من تاريخ كنيستنا
- 141 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا بطرس الجاولي
البطريرك التاسع بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1809 - 1852م)
- 5 -

 «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) زيارة البابا بطرس الجاولي لدير القديس أنطونيوس، ثم رجوعه من الدير، ومعه أحد الرهبان لرسامته مطراناً لإثيوبيا:

+ بمجرد أن عَلِمَ البابا بطرس الجاولي أنَّ إثيوبيا تطلب رسامة مطران لها عِوَضاً عـن المطران المتنيِّح، نزل من الدير وأخذ معه أحد الرهبان القسوس اسمه ”القس مينا“، ولم يذكر له شيئاً عن سبب نزوله معه. وركب القس مع البابا على الجمل، ونزل معهم.

ولكن هذا القس مينا تعارَك مع الجمَّال قاصداً الهروب، ولكنهم كتَّفوه وأركبوه حماراً، ووصلوا إلى القلاية البطريركية وهو مُكَتَّف الرِّجْلَيْن، وأودعوه في ”المنظرة“ (وهي غرفـة الاستقبال بالقلايـة البطريركية بالحوش الجواني).

+ ولما كـان يوم الأحد 15 مسرى سنة 1531ش (20 أغسطس سنة 1815م)، نـزل قداسة البابا وبصُحبته الآباء الأساقفة إلى الكنيسة البطريـركية، وأحضروا القس مينا وفكُّوا قَيْد رِجليه، وأتـوا بـه إلى الكنيسة ورسموه مطراناً على إثيوبيا باسم ”الأنبا كيرلس“.

+ وأسرع قداسة البابا في اختيار القسوس والرهبان والشمامسة الذين يصطحبونه، وكل الكُتُب الطقسية اللازمة، وودَّعوهم، وبارك عليهم البابا. وكان ذلك في يوم الاثنين 8 توت سنة 1532ش (18 سبتمبر سنة 1815م)(1).

رسامة أسقف على كرسي

البهنسا والفيوم والجيزة:

كذلك حدث أن شغر كرسي البهنسا والفيوم والجيزة. وكان في دير السريان آنذاك راهب محبوب جدّاً من إخوته، فأخذوه إلى البابا بطرس الجاولي ليرسمه أسقفاً على الكرسي الشاغر. ولكن لأن البابا كان من دير الأنبا أنطونيوس، فقد كان ميَّالاً إلى اختيار رهبان من ديره لرسامتهم أساقفة.

على أنَّ الرهبان آنذاك استمروا في إلحاحهم إلى حدِّ جَعْل البابا ينزل على رأيهم ويرسم مَن اختاروه أسقفاً باسم ”الأنبا إيساك“. ومن الطريف أنه توجد في ديره حُلَّة كهنوتية كـاملة باسمه، نُسِجَ عليهـا أنهـا تمَّت سـنة 1555ش(2).

رسامة أساقفة للسودان:

+ وكان البابا الإسكندري قد اضطر إلى عدم رسامة أساقفة للسودان، لأن النوبة كانت قد سقطت في أيدي ولاة اليمن، ولكن محمد علي باشا تمكَّن من استعادتها لمصر، ما جعل الطريق إلى السودان مفتوحاً.

ووجد البابا الإسكندري الفرصة مواتية، فرسم أسقفين للسودان، كما رسم معهما الرعـاة اللازمين للخدمـة. وهكذا عادت الرابطـة التي تـربط بين البلدين، كما كـانت سابقاً(3).

تصريح الحكومة بعمارة وتجديد

الكنيسة المرقسية بالإسكندرية:

+ وقد استطاع البابا بطرس الحصول على ”فرمان“ أي ”قانون“ مـن محمد علي باشا والي البلاد بالسماح بعمارة كنيسة القديس مار مرقس بالإسكندرية؛ حيث لم يكن الوقت ولا الظروف قد سمحت بعمارة الكاتدرائية لعدم وجود مَن يقوم بعمارتها في الثغر الإسكندري بسبب المتاعب التي حلَّت على الكنيسة في ذاك الحين. فلما سمح الله وبحُسن تـدبيره، وكـان الوالي محمد علي باشا في الثغر الإسكندري؛ فتوجَّه البابـا بطرس لمقابلته.

ولما مثل أمامه، فـاتحه في أَمْـر عمارة الكنيسة، فأَمَرَ الوالي المعلِّم صالح (أحد أراخنة الكنيسة، وكـان مُرافقاً للبابا بطرس في هـذه الزيارة)، وأعطاه الإذن بعمارة الكنيسة، وأعطى له فَعَلَة وبنَّائين من عنده. فبدأوا في إزالة الأتربة وتجديد مباني الكاتدرائية.

وقد أرسل المعلِّم صالح المكاتبات إلى القاهرة إلى الآباء الأساقفة يُعْلِمهم بما تمَّ، ويُبلِّغهم بهذه البُشـرَى المُفرحـة، وطلـب منهـم إرسـال ”الفرمان“ الذي صرَّح بعمارة الكنيسة(4).

+ فلما وصلت المكاتبات إلى مصر وقرأها الآباء الأساقفة المُقيمون بالقلاية البطريركية، وكذا الكهنة والمُعلِّمون الأراخنة: ”جرجس أبو ميخائيل الطويل“، وأخوه ”المعلِّم يوحنا“، و”المعلِّم منصور سرابـامون“، و”المعلِّم منقريوس أبـو يوسف“، و”المعلِّم عبـد الملك أبـو يـوسف حباطـة“، وبـاقي الإخـوة المسيحيين؛ امتلأوا فرحـاً وسـروراً، وازدادوا ابتهاجاً وحبوراً لهذه البُشرَى العظيمة.

+ وبادر الآبـاء الأساقفة والأراخنة بالكتابة لقداسة البابا بطرس بالدير، وأرسلوا ما كتبوه مع المكاتبات الواردة من ”المعلِّم صالح عطا الله“ بالثغـر الإسـكندري، إلى ”الكاهـن المؤتمـن الإيغومانس (القمص) يوسف“ رئيس دير القديس أنطونيوس بالعزبة ناحية بوش، ليقوم بتوصيلها بدوره إلى قداسة البابا. فعند وصولها إليه أسْرع في إرسـالها بصُحْبة مندوب إلى الديـر، فقام بتسليمها للأب البطريرك.

فلما قرأهـا البابـا بطرس، انشرح صـدره وامتلأت جوارحه فرحاً وسروراً لهذه البُشرَى العظيمة، وقال: ”هـذه بادرة الرضا مـن السيِّد الرب على كنيسته“. ثم كتب ردّاً مُفرحـاً إلى الآبـاء الأساقفة المُقيمين بالقلايـة بالبطريركية بمصر. كمـا أرسل رسالة بالدعـاء والبركـة إلى المعلِّم صالح المُقيم بالإسكندرية، ثم قـدَّم الشكر للعـزَّة الإلهيـة، وأرشد وكيلـه في القلايـة البطريـركية إلى المكان المحفوظ فيه الفرمان لسهولة العثور عليه عند الحاجة(5).

+ ولمَّا وصلت المكاتبات والفرمان المطلوب إلى المعلِّم صالح، وأُرسِلَت إليه المبالغ اللازمة، قام المعلِّم صالح بالبدء في عمارة كنيسة القديس مرقس الرسـول. كما أرسـل طلباً إلى القاهرة بـإيفاد مهندس مـع جماعـة مـن البنَّائـين والنجَّارين، وبـإرسال المبالـغ اللازمة لإتمام المشروع. فأرسل الأب البطريرك المبالغ اللازمة لإتمام المشروع، وأرسل إليه مطلوبه. وهكذا أعانته القدرة العلويـة حتى قـام بتكميل عمارة الكنيسـة المرقسـية على أحسـن نظام، حتى صارت أحسن مِمَّا كـانت عليه(6).

+ ولابد أن يذكر التاريخ المساهمة المُباركة التي قام بها - بالإضافة إلى مساهمات الأراخنة المُشار إليهم سابقاً - ”المعلِّم جرجس حسب الله البياضي“ ببندر رشيد، و”المعلِّم عبد الملك أبو يوسف حباطة“، لأنهما كانـا واسطـة خير في هـذه الشـركة الروحانية(7).

عودة البابا بطرس الجاولي من دير

القديس أنطونيوس:

وقضى البابا بطرس عيد الميلاد المجيد في دير القديس أنطونيوس بالجبل، ثم نزل منه يوم الاثنـين 26 طوبـة سـنة 1534ش الموافق 2 فبرايـر سنة 1818م قـاصداً القاهرة. ولما وصل إلى مصر القديمـة، استراح في ديـر مار جرجس للراهبات، وكان وصوله إلى الدير يوم الأربعاء 5 أمشير.

+ ولمَّا بلغت أخبار عودة البابا إلى القاهرة، توجَّـه الآبـاء الأساقفـة والكهنـة والمعلِّمين الأراخنـة لاستقباله، وتَلَقَّوْه بـالإكرام اللائـق، وتباركوا منه، وحضروا في صُحبته إلى القلاية البطريركية، وأقام بها في سلام(8).

تكريس الكنيسة المرقسية بالإسكندرية:

+ وقد بلغت غيرة الشعب وحماسته مبلغاً كبيراً، مَكَّنه من أن يتمَّ بناء الكنيسة خلال سنة مـن الزمان. فبَعَثَ الشعب بمندوبيه إلى البابـا يُنبؤنه بذلك. فَقَصَدَ البابا إلى الإسكندرية ليُكرِّس الكنيسة التي تمَّ عمارتها.

وقـد صَحَبه الأنبـا سرابـامون، والقمص جرجس رئيس ديـر القديس أنبا مقار، والقمص حنين والقس موسى خادما كنيسة السيدة العذراء بحارة الروم، والقس عـازر خادم كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة، والقس أبا سخيرون كاهن الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية بالقاهرة، والأرخن المعلِّم منقريوس أبو يوسف البتانوني الـذي تولَّى الصرف على الرحلة مـن جيبه الخاص، والمعلِّم يوسف الغمراوي، والمعلِّم باخوم ابن شقيق الأنبا سرابامون.

+ ووصل البابا وصَحْبه إلى دمنهور صباح الأربعاء 3 بابة سنة 1535ش، فأدَّوْا شعائر القـدَّاس الإلهي بكنيسـة الملاك ميخائيـل. ثم استمروا في سفرهم، فوصلوا إلى الإسكندرية صباح الجمعة 5 بابة. ولكنهم لم يُقيموا صلوات التكريس إلاَّ ليلة الأحد، فقضوا الليل كله في هذه الشعائـر ذات الروعة الخاصة، ثم أكملوهـا بالقدَّاس الإلهي فجر الأحد. ثم قَضَوْا ثلاثة أيام في مدينة الكاروز العظيم، عـادوا بعدهـا إلى القاهـرة، فوصلوها يوم الاثنين 15 بابة(9).

عناية البابا بطرس بالقدس،

وإرسال الهدايا البطريركية:

ولمَّا حلَّت أيام الصوم الأربعيني المقدَّس في سنة 1534ش الموافق لسنة 1818م، قام قداسة البابا بتجهيز الهدايا السنوية البطريركية المُعتاد إرسالها للقدس في عيد القيامـة المجيد. ثم بعد إتمام جميع الحاجيات المعتاد تقديمها في هذه المناسبة المقدَّسة، تمَّ إرسالها مع القمص يوسف كاتب القلايـة البطريركية، الذي سـافر بها مع الزوَّار في يوم الأربعاء من الأسبوع الثاني من الصوم المقدَّس الموافـق 3 برمهات. وبعد إتمام الزيارة المقدَّسة، عـاد القمص يوسف إلى القطر المصري عن طريق يافا وقبرص. ولما وصل إلى دمياط يوم الأحد 29 بؤونة، أقام فيها إلى أن احتُفِلَ بعيد الرسل في يـوم السبت 5 أبيب، ثم توجَّه إلى القاهرة في يوم الأربعاء 16 أبيب، حيث عاد إلى القلاية البطريركية(10).

+ ولمَّا مَثُلَ القمص يـوسف أمام البابا، قام بإحاطـة قداسته علماً بأحوال كنيسـة القيامـة والأديرة والحُبساء والكهنة بمدينة القدس. كما أطلعه، على الأخص، بأخبار العمارة اللازمـة لأديرتها. وبعد ذلك بـادر البابـا إلى الاجتماع بأبنائـه المُباركين الأراخنـة المعلِّمين، وعرض عليهم أَمْر عمارة أملاك الكنيسة بالقدس بحضور القمص يوسف، الذي قام بتعريف الأراخنة بعدم إمكان أي عمل من هذا القبيل إلاَّ بإذن من الباشا والي الشام. فأجابه المعلِّم ”يوحنا أبو ميخائيل الطويل“ بأنه بمعونة الله سيُفاوض ”أفندينا“ (محمد علي باشا) لأَخْـذ فرمـان منه إلى والي الشام ”إبراهيم باشا“ (ابن محمد علي) بخصوص ذلك، وانصرف الجميع وهم متَّفقون على ذلك(11).

+ ولمَّا عاد إبراهيم باشا والي الشام في أكتوبـر 1819م، أرسـل إلى والده ”محمد علي باشا“ الهدايـا الثمينة التي أحضرها معه ”محمد أغـا الخازنـدار“. فتقبَّلهـا محمد علي بكـل سرور، وجهَّز لابنه ”إبراهيم باشا“ هدايا أعظم وأرسلها مـع ”الخازندار“. وتصادَف أن كـان ”المعلِّم يوحنا الطويـل“ حاضراً هـذه المناسبة، فتقدَّم إلى محمد علي بـاشا، وتكلَّم معه بشأن عمارة أديـرة الأقباط في القدس، وأنه لا يمكن الشروع فيها بـدون إذن مـن والي الشام. وفي الحـال تكلَّم ”محمد علي باشا“ في ذلك الشأن مع ”الخازندار“، وأَمَرَه في الحال بكتابة فرمان من ”محمد علي باشا“ إلى والي الشام، للإذن بعمـل العمـارة المطلوبـة، وبـالتوصية بالعناية بأقباط القدس.

+ وبعد ذلك، أرسل المُبارَك يوحنا الطويل في طلب ”المعلِّم حبيب حنا الدَّقَدوسي“ الكـاتب بديوان الأموال الأميرية، لأنـه كـان مُلمّاً باللغة التركية، واتَّفق معه على السَّفَر بصحبة الخازندار إلى القدس. وبعد ذلك قدَّمـه إلى محمد علي باشا بحضور الخازندار. فـأوصاه الباشا بـه خيراً، وسافر المعلِّم حبيب بصُحبة الخازندار إلى والي الشام ”إبراهيم باشا“.

+ وقـام المعلِّم يوحنا الطويل بمقابلة قداسة البابـا، وأطلعه على ما تمَّ. ثم أرسل في الحال وأحضر المهندس ”أنطونيوس عصفور“، وأَمَـره بـالاستعداد للسفر إلى القدس للإشـراف على عمارة الأديـرة بهذه المدينة المقدَّسة.

+ وسافر ”المعلِّم حبيب حنا الدَّقَدوسي“ وفي صُحبته ثلاثـة مـن البنَّائـين ضمن حاشـية الخازندار، إلى أن وصل دمشق ببلاد الشام، وقابل الوالي إبراهيم باشا، ثم توجَّهوا إلى قاضي المدينـة، وقرأوا الفرمان العَلَوي بحضور نقيب الأشراف وأعيان البلد، وسجَّلوه في المحكمـة. ثم أذنوا للمعلِّم حبيب بـالقيام بـإجراء العمارة اللازمة للأديرة المقدَّسة.

إتمام عمارة دير السلطان، وباقي الأديرة:

وتمَّ العمل في عمارة دير السلطان والحاكورة التي فيه (أي ما في حوزته من ممتلكات)، وكـامل الأماكن الداخلية، وهي: قاعة الملكة هيلانة، ودار سالم الناظـر والأماكـن التي فوقها بجوار قُبَّة القيامـة، ودار القمص سمعان القاطن فيها آنذاك، وديـر الشهيد مـار جرجس، ونظَّفوا بـئر الملكة هيلانة الكائن أمام دير السلطان ورقَّموا جدرانه.

وكملت عمارة كل الأديرة على أحسـن نظام في 24 برمهات عـام 1537ش الموافـق أول أبريل سنة 1821م(12).

(يتبع)

(1) كتاب: 101 طقس، ص 42 ”أ“؛ عن كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، تأليف: كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، 1954، ص 112-125.
(2) ”الأديرة المصرية العامرة“، للقمص صموئيل تاوضروس السرياني؛ عن: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 267.
(3) عن: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، المرجع السابق، ص 267.
(4) كتاب: 101 طقس، ص 43 ”أ“؛ عن كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، تأليف: كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 126.
(5) كتاب: 101 طقس، ص 43-44 ”أ“؛ عن كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، تأليف: كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 117،116.
(6) المرجع السابق، ص 44 ”أ“، 45.
(7) المرجع السابق، ص 45.
(8) المرجع السابق، ص 45.
(9) عـن: إيـريس حبيب المصري، المرجـع السابق، ص 265.
(10) كتاب: 101 طقس، ص 45 ”أ“؛ عن: كامل صالح نخلة، المرجع السابق، ص 128.
(11) كتاب: 101 طقس، ص 46؛ عن: كامل صالح نخلة، المرجع السابق، ص 129.
(12) نفس المرجع السابق، ص 120.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis