وهو في حال الموت وفي حال الحياة بآنٍ واحد. بمعنى العبور من الموت إلى الحياة الأبدية. ولذلك قال المسيح: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»، لماذا؟ لأنه سيَعبُر الموت!

والمسيح اختصر كـل هذا بقوله: «مَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي». والسؤال هـو: ”ما الذي يأكله فيك، يا رب“؟ الجواب (من المسيح): ”يأكل موتي، وأيضاً حياتي، فيعبُر من الموت إلى الحياة“! حيث في كلمة الرب: ”يأكلني“، يتجمَّع الموت والحياة معاً وبآنٍ واحد!

إلى هنا فنحن لا نتكلَّم عـن أَكْل الفم، ولا شُرب الفم، لأن الأكل والشُّرب هو سرِّيٌّ! لأننا نأكل ابن الله النازل مـن السماء مُتجسِّداً، وهـو بحال ذبيحة الفداء، أَكْل إيمان، أَكْل بالروح، اغتذاء حقيقي يوصِّلنا بالحقيقة الإلهية. فهـو أَكلٌ أقوى من أَكل الجسد. ولكن الذي نأكله ونشربه بالروح - في مفهوم الجسد والدم - هو هو المسيح عينه ابـن الله ال‍مُتجسِّد، في موته وقيامته. ولا ينبغي أن ننسى المعيار الأول الذي استعلنه لنا المسيح في سرِّ الإفخارستيا: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ».

ففي أَكلنا للجسد المقدَّس وشُربنا للدم الكريم، فإننا نأكـل ونشـرب المسيح باعتباره الإله المتجسِّد: «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَـا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَـنْ يَأْكُلْنِي (وبالتالي ”مَن يشربني“) فَهُوَ يَحْيَا بِي». إذن، ”مَن يأكلني فهو يحيا بي، كما أحيا أنا (المسيح) بالآب“.

هـذا اغتذاءٌ روحي عـالٍ وفائق في سموِّه. فنحـن في تأمُّلنا، وفي صلاتنا، وفي سجودنـا للمسيح، وفي قراءة كلمة الله، وفي الأنين والاشتياق لحبِّه والدخول إلى قلبه؛ هذا كله أَكْلٌ، وإنما على المستوى الروحي. ثم يُتوَّج كل هذا بالتناول مـن الأسرار الإلهية، بالأَكل من جسد الرب والشُّرب من دمه!

الدرجة الخامسة:

+ «أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَـالَ: ”خُذُوا كُلُوا. هـذَا هُوَ جَسَدِي“. وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: ”اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هـذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا“».

هذه الدرجة هي آخر درجة استعلانية لسرِّ الإفخارستيا، إذ «أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ... وَقَالَ: ”خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي“»، ثم «أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: ”اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي“».

هنا استودَع المسيح طبيعته الفائقة، بسرِّها الفائق، بمفهوم الذبيحة، بمفهوم الفداء، بمفهوم آلام وأتعاب الموت، ثم بمفهوم القيامة بجلالها ومجدها؛ استودَعها في خُبزٍ وخمرٍ، لكي يكون كل هذا على مستوانا: «اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تي 3: 16). فإن كان ”الله ظهر في الجسد“ من أجلنا، لكي نتعرَّف عليه ونمسكه ونؤمن به؛ أفكثيرٌ عليه أن يُودِعَ طبيعته السرِّيَّة في خبزٍ وخمرٍ؟!!

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الخميس من الأسبوع السادس من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (25) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis