الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله
«أنا قد جئتُ نوراً إلى العالم»(1)
- 13 -

إنجيل يوم الخميس من الأسبوع الثالث من الصوم المقدس

المزمـور: «7أَمَّـا الرَّبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ يَجْلِسُ. ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ، 8وَهُـوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِالْعَدْلِ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاسْتِقَامَةِ» (مز 9: 8،7).

الإنجيل: «44فَنَادَى يَسُوعُ وَقَالَ: ”الَّذِي يُؤْمِنُ بِي، لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. 45وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. 46أَنَا قَـدْ جِئْتُ نُورًا إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ. 47وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كَلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ. 48مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، 49لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. 50وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ“» (يو 12: 44-50).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

إنجيل هـذا الصباح، في الحقيقة، له وضع حـرج للغاية. هذا الكلام الذي قاله الرب يسوع، قاله بعد أن أكمل خدمته كلها في إسرائيل.

في نفس هذا الأصحاح الثاني عشر من إنجيل القديس يوحنا، وفي الآية رقم 40، نجد الرب يقول لليهود: «قد أَعمى عيونهم، وأَغلظ قلوبهم، لئلا يُبصروا بعيونهم، ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأَشفيهم».

وإذا رجعنا إلى الآية رقم 36 من نفس الأصحاح، نجد الرب يسوع يقول: «ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور. تكلَّم يسوع بهذا ثم مضى واختفى عنهم».

هذه كانت آخر علاقة للرب بإسرائيل. ولكن القديس يوحنا أراد أن يُلخِّص تعليم الرب كله في هذه الأعداد (44-50) من الأصحاح الثاني عشر من إنجيله.

لقد تركَّزت كل المعاني في هذه الأعداد من الأصحاح الثاني عشر. ولكن أخطر الآيات التي قالها الرب، والتي تُعتَبَر هي ”القلب النابض“ لإنجيل القديس يوحنا، أو التي تُعبِّر عن حياة المسيح، هي الآية 46: «أنا قد جئتُ نوراً إلى العالم».

تذكَّروا الآية رقم 36: «تكلَّم يسوع بهذا ثم مضى واختفى عنهم». لقد انحسر النور وغاب عن إسرائيل ليُشرق في العالم. فكما لم يسمعوا قول الرب يسوع، لم يسمعوا - قبلاً - قول إشعياء النبي: «مَن صدَّق خبرنا، ولِمَن استُعلِنَتْ ذراعُ الرب» (إش 53: 1؛ يو 12: 38). لقد رفضوا كـل الأقوال، ولم يؤمن منهم أحدٌ. ولكن بقدر ما انحسر النور عن إسرائيل واختفى، بقدر ما أنار وابتدأ يُنير على العالم كله.

إذن، فهذه الآية تخصُّنا: «أنا قد جئتُ نوراً إلى العالم، حتى كلُّ مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة» (يو 12: 46).

ما هو النور؟ وما هي الظلمة؟

والآن، أطرح عدَّة تساؤلات: ما هو النور؟ وما هي الظلمة؟ ومَن أنت؟ وما هو العالم؟

أمورٌ خطيرة، أردتُ أن أشرحها لا من الناحية اللاهوتية، بل من الناحية العملية، في مفهومنا، وفي واقعنا الذي نعيشه.

إن أعجب شيء سمعناه في حياة المسيح، وفي كل ما عمله، أنَّ إسرائيل لم يؤمن. ففي فترة 2000 سنة من موسى لداود، ومن داود إلى المسيح، كل الآباء والأنبياء تكلَّموا عن مجيء الرب يسوع، وعن ظروف مجيئه، وعن يوم مجيئه، وعمَّا سيقوله، وأيضاً عن رَفْض الشعب له!! هذا أمرٌ عجيب أنَّ الشعب يرفض الرب يسوع الذي تنبَّأ عنه الآباء والأنبياء. لكن الكلام صار لنا، والنور أشرق علينا. فهل يا تُرَى سنتعامل مع هذا النور مثلما تعامَل شعب إسرائيل؟ أم سنأخذه مأخذ الجدِّ؟

من المهم أن نعرف ما هو النور؟ وأن نستمع إلى كلام الرب: «كلُّ مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة». فهل نحن، يا تُرَى، في النور أم في الظلمة؟!

فكَوْن أنَّ المسيح يقول: ”أنا هو نور العالم“، فمعنى هذا أن العالم هو ظلمة، هذه أول حقيقة! هذا تصريح ضمني أنَّ العالم ظلمة، فالمسيح يتكلَّم هنا عن الطبائع؛ ليس عن المظاهر أو الأسماء، بل عن طبيعته هو وطبيعة هذا العالم.

المسيح دائماً يتكلَّم عن الجوهر. فهو لا يأخذ بالمظهر، ولا بالمفهوم الظاهري، ولكن يأخذ بالعُمق. فالمسيح يتكلَّم عن الطبائع، وطبيعة الله نور: «الله نورٌ وليس فيه ظلمة البتَّة» (1يو 1: 5).

الله نورٌ وساكن في النور الذي لا يُدنَى منه، ولكن الله سمح أن يوجد في العالم نورٌ مخلوق: الشمس، مثلاً، لكي نُدرك بها مفهوم النور وليس حقيقته، نفهم المعنى الحسِّي، وما هو عمل النور من خلال المعنى الحسِّي! فنور الشمس المصنوعة، النور المخلوق، يكشف لنا المصنوعات. كذلك سمح الله أن تغيب الشمس ويأتي الليل، لكي نُدرك الظلام، فتنعدم رؤيتنا للأشياء، ونصير كالعُمْي، ويكون كل شيء أمامنا ظلاماً. غياب النور يكشف الظلمة، ويُفهِمنا ما هي الظلمة!

ولكن الله خلق لنا العين البشرية لنُدرك بها النور المصنوع، أو في النور المصنوع نُدرك - من خلال العين - أمور هذا العالم. لكن نور هذا العالم، والعين البشرية، سوف ينطفئان. فتصير أنت ظلمة وأنا ظلمة، يصير الإنسان كله ظلمة، وتصير كل الموجودات ظلمة. هذه حقيقة الأشياء، طبيعتها ظلمة، والذي كشف هذه الطبيعة المُظلمة هو النور المصنوع.

ولكن النور المصنوع نفسه يتغيَّر، إن كانت الشمس، أو أي مصدر آخر للنور. كله - في المفهوم الطبيعي العادي - قابلٌ للزوال، يتغيَّر من طاقةٍ إلى طاقة، ولكن - في النهاية - مآله إلى الزوال. ومعنى الزوال أنه لا يُرَى ولا يُسمَع ولا يُفهَم. والعين البشرية نفسها، التي هي أداة الرؤيا، هي نفسها تَكِلُّ وتضعف ويَخْفُتُ نورهـا، وتبقى في ظلامٍ دامس، لا يشفع فيها نور صناعي أو غير صناعي (لا شمس ولا كهرباء). إذن، فالعين البشرية هي أيضاً ظلمة وتتبع الظلمة. هذه هي طبيعة العالم كله بكل ما فيه!

نور الله، والعين الروحية:

ولكن الله ليس كالعالم، ولا كذلك نوره، ولا أموره، ولا العين الروحية التي وهبها الله لنا وذلك لكي نُدرك بها نـور الله. فـإذا كانت العين الروحية تُـدرك الله، فيستحيل أن تَكِلَّ! ويستحيل أن تزول! فبالعين الروحية نُدرك الله، ونور الله، بل والأمور الموهوبة لنا من الله. هذه كلها ثوابت لا تتغيَّر؛ بل بالعكس، مظاهر العالم هي التي تتغيَّر، وكل ما يتغيَّر قابلٌ للزوال. ولكن أمور الله، ومن ضمنها العين الروحية (أو العين الإلهية) التي وهبها الله للإنسان، لا تزول، لأنها من الله ولله؛ بينما نور العالم الحسِّي يكشف لنا الظواهر، والظواهر كلها تتغيَّر وتزول.

فمثلاً الشجرة والزهرة وعُشب الأرض، كل هذه تتغيَّر وتذبُل وتموت، هذه هي الظواهر. أما نور الله فلا يكشف الظواهر، ولكنه يكشف الجوهر.

ما هو الجوهر؟

نريد أن نعرف ما هو الجوهر؟

كما قلنا، نور الله يكشف لنا الجوهر، وليس المظهر؛ ولكن ما الذي وراء المظهر! المظهر دائماً وراؤه الجوهر. فالجوهر لا يُرَى بالعين البشرية، ولكن يُستَعلَن بالعين الروحية، ويظهر في نور الله أنه جوهر، ولكن من وراء المظهر. والجوهر لا يتغيَّر ولا يزول، ويُسمَّى ”الحق“، لأن كل ما لا يتغيَّر هو حقٌّ، وكل ما لا يزول هو حقٌّ.

فالشجرة والزهرة والثمرة، هذه مظاهر، هي مادة، والمادة تتغيَّر وتزول. ولكن وراءها جوهر وهو: ”الحياة“. الحياة جوهر، لا يزول ولا يَفْنَى، ثابتٌ؛ بينما الشجرة والزهرة والثمرة تزول، ولكن وراءها حياة. هذا هو الجوهر الذي لا يتغيَّر، بل هو ثابتٌ بثبوت الزمن.

ما هي الحياة؟

ولكن، ما هي الحياة؟ هي جوهر! ومِن أين تأتي؟ من الله! معروفٌ أن الحياة مصدرها الله. وكما قلنا، المظهر يزول، ولكن جوهر الحياة لا يزول، هو جوهر ثابت.

فالحياة، فعلاً، ثابتة. كل الظواهر تزول، وتبقى الحياة. هذا هو الفرق بين المظهر الزائل، والجوهر الدائم. وهذا الجوهر لا يُعرَف إلاَّ بالعين الروحية.

وكلما ركَّزتَ في الحياة التي هي الجوهر، وتعمَّقتَ في الجوهر، بالعين الروحية؛ كلما اقتربتَ بالتالي من الله. لأن الجوهر من الله، الحياة من الله، والعين الروحية الموهوبة لك هي من الله، هي التي تُقرِّبك من الله، لأنها تَرى الله في النور الإلهي.

الآن أنت ابتدأتَ أن تدخل في النور الإلهي، حتى ولو لم تُدرك ذلك؛ ولذلك أحسستَ بالحياة الثابتة الدائمة، التي من وراء الأشياء، من وراء الشجرة، ومن وراء الإنسان. فإذا تأمَّلتَ جيداً في الحياة التي وراء هذه المخلوقات كلها، بالعين الروحية، حينئذٍ تتعجَّب وتندهش، أنَّ هذه الحياة هي التي تربط الأجيال كلها. فأنا لستُ ابنَ اليوم، ولكن سيرتي موجودة في الكتاب المقدَّس، وعند الله. هذه هي الحياة التي تربطنا بالله، فهي جوهر، يربط الزمان ويُثبِّته في الأرض؛ ويربط الأجيال والأفكار، بل والعالم كله. هذا هو الجوهر.

الحياة صفة من صفات الله، ثابتة ومُثبَّتة في العالم؛ موجودة وفعَّالة في جميع المخلوقات، وهي لمسة من لمسات الله. هذا هو الإحساس بالجوهر الإلهي غير المنظور. كل المخلوقات مظاهر تتغيَّر وقابلة للزوال، ولكن الحياة جوهر ثابت لا يَفْنَى ولا يزول. المظاهر وكل العالم يظهر أنه مُعتمٌ. وعندما يُرفَع النور المصنوع، يسود الظلام، ولا يُرَى أي شيء.

النور الصناعي المخلوق هو في ذاته مُظلم، كل الظواهر عبارة عن ظلمة في ذاتها؛ أما الحياة في ذاتها فهي جوهر. إذن، إن كانت الحياة هي جوهر، وليست مظهراً، فلا يمكن أن تكون الحياةُ ظلمةً، بل تكون نوراً، لأنها حقٌّ، وهي خلقة الله التي خلقها بكلمته، وهي ثابتة في الله ثبوت الحياة فيه.

مرة أخرى نقول إنَّ الحياة جوهر، والجوهر ثابت، وليس ظلمة، وكل ما ليس ظلمة فهو نور. وصفة النور هي صفة الله، والنور الإلهي غير متغيِّر، والحق غير متغيِّر، لأنه جوهر، والجوهر غير متغيِّر.

مَنْ هو الإنسان؟

الإنسان هو مظهر وجوهر؛ جسم وحياة؛ مظهر مُظلم وجوهر مُنير؛ مظهر زائل وجوهر ثابت وحياةُ حقٍّ ونور. كل هذا متَّحدٌ معاً، ولكن - للأسف - اتحاد زمني، اتحاد وقتي، اتحاد محدود، لماذا؟ لأن الجسد أصله خليقة بالفعل، ولكن واقع عليه حُكْم الموت بسبب الخطية، حُكْم الموت يعني تحجيم الحياة. ومادام هناك حُكْم الموت، فمعناه أن يعيش الإنسان على الأرض وفي الزمن؛ وطالما حُكْم الموت واقع على الإنسان، فتكون له نهاية سريعة.

إذن، الإنسان هـو مظهر زائل، وله زمن محدود؛ ولكن هـو أيضاً جوهر باقٍ حي. وبمجرد أن تنفكَّ الصِّلة بين المظهر والجوهر، يموت الإنسان. فالزائل يزول، ولكن الباقي يبقى، يذهب إلى الله خالقه.

مَن هو المسيح؟

المسيح يقول: «أنا قد جئتُ». مِن أين جاء؟ من عند الله. وطالما هو من عند الله، فهو يحمل في ذاته طبيعة الله، أي جوهر الله الكامل؛ ولكنه أتى في جسدٍ غير واقع عليه حُكْم الموت، لأنه بلا خطيئة؛ بل ومتَّحد بالجوهر الإلهي. وبالتالي فيستحيل أن يكون هذا الجسد محدوداً، ولا هو قابل نهائياً للانفصال عن الطبيعة الإلهية المتَّحدة به.

فالجسد الذي اتَّحد به كلمة الله، هو جسدٌ بلا خطيئة، وغير واقع تحت حُكْم الموت؛ إذن، فهو ليس محدوداً بالزمن، ولا يمكن أن ينفصل عن الاتحاد الإلهي الذي تمَّ فيه. إذن، اللاهوت غير قابل للزوال، والجسد المتَّحد باللاهوت غير فانٍ وغير قابل للزوال.

ومن هنا سمعنا ونسمع المسيح أمس واليوم وإلى الأبد. فالمسيح في القلب وفي الفكر، لا يتغيَّر، ولا يزول، باقٍ حي كما هو. هو يقول: «أنا ???»، فهو من ذات الله، من جوهر الله وطبيعته لأنه ”ابن الله الوحيد“، وهو قائمٌ في حضن الآب. الآب والابن ذاتٌ واحدة، لذلك فاتحاد ابن الله بالناسوت، جعل هذا الناسوت غير زائل وغير متغيِّر، أصبح اتحاد اللاهوت بالناسوت اتحاداً غير منفصل بأيِّ حالٍ من الأحوال؛ كما يقول الكاهن في الاعتراف الأخير في القدَّاس الإلهي: ”ولا طَرْفة عين“.

لذلك، فالمسيح ابن الله المتجسِّد، هـو غير متغيِّر، على جميع المستويات اللاهوتية والجسدية والنفسية والروحية. فاللاهوت والروح والنفس والجسد في المسيح، ثابتون ثبوت الأزل. لهذا فالمسيح يُعتَبَر نوراً حقيقيّاً بلا نزاع، لاهوتاً وناسوتاً في شخصه الإلهي.

المسيح هو «النور الحقيقي»:

فالمسيح هو «النور الحقيقي» (يو 1: 9)، وهو كما قال: «أنا قد جئتُ نوراً إلى العالم» (يو 12: 46)، لهذا فهو حقٌّ مُطلق. فالنور الذي جاء به المسيح، هو الله طبعاً، هو الطبيعة الإلهية غير المُعتمة.

«الله نورٌ وليس فيه ظلمة البتَّة» (1يو 1: 5)، لماذا؟ لأنه أزليٌّ لا يتغيَّر، أمَّا المتغيِّر فهو المخلوق؛ أمَّا الله فهو الخالق، وليس فيه إطلاقاً ما يمكن أن يتغيَّر، وليس عنده تغيير ولا ظل دوران.

طبيعة ابن الله الإلهية اتَّحدت بالطبيعة البشرية في شخص المسيح؛ إذن، فهو النور الحقيقي. وهذا النور يكشف الظواهر أمامي حتى تُستَعلَن لي. النور الإلهي يكشف الحق الذي وراء الظواهر، وهو الذي يكشف للعين الروحية الحقيقة والجوهر المختفيَيْن وراء المظهر. المسيح، كنورٍ إلهي، يكشف الحق الذي وراء الظواهر، والظواهر هي كل ما في العالم، لأن العالم قائمٌ على الظواهر؛ ولكن وراء هذه الظواهر جوهر. وحينما يُكشَف الجوهر الذي وراء المظهر، تنكشف الخديعة التي في المظهر. فالثمرة أظهرها الشيطان للمرأة: ”جيِّدة للأَكل، وبهجة للعيون، وشهية للنظر“ (تك 3: 6)، وكانت تندسُّ فيها الخطية القاتلة؛ ولكن آدم وامرأته لم يكتشفاها، لأن إصبع الشيطان وضع الخديعة في المظهر، والمظهر هو موضع الخديعة، هو ملجأ الخدعة الشيطانية.

المسيح كَشَفَ الخديعة التي في المظهر، وأظهر لنا الجوهر:

ما عمله المسيح، هو أنه كشف الخدعة التي في المظهر، وأظهر لنا الجوهر. المظهر عادي، ولكن خديعة الشيطان مُندسَّة في هذا المظهر الخادع. والخطيئة خديعة تَعبُر على العين البشرية.

انتبه! المظهر دائماً يُخبِّئ الخديعة في طيَّاته، ويُظهِرها أنها جميلة؛ أما المسيح فهو يُظهِر لنا المظهر المُخادع، ويكشف لنا الجوهر، حقيقة الجوهر الذي وراء المظهر، يكشف الخديعة. فالنور الذي في المسيح هو نور الله الذي يكشف الخديعة التي في الظواهر.

الفواصل التي يضعها المسيح:

هنا المسيح يضع الفواصل التي ما بين النور والظلمة، الحق والباطل، الصِّدق والكذب. المسيح وضع لنا الوصايا، وهي المقاييس التي نقيس بها المظهر، والتي تكشف الجوهر الذي هو الحياة. وَضَعَ المسيحُ الفواصل بين محبة العالم، ومحبة الله. والذي فيه محبة العالم ليست فيه محبة الله، لأن محبة العالم عداوة لله.

عليك أنت أيضاً أن تضع حدوداً نارية بين التعبُّد لله والتعبُّد للمال، لأنك لا تقدر أن تخدم سيِّدين، كقول المسيح. عليك أن تضع حدّاً فاصلاً بين الحق والباطل، النور والظلمة، الالتصاق بـروح القداسة والالتصاق بالنجاسـة، التحلِّي بروح الاتضاع والتعظُّم بروح الكبرياء؛ فالاتضاع يرفع إلى السماء، بينما الكبرياء يُحدِر من السماء إلى الأرض. وحينئذ لا يكون هناك عذرٌ للإنسان.

المسيح هو الحامل للجوهر الإلهي الكامل والذات الإلهية، كابن الله. وعندما تجسَّد، عاش كإنسان على الأرض، وفي العالم، وتعامَل مع كل مظاهر العالم على كافة المستويات. فأعطى نموذجاً رائعاً كاملاً واضحاً، لكيف يتعامل النور مع الظلمة، ويغلب لحساب الإنسان، وأعطى هذه الغلبة للإنسان، كما أعطاه المقاييس (أي الوصايا) التي يقيس بها كل شيء. فلم يكن المسيح نموذجاً محدوداً في ذاته، كما قلنا سابقاً، ولكنه نموذجٌ فعَّال له قدرة أن يُمسِك بأيدي السائرين وراءه ليسيروا في نوره، فمِن صميم طبيعته أنه نورٌ يلد نوراً. النور في المسيح فعَّالٌ مُتجدِّد، إن مشيتَ وراءه تستنير بنوره؛ أما الإيمان، فكما قال المسيح: «أنا قد جئتُ نوراً إلى العالم، حتى كلُّ مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة» (يو 12: 46).

فياليتنا نُمسِك بالمسيح ”النور الحقيقي“، نُمسِك بوصاياه، بالروح والقلب، كما قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَمسِكْ بالحياة الأبدية التي إليها دُعِيتَ أيضاً» (1تي 6: 12). نمسِك بالمسيح، كلمة الله؛ نمسِك بالإنجيل. فإذا أمسكنا بالمسيح، النور الحقيقي، سنتجاوز الظلمة والعالم ومظاهر العالم. ومهما خسرنا مقابل تمسُّكنا بالنور، ومهما فقدنا من مظاهر هذا العالم، فإننا نثبُت في الله والله فينا؛ ولذلك فلنسمع ما يقوله يوحنا الرسول: «لا تُحِبُّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم... والعالم يمضي وشهوته. وأمَّا الذي يصنع مشيئة الله فيثبُت إلى الأبد» (1يو 2: 17،15). وأمَّا الذي يلتصق بالنور، فلن يرى ظلاماً، ولن يسير أو يمكث في الظلمة.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الخميس من الأسبوع الثالث من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (13) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis