تأملات روحية



«ناردين خالص»
(يو 12: 3)

+ رغم فقرها المدقع، ورغم عوزها الشديد، ورغـم بيتها الصغير الـذي يقع على قارعـة الطريق، بقرية بيت عنيا الوضيعة، حَظِيَت عائلة مريم ومرثا ولعازر بمنزلة أثيرة في قلب الرب يسوع، الذي كان يُكِنُّ حبّاً خالصاً لهذه الأسرة التقية. فقد صار بيتهم ملجأً له ولتلاميذه، وكلما واتته فرصة ليستريح، كان لا يتردَّد مُطلقاً أن يقرع بابهم. وهم بدورهم كانوا قد سبقوا ففتحوا قلوبهم للذي أحبهم أولاً.

أحس المسيح بـودِّهم، واختبروا حبَّـه. أحب فيهم تقواهم وورعهم، وأحبوا عمقـه وبساطتـه. وتوطَّدت أواصر الحب والمودَّة بينهم جدّاً بكل احترام ومهابـة ورزانـة. عـاتبوه ولامـوه (يو 11: 21)؛ أما هو فبرفق امتصَّ عتابهم، واستساغ لومهم، وأجاب طلبهم.

ولما حضر الرب يسوع يـوم مـات لعازر ودُفِنَ بكوا، فدَمَعَ ونَشَجَ. ولما فرحـوا، جـذل وتهلل. ولما دعوه للعشاء، استجاب بكلِّ ترحاب.

+ أمَّا لعازر الذي أقامه الرب من الموت فكان أحد المتَّكئين معه. ومرثا مـا فتئت مُنكبَّة على إعداد الوليمة تـذرع البيت جيئةً وذهابـاً، تَستَرِق السَّمْع بين الفينة والفينة لكلام الحياة.

+ أمَّا مريم فحجزت لها مكاناً وعزمت بكل قلبها ألاَّ تُغيِّره ولا تُفارقه، مُتمسِّكةً به جدّاً، مهما تغيَّرت الظروف ومهمـا تنوَّعت الضيوف؛ فقـد احتجزت لها مكانـاً عنـد قدمَي الرب، تسمع كـلام النعمة الخارج مـن فمه. فعندمـا دخـل الرب بيت مرثـا، كـانت أُختها مريم هي «الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ» (لو 10: 39).

وعند مـوت لعازر يصف يـوحنا الرسول تصرُّف مريم فيقول: «فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَـانَ يَسُوعُ وَرَأَتْـهُ، خَـرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَـائِلَةً لَهُ: ”يَـا سَيِّدُ، لَـوْ كُنْتَ ههُنَـا لَمْ يَمُتْ أَخِي!“» (يـو 11: 32).

أمَّا عمل مـريم الخالد، والذي لم تبرح فيـه مكانها عند قدمَي الرب، فكان يوم سكبت الطِّيب على قدمَي المُخلِّص قبيل الصليب والآلام.

+ تروي الأنـاجيل حادثة سَكْب الطِّيب في (إنجيـل متى 26: 6-13؛ وإنجيل مرقس 14: 3-9)، أنَّ مريم سكبت الطيب على رأس الرب. أمَّا إنجيل القديس يـوحنا فقال إن مـريم سكبت الطِّيب عند قدمَي الرب. وفي كلتا الحالتين نجـد أنَّ مريم قدَّمت كل ما عندها وأعطته للرب.

لقد ادَّخرت مـريم كـلَّ مـا تملك واشترت ”قارورة طِيب ناردين خالص كثير الثمن“، لتُقدِّم للمسيح حياتها كلها ومشاعرها وحبَّها وشُكرها وإحساسها بالعرفان بالجميل مُذابة ومسكوبة بكلِّ الحب في أروع تقدمة، قارورة طِيب خالص، بحبٍّ خالص، وكثيرة الثمن، لأثمن حبيب، اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن.

+ إذاً، قارورة طِيبنا هي حياتنا التي نبذلها ونُقدِّمها للمسيح سرّاً وعلناً حبّاً فيه؛ في تكريسٍ كُلِّي للرب، في صلاة لأجل جميع الناس، في تقوى وعبادة حارَّة؛ في سماع لكلمة الله وطاعة لوصاياه؛ في عِشرة حقيقية مع المسيح طوال اليوم؛ في هذيذ قلبي لا ينقطع ليلاً ونهاراً؛ في مقاومة حتى الدم بجهاد ضد كل خطية؛ في عفَّة وقداسة مَرْضِيَّة للروح القدس؛ في خدمة باذلة بكلِّ الحب ومن كلِّ القلب، في عطاء لا ينضب ولا يملُّ ولا يكُفُّ؛ في افتقاد لليتامى والأرامل، في زيارة للسجون، في خدمـة للمرضى بمحبة مذبوحة وطول أناة بفرح؛ في أُبـوَّة كاملة نابعة مـن قلب الآب السماوي؛ في أعمالٍ صـالحة مـرضية، والأعمال الصالحـة كثيرة، فـاخْتَر ما يرتاح له قلبك واعمله.

وهـذا هـو جـواب القديس أنطونيـوس(1) على مَن سأله قائلاً: ”ما هو العمل الجيِّد“؟ فأجاب وقال: ”إن الأعمال الجيِّدة كثيرة، لأن الكتاب يقول: إن إبراهيم كان مُضيفاً للغرباء وكان الله معه، وإيليا كان يؤثِر سُكنى البريَّة وكان الله معه، وداود كـان متَّضعاً ووديعاً وكـان الله معه، ويوسف كان حليماً عفيفاً وكان الله معه. فالذي يحبُّه قلبك من كلِّ هذا، اعمله من أجل الله واحفظ قلبك“.

+ ثق، أيها الحبيب، أنَّ كـلَّ قارورة طِيب مسكوبـة على رأس المسيح أو عنـد قدميـه، هي إكـرام لمـوت المسيح وصليبـه، هـي بشـارة واعتراف بحبِّه وبَذْله في كلِّ العالم، هي كرازة حيَّة محفوظة ومصرورة في قلب الآب السماوي الذي يصنع لها تذكاراً لا يُمحَى أبـداً. هي كنزٌ محفوظ يأخذه معه المسيح في جسده، ويشتمُّ الآب السماوي رائحته ممزوجة برائحة الجلجثة، رائحة دم المسيح.

الطِّيب الذي مسَّ قدمَي الرب وضعته مريم على شعرهـا (يـو 12: 3)، لأن قيمته صارت ثمينـة جـداً، فهـو مسـكوب على موضع الجروح - الـرأس والقَدَمين – مـوضع الحب. وشعر مريم أصبح مملوءاً من رائحة الطِّيب، بل وأصبحت مريم نفسها قارورة طِيب لا تُقدَّر بثمن، إذ حملت في نفسها ليس فقط رائحة ناردينها الذي سيزول مـع الزمن، بـل حملت رائحـة طِِيب الصليب، الطِّيب الذي يملأ العالم والأبدية، الطِّيب الذي لن تزول رائحته مطلقاً، طِيب ذاك الذي لمَّا وُصِفَت ثيابـه فقط قيـل عنها: «كُلُّ ثِيَابِكَ مُـرٌّ وَعُودٌ وَسَلِيخَةٌ» (مـز 45: 8)(2).

+ وكـذا نحـن، أيها الحبيب، حينما نسكب طِيبنا على قدمَي الرب أو على رأسه بكل الحب، فهذا الطِّيب يكون عزيزاً جداً ومُكرَّماً في عينَي المسـيح، ونصـير نحـن أنفسـنا «رائحـة المسـيح الذكية لله في الذيـن يخلُصـون... رائحـة حياةٍ لحياة» (2كو 2: 16،15).

إذًا، لم يكن سَكْب الطِّيب على قدمَي الرب يسوع إتلافاً البتَّة، فمريم استردَّت الطِّيب في شعرهـا، بـل وأصبح الطِّيب رائحـة مجدهـا. وصارت رائحة الطِّيب تتدفَّق من شعر مريم كلما تحرَّكت.

وكذلك بالمثل كل عمل روحي نعمله حُبّاً في المسيح، لا يمكن أن يكون إتلافـاً، ولا يمكن أن يذهب هباءً، بـل حتى الدموع محفوظة في زِقِّ الرب، وأعمالنـا مكتوبـة في سِفْره (راجـع مز 56: 8)، «لأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّة الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ» (عب 6: 10).

مـريم أخـذت الطِّيب ودهنت بـه قدمَي المُخلِّص، ثم مسحت قدميه بشعر رأسها. فأخذت مسحة من قوة صلب المسيح وتكفينه في شعرها، وحملت في داخلها قـوَّة موت المسيح وقيامته: ”بموتـك، يـا رب، نُبشِّر. وبقيامتك المقدَّسة وصعـودك إلى السمـوات نعترف“ (القدَّاس الإلهي)، وهذا هـو الإنجيل. لذا لا نعجب حينما نسمع أنَّ الرب أوصى أنه حيثما يُكرَز بالإنجيل يُخبَر بما فعلته مريم تذكاراً لها.

+ فمـا هي قـارورتنا إلا جسدنا! «لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِلله لاَ مِنَّا» (2كو 4: 7).

ولكي يخرج عَبَق طِيبنا الروحي وعِطْر الكنز الذي أودعـه الله فينا، يتحتَّم علينا أن نكسـر القارورة كما فعلت مريم.

وكَسْر القارورة لا يتأتَّى لنا إلاَّ بكَسْر الذات وجحدها، وبحَمْل الصليب؛ حينئذ يكمل علينا قول الكتاب فنكون «إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ، مُقَدَّساً، نَافِعاً لِلسَّيِّدِ، مُسْتَعَدّاً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تي 2: 21).

+ أمَّا يهوذا الذي ثمَّن الطِّيب بثلاثمائة دينار، والذي ذَكَـر الثمن ليُشيع المذمَّة بين الحاضرين - فهو هو الذي ثمَّن سيِّده بثلاثين مـن الفضة - فصارت حكمته جهالة، وبـاع السيِّد كعبد.

أمَّا الرب يسوع الحنون فتصدَّى بدوره لكلِّ تقمقُم وتذمُّر من جانب المدعوين، وحامَى عن مريم، بل وامتدحها وبرَّر عملها وزكَّاه وأوصى بذِكْره في الإنجيل ليصل الى مسامعنا، علََّه يجد رنيناً في قلوبنا، فنتمثَّل بمريم.

+ أخيرًا «يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُـلَّ حِـينٍ، عَـالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ» (1كو 15: 58).

(1) قول 15 - ”بستان الرهبان“.
(2) بحسب الترقيم العبري والترجمة البي‍روتية.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis