تأملات في
شخص المسيح الحي
- 39 -



المسيح



عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (7)

أولاً: المسيح كمعلِّم ونبي (6)

طريقته وأسلوبه في: الحياة، التعليم، والمعجزات

ثالثاً: طريقته في إجراء المعجزات (1)

لقـد تأيَّـدت كـرازة المسـيح ”بـالقوَّات والمعجـزات“ (مت 13: 58،54)، أو ”بالآيات والعجـائب“ (يـو 4: 48). والمقصود بهذه التعبيرات الإنجيلية ”القوَّات، المعجزات، الآيات، العجائب“، تلك الأعمال ”الخارقة للطبيعة في نظر الناس“ التي عملها المسيح مع الناس، تأكيداً لعلاقته الجوهرية بالآب. لكنها لم تكن نوعاً من الاستعراض للقوَّة، بل كانت بدافع محبته وتحنُّنه على البشر بسبب ما رآهم فيه من آلام وأمراض: «وكان يسوع يطوف المدن كلها والقُرَى يُعلِّم في مجامعها، ويكرز ببشارة الملكوت، ويَشفي كل مرض وكـل ضعف في الشعب. ولمـا رأى (يسـوع) الجمـوع تحـنَّن عليهم، إذ كـانوا مُنزعجـين ومُنطرحين كغنمٍ لا راعي لها» (مت 9: 36،35).

+ ولكن هـذه الآيـات والمعجزات كانت هي البداية، وسَبْق لآية ومعجزة قيامته من بين الأموات، والتي صارت فيما بعد مِلْكاً لكلِّ البشر، باعتبارها غاية وهدف تجسُّد ابن الله ومجيئه إلى العالم، تلك الأعمال الفائقة التي اعتُبِرَت علامة الدهـر الجديد والملكوت الآتي اللذيـن بشَّر بهما المسيح.

+ لقد كـانت هـذه ”الآيـات، والقـوات، والمعجـزات“، بمثابـة البشارة بمقاومة القوَّات الشيطانية التي أَمْسَكَت بتلابيب الحياة الإنسانية منذ يوم أخطأ أبوانا آدم وحواء وتسلَّط عليهما الموت ومعهما كل ذُرِّيتهما من البشر.

+ لقد كـانت معجزات المسيح علامـة على خدمة النبوَّة التي قـام بها المسيح. لقـد نطق نيقوديموس أحـد رؤسـاء اليهود أمـام المسيح واعترف: «يا مُعلِّم، نَعْلَم أنك قد أتيتَ من الله مُعلِّماً، لأن ليس أحدٌ يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إنْ لم يكن الله معه» (يو 3: 2). وقـد كتب القديس يوحنا البشير: «وأمَّا هـذه (الآيات التي صنعها المسيح) فقد كُتِبَتْ لتؤمنوا أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتُم حياةٌ باسمه» (يو 20: 31).

+ ولكـن المسيح أوضح أنَّ هـذه المعجزات وحدها لا يمكنها أن تأتي بالإنسان للإيمان بالمسيح، بل هي فقط تؤيِّد الإيمان.

وقد أوضح المسيح أيضاً أن الذيـن أتـوا إلى الإيمان به بسبب المعجزات فقط، لم يثبتوا أمام التجارب والمِحَن والغوايات.

+ وتنقسم معجزات المسيح، التي ذُكِرَت في الأناجيل الأربعة، إلى ثلاثة أنواع:

معجزات الشفاء

- شفاء العُمْي: (مت 9: 27-31؛ مر 8: 22-26؛ يو 9: 17).

- شفاء العُرْج: (لو 13: 11-13).

- شفاء البُرْص (جمع: ”أَبْرَص“): (مر 1: 40-42، لو 17: 11-19).

- مرض الفالج: (لو 5: 18-25).

- نازفة الدم: (مر 5: 25-29).

- الأَصمُّ الأَعْقَد: (مر 7: 31-37).

معجزات السيطرة على الطبيعة

- إطعام الخمسة الآلاف من خبزات قليلة (مر 6: 35-44)، والأربعة الآلاف (مر 8: 1-9).

- تهدئة الرياح والعاصفة (مر 4: 37-41).

- المشْي على البحر (مر 6: 48-51).

- صَيْـد السـمك الكـثير (يو 2: 1-11؛ 21: 1-11).

معجزات إقامة الموتى

- ابنة يايرس (مر 5: 22-24).

- ابـــن أرمـلـة نـايـيـن (لـــو 7: 11-15).

- لعازر (يو 11: 1-44).

(+(+(

الأعمال الفائقة للطبيعة، لم يعملها المسيح لمجرَّد عملها: قد يبدو للبعض أنَّ المسيح صنع هـذه المعجزات كنوعٍ مـن الاستعراض أو بلا هدف. لكن هـذه الآيـات كانت تُشير إلى معانٍ كثيرة: إمَّا الاستجابة لحاجة مُلحَّة لإنسانٍ مسكين، أو لاستيفاء غرضٍ خاص يُشير إلى أحد مظاهر ملكوت الله الآتي.

لكن المسيح لم يكن يعمل هـذه المعجزات ليجذب الناس إلى نفسه كصانع معجزات؛ بل إنَّ كل معجزة كانت استجابة خاصة لاحتياجٍ شخصي أو اجتماعي، أو كقرينة لاحتياجٍ ما للبشرية.

+ لم يكن المسيح ليصنع هذه المعجزات لكي يظن أحـد أنها تدلُّ على نوع رسالته وخدمته، لكنه جعل المعجزات خادمة لإعلانه ودعوته إلى ملكوت الله المزمع أن يجيء. لذلك فإنَّ أي نوع من ”الإيمان“ يتأسَّس على المعجزات وحدها، فهو إيمان ناقص وغير كافٍ. فهو لم يكن يُشجِّع أحداً أن يُفسِّر رسالته على أنها أساساً إحدى هذه العجائب والمعجزات، لكنه كان يريد من وراء هذه الآيات أن يُظهِر صورة ملكوت الله الآتي، كما قال لخادم الملك (الذي سبق له أن سمع أنَّ يسوع قد حوَّل الماء خمراً في قانا الجليل - يو 2: 1-11)، وأنه في هذا الوقت موجود في بلدته: «هذا (أي خادم الملك) إذ سمع أن يسوع قد جاء من اليهودية إلى الجليل، انطلق إليه وسأله أن ينزل ويَشفي ابنه لأنه كان مُشرفاً على الموت. فقال له يسوع: ”لا تؤمنون إنْ لم تَرَوْا آياتٍ وعجائبَ“» (يو 4: 48،47).

وكان قَصْد المسيح، أن لا يظن الناس بأنه قد أتى لكي يصنع هذه الآيات والعجائب؛ ولكنه أراد أن يُعلِّمهم أنَّ هذه الآيات إنما هي علامة على أنه هو ابن الله، فيؤمنوا به وبخلاصه الأبدي.

لذلك كـان المسيح كثيراً ما يوصي الذيـن عمـل لهم المعجزات، ألاَّ يتحدَّثـوا بها أمـام الآخريـن، لئلا يظنُّوا خطأً أنَّ المسيح قـد أتى بهدف عمل المعجـزات (مـر 1: 44؛ 3: 11؛ مت 12: 15-21؛ 14: 13-16).

الكرازة المُبكِّرة في خدمة الإيمان بالمسيح:

يذكـر القديس بطرس الرسول أنَّ المستمعين إلى عظاتـه في مدينة قيصريـة - بعد صعود المسيح - كانوا على عِلْم بـ «الأمر الذي صار في كل اليهودية... (أنَّ) يسوع الذي من الناصرة كيف مَسَحَه الله بالروح القدس والقوَّة، الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المُتسلِّط عليهم إبليس، لأن الله كان معه» (أع 10: 38،37)، «يسوع الناصري رجلٌ قد تبرهن لكم من قِبَل الله بقوَّاتٍ وعجائبَ وآياتٍ صنعها الله بيده في وسطكم، كما أنتم أيضاً تعلمون» (أع 2: 22).

+ وقد لخَّص القديس متى البشير خدمة الرب يسوع في هذه الكلمات: «وكان يسوع يطوفُ في كـل الجليل يُعلِّم في مجامعهم، ويكـرزُ ببشارة الملكوت، ويشفي كـل مرضٍ وكـل ضعفٍ في الشعب. فذاع خبره في جميع سوريَّة. فأحضروا إليه جميع السُّقَمَاء المُصابين بأمراضٍ وأوجاعٍ مختلفة، والمجانـين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم» (مت 4: 24،23).

+ كـل هؤلاء اعتبرهم المسيح أنهم كانوا ضحايـا مـا سمَّاه المسيح في مـوضع آخـر: ”الرجل القوي“ أي ”الشيطان“، الذي قيَّده ”الرجل الأقوى منه“ أي المسيح (مر 3: 27).

إنها المعجزات التي عزَّزت قوَّة وسلطان مجيء ابن الله واستعلان ملكوته الأبدي. إنَّ أعمال الشفاء التي أتى بها المسيح تكاملت مـع إعلان مجيئه وحياته، والتي بدون هذه الأعمال المعجزية لكان من الصعب اكتشاف خدمته الخلاصية.

الآيات، والعجائب،

واستعلان سلطان المسيح ولاهوته:

المعجزات كانت بمثابة ”علامات“ أو ”آيات“ لمجيء ابن الله ومعه خدمـة خلاص البشرية، وبمثابـة ”عجائب“ باعتبارها ”استعلان سلطان الله“، التي من خلالها يُقدَّم ويُفسَّر مجيء ابن الله وتعليمه، والكشف عن هويَّته.

فكـل هـذه المعجـزات تُشير إلى المسيح المُخلِّص على أنه الله، كما قال المولود أعمى بعد شفائه: «منذ الدَّهر لم يُسمَع أنَّ أحداً فَتَحَ عينَيْ مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً» (يو 9: 33،32).

+ لقد فعل المسيح هذه العجائب بقوَّته الإلهية الشخصية، وليس بالصلاة إلى آخَر (الله) لكي يشفي مولوداً أعمى!

هل كان من المناسب

أن يُجري المسيح معجزات؟

قد يبدو أنه لم يكن مناسباً للمسيح أن يُجري هذه المعجزات من حيث إنه قال: «جيلٌ شريرٌ فاسقٌ يلتمس آيةً، ولا تُعطَى له آيةٌ إلاَّ آيةَ يونان النبي، ثم تركهـم ومضى» (مـت 16: 4)، ثم شرح ذلك بقوله: «لا تؤمنون إنْ لم تَرَوْا آياتٍ وعجائبَ» (يو 4: 48).

+ ولكن كـان مـن المناسب جداً أن يُجري المسيح معجـزات، لكي، أولاً: يُعلِن محبـة الله الفيَّاضة للبشر وتحنُّنه عليهم: «ولمَّا رأى الجموع تحنَّن عليهم، إذ كـانوا مُنزعجين ومُنطرحين كغنمٍ لا راعي لها» (مت 9: 36)؛ وثانياً: لكي يُعلِن للشعب طبيعته أنه ابـن الله المتجسِّد: «إنْ كنتُ أعمل، فإنْ لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أنَّ الآب فيَّ وأنا فيه» (يو 10: 38).

لذلك، فالتجسُّد وقيامـة المسيح من الموت، كانا الأَسْمَى بين عظائم أعمال المسيح: إن مجرَّد مجيء ابـن الله بشخصه متجسِّداً، فهذا معجزة المعجـزات، وعلى الأخص ميلاده المعجزي مـن عذراء، وقيامته من الموت في اليوم الثالث! إنهما البداية والختام لخدمته على الأرض. وهذان الفعلان هما البندان في قانون الإيمان المسيحي للكنيسة المسيحية في جميع أنحاء العالم. فمِن بين كل معجزات المسيح، يقف التجسُّد والقيامة شامخَيْن في العبادة المسيحية على مدى الدهر.

+ لـذلك، فالتجسُّد والقيامـة هما قمَّة كـل المعجزات التي أجراها المسيح. إنهما ليسا مجرَّد حَدَثَيْن للذكرى في أذهان المؤمنين؛ بل كحادثَيْن واقعيَّيْن في جسـد القديسة العذراء مريم، وجسد الـرب يسـوع المسيح مـا لا يمكن التغافُـل عنهما(1)، وستنتقل قيامة المسيح للبشر بإيمانهم ومعموديتهم.

+ ويقول القديس غريغوريوس النيصي:

[وحينما نتأمَّل في الحدثَيْن (التجسُّد والقيامة) لحياتنا البشرية، فإننا نُلاحظ طبيعة بدايتنا ونهايتهـا؛ إذ يبدأ الإنسان حياتـه في ضعفه البدني؛ ونفس الأمـر، إذ تنتهي حياتـه في ضعفه البدني. لكن في حالة الله، ففي ميلاده لم يكن في ضعف، وكذلك في موته لم ينتهِ في ضعف، لذلك لم يتبع موتَه الفسادُ](2).

إنَّ ما هـو طبيعي لدى الله هـو غير طبيعي لدى الطبيعة البشرية في حدِّ ذاتها. فليس هناك ما هو غير طبيعي لدى الله كما في القيامة من بين الأموات، وكـذلك في مجيئـه إلى الأرض وموتـه بالجسد. كذلك ليس هناك مـا هـو غير طبيعي لدى الله أن يولَد بطريقةٍ غير طبيعية (في نظر الناس)، حينما أَخَذَ الله جسداً.

+ فما هو عند الناس مُعتَبَرٌ أنه فائق للطبيعة، هو طبيعي لدى الله؛ بل هما (أي التجسُّد والقيامة) متناغمان مع طبيعة الله. وفي كلتا الحالتَيْن، فإنَّ القُوَى الإلهية لم تتوقَّف أو تبطل، سواء في أَخْذ الله جسداً، أو في موت هذا الجسد. فالطفل ينمو، ثم يموت؛ ولكن مجيء ابن الله في الجسد يختم على كل أحداث الميلاد والموت بالبصمة الإلهية المميَّزة.

+ كيف يـأتي الله إلى عالمنا ثم ينصرف؟ لقد أتى الله، ثم رَحَلَ بطريقةٍ مُحْكَمَة؛ وكلاهما، في نظر البشر، يفوقان الطبيعة، والله لم يتأفَّف من تجسُّده، ولا ما في هذا الجسد من طاقات بشرية محدودة مثل: الجوع والعطش والألم.

ويشرح ذلك آباء الكنيسة الأوائل: إنَّ ما هو طبيعي في نظر الله هو أن يتجسَّد، بالرغم من أنَّ القدرات الإلهية اللانهائية ما زالت فيه.

+ فـإذا كـان المُفكِّرون الحديثون ينظرون إلى المعجزات الإلهية، وأولها التجسُّد وآخرهـا القيامة، أنها أعمالٌ ”تفوق الطبيعة“، أو ”خارقة للطبيعة“، أو ”خارجة عـن الطبيعة“، ولا يمكن شرحهـا وتـوضيحها بتعـبيرات النظام العادي للطبيعة، بـل بشرحهـا أنها تفـوق الإمكانيات البشرية الطبيعية؛ إلاَّ أنها عند الله ليست كذلك، فهي بالنسبة له ليست ”غير طبيعية“.

وفي عالمٍ يُـدرك كـل شيء بالعقل، فكـل الأحداث تتمُّ كنتيجـة لأسبابٍ مُحدَّدة، أو نتيجـة عامـل وسيط، أو لوسائط سببيَّة على مستويـات مُتعدِّدة: إمَّا لعوامـل طبيعية (علم الفيزيـاء)، أو لعوامـل كيميائية (علم الكيمياء)، أو بوسائط حيَّة (بيولوجية)، أو لعوامل بشرية معنوية (علم التاريخ)؛ وإمَّا بواسطة الله (علم اللاهوت). فكل ما يحدث إنما يتمُّ كفعلٍ أو كقوَّة لها سبب مادي أو معنوي. فـلا شيء يحدث إلاَّ مـن خـلال النظام الطبيعي أو الأنظمة الروحية أو الأخلاقية التي تفوق الطبيعة.

أمَّا المعجزة بالنسبة لله، فهي تتمُّ بطريقةٍ غير ما يُحدِثه البشر في التاريخ؛ إنها عملٌ طبيعي بالنسبة لله.

وبهذا، فـإنَّ المعجزات التي أجراها الرب يسوع ليست ضد الطبيعة بالنسبة له، ولا خارقة للطبيعة؛ لأن المسيح كان يُجريها بقوَّةٍ وسلطانٍ إلهي فيه.

+ الرب يسوع لم يُعلِن أنه إنسانٌ ”ساحر“، أو خبير في علم الروحانيات، بحيث يُعالـج الأمراض، ويُواجـه القُوَى الطبيعية بطريقـة سحرية، لكنه هو «الله (الذي) ظهر في الجسد» (1تي 3: 16)، الذي «فيه خُلِقَ الكلُّ» (كو 1: 16).

+ فـالقوَّة الفائقة للطبيعة التي ظهرت في أعمال المسيح (حسب نظرتنـا نحن البشر) هي من صميم لاهوتـه، تلك التي كـان يستدعيها بإرادته خلال خدمته على الأرض.

+ فـالمعجزات كـانت عنده أعمالاً طبيعية تماماً مثلما اكتملت الخلقة من الآب بواسطة الابن (يو 1: 1-3، 10).

(يتبع)

(1) Augustine, Commentary Faith of Things Not Seen; NPNF, 1st Ser., Vol. III, pp. 337-43; On Holy Virginity; NPNF, 1st Ser., Vol. III, pp. 417-19:1.
(2) Gregory of Nyssa, ARI, LCC III, p. 289.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis