الكنيسة القبطية في أوائل القرن الثامن عشر
البابا يؤانس السابع عشر
البطريرك الخامس بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1726 - 1745م)
- 2 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

شهادة مؤرِّخين وسياسيين أجانب:
+ وقد أفاض الحديث عن هذا الاختلال في البلاد وسوء تصرُّف الحُكَّام والولاة، ”المسيو ميلييه“ قنصل فرنسا؛ والمؤرِّخ المشهور ”الجبرتي“؛ والرحَّالة ”بيكوك“ الإنجليزي الذي أتى إلى مصر سائحاً في سنة 1737م وأقام بها بضعة شهور، وطاف في البلاد وقال في كتابه الذي وضعه عن هذه الزيارة: ”إنه قلَّما يمضي يوم لم يُسمَع فيه بموت أحد الأمراء أو أحد الزعماء من المماليك مسموماً. ولذا لم يكونوا يأمنون لبعضهم البعض“.

+ ولا يَخْفَى أن أهل مصر عموماً لم يأمنوا في ذلك العصر على أعراضهم ولا أموالهم، حتى ضرب الفقر أطنابه في جميع أنحاء القطر بسبب سوء تصرُّف الحُكَّام وفوضى الأمن العام.

+ وكان مُحصِّلو الجوالي (الضرائب) في ذلك العصر يُلْزِمون البابا يؤانس في سنة 1733م بدَفع الجوالي عن القسوس وخُدَّام الدين.

كبار رجال الدولة المسلمين وعظماؤهم،

جعلوا الأقباط موضع ثقتهم:

لكن، من جهةٍ أخرى، سلَّم كبار رجال الدولة المسلمين الأقباط إدارة مصالحهم، والإشراف على أشغالهم، ومَسْك حساباتهم؛ فقاموا بها أحسن قيام. وكثيراً ما كان هؤلاء يُكْنَون بأسماء مَن يعملون لحسابهم، فيقولون: المعلِّم غبريال السادات، والمعلِّم يوسف الألفي، والمعلِّم منقريوس المورهلي.

ولما آنسوا منهم الصداقة والأمانة، أودعوهم أسرارهم فحفظوها، واستشاروهم في بعض أمورهم الهامة فوجدوا في آرائهم الخير والصواب.

وقد عرف عُقلاء المسلمين أهمية الأقباط والاحتياج إليهم، فقدَّروهم حقَّ قَدْرهم، وأدخلوهم في حمايتهم، ومنحوهم مزايا المساواة بالإفرنج وغيرهم الذين بدأوا يعيشون في مصر تحت حماية دولهم، كما ذكر ”أبو دقن“ المنوفي(1).

تعسُّف بعض كبار المشايخ ضد الأقباط:

وعاش الأقباط مدة في أمان وسلام مع إخوانهم المسلمين كإخوة يجمعهم الوطن الواحد، صابرين معاً على الشدائد وتقلُّبات الزمان.

ولكن، وبكل أسف، لم يشأ بعض كبار المشايخ من رجال الدين أن يكون الأقباط مساوين لهم في حرية استعمال وممارسة عوائدهم.

وقال في ذلك ”أبو دقن المنوفي“: ”وإذا قَصَدَ أحد الأقباط زيارة الأراضي المقدسة، كان لابد له من دفع غرامتين نظير التصريح له بذلك: إحداهما للدولة قبل قيامه؛ والثانية عند وصوله إلى المدينة المقدسة. وبسبب فداحة هذه الغرامات، امتنع الكثيرون منهم عن "تأدية هذه الفريضة"“.

ولهذا، مع الأسباب الأخرى التي أدَّت إلى مَنْع هذه الزيارة، أو تعذَّر حصولها؛ امتنع أقباط مصر مدة من الزمن عن زيارة الأراضي المقدسة(2).

مشاكل إضافية للأقباط:

بعثة المُرسلين الكاثوليك في مصر:

لما كثر عدد المُرسلين الكاثوليك في القرن الثامن عشر وتوطَّنوا في بعض بلاد الوجه القبلي، انضمَّ إليهم بعض الأفراد من الأقباط.

وكان البابا الروماني كليمندس الثاني عشر آنذاك قد أقام هيئة اسمها ”مجمع الدعاية Congrégation de la Propagande“. وكان المقصود منه في مصر حسبما كتب ”هنري ديهيران“ في كتابه: ”مصر التركية“ ما ترجمته، صفحة 197: ”لقد تعاون رهبان الكابوتشيين والجيزويت للعمل في مصر. وكان هدف الأب سيكار الجيزويتي أساساً هو تبشير الأقباط“(3).

+ وكان قد بدأ نظام ”الامتيازات الأجنبية“ في مصر، حيث لا يدفع الأجنبي ضريبة الحكومة حتى إنْ رَبِحَ آلاف الجنيهات، كما لا يخضع للمحاكم المحلية حتى إن اقترف جريمة قتل. وقد كان الإغراء أنَّ الذي ينضم لطائفة الكاثوليك لا يعود يخضع للجزية. وهكذا انضمَّ كثيرون من الأقباط لهؤلاء المُرسلين الكاثوليك ليهربوا من الجزية. وقد كان نتيجة ذلك، أن دبَّ النفور بين أفراد العائلة الواحدة، وما قام بين العائلات من التشاحُن والانقسام بسبب الزواج والتَّرِكَات (في حالة وفاة رب العائلة).

+ وحسماً لكل هذه البلبلة لم يجد أراخنة الأقباط بُدّاً من الشكوى إلى الأمراء الذين يشتغلون في دواوينهم، فاشتكوا من سوء تصرُّف الكهنة اللاتين. وقد أدَّت هذه الشكوى إلى انعقاد جلسة بالمحكمة الشرعية العُليا، حضرها الأنبا يؤانس السابع عشر وقسوس اللاتين. وبعد الاستماع إلى أقوال الطرفين، تقرر أنَّ لبطريرك الأقباط الحق في استعمال سلطته على أبنائه، والتصرُّف فيهم بما توجبه قوانينه المرعية، كما تقرَّر عدم التعرُّض له ولا التعدِّي على حقوقه.

+ ويمكن الرجوع لنص الحُجَّة الشرعية الصادرة من المحكمة الكبرى بمصر المحمية بتاريخ غـرَّة مُحرَّم سنة 1151هـ/ 15 بـرمودة سنة 1454ش/ 21 أبريل سنة 1738م، في المرجع الآتي: كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات“، كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 23-24.

تعيين مطران قبطي للمملكة الحبشية:

تنيَّح الأنبا خريسطوذولو مطران المملكة الحبشية الذي أوفده الكرسي الإسكندري في سنة 1720م لرعاية هذه المملكة. وكانت نياحة هذا الأب في سنة 1742م. فأرسل صاحب الجلالة ياسو الثاني ملك الحبشة وفداً إلى مصر لمقابلة البابا الإسكندري في طلب تعيين خلف للمطران المتنيِّح.

ولما وصل الوفد إلى ”مصوَّع“، قبض عليهم حاكمها، وسَلَبَ نصف ما يحملونه من النقود، وأراد إكراههم على الإسلام. فتمكَّن أحد أفراد الوفد واسمه ”جرجس“ القبطي من الاختفاء؛ وأطاع عضو آخر اسمه ”ليكانيوس“ أَمْر الحاكم واعتنق الإسلام؛ أما العضو الثالث وهو حبشي اسمه ”تاوضروس“ فتمكَّن بالحيلة أن يُرشي حرَّاسه بالمال، فأطلقوا سبيله سرّاً، وهرب قاصداً البلاد المصرية حتى تمكَّن من الوصول إلى القاهرة.

ثم تقدَّم هذا المندوب الحبشي ”تاوضروس“ إلى قداسة البابا يؤانس السابع عشر، وأَعْلَمه بمهمته الرسمية، فأكرم البابا ضيافته. وفي الحال وقع اختيار البابا على أحد قسوس دير القديس أنبا أنطونيوس المستنيرين ورسمه مطراناً باسم ”الأنبا يوحنا“. ثم بارَح الاثنان القطر المصري بعد الرسامة قاصدين الحبشة فرحين.

حدوث فتنة في مصر:

قامت سنة 1743م (1459-1460ش) فتنة بين عثمان بك شيخ البلد والبكوات وجماعة العسكر؛ فخرج عثمان بك هارباً إلى الوجه القبلي، فنَهَبَ الأهالي بيته وأحرقوه.

وبعد ذلك فرَّ إلى سوريا ومنها إلى الآستانة مقر الخليفة العثماني، وظلَّ هناك حتى مات، فاقتسموا أمواله وتَرِكَته بمصر. وبعد قتال شديد بين البكوات، تولَّى إبراهيم كخيا مشيخة البلد، وسُمِّي رضوان بك أمير الحج(4).

وبَقِيَت مصر وأهلها في تعبٍ شديد وضَنْك وشدائد صعبة. وكان الأقباط يبتهلون إلى الرب لكي يتحنَّن عليهم ويرحمهم(5).

انتقال البابا يؤانس السابع عشر من العالم:

وعاش البابا يؤانس السابع عشر في شيخوخة صالحة، راعياً شعبه الرعاية الحسنة، ساعياً في خير الكنيسة.

ثم اعتراه المرض مدة قصيرة، وتنيَّح بسلام في يوم 13 برمودة سنة 1461ش الموافق 20 أبريل سنة 1745م، بعد أن جلس على الكرسي الإسكندري مدة 18 سنة وثلاثة أشهر و8 أيام، في عهد السلطان محمود الأول، وكان عمره يومذاك 65 سنة.

فاحتفل الإكليروس والشعب بتجنيزه من حارة الروم إلى كنيسة الشهيد مرقوريوس (أبو سيفين) بمصر القديمة، وصلَّى على جثمانه الطاهر ثلاثة من الأساقفة كانوا حاضرين في مصر، ودُفِنَ في مقبرة الآباء البطاركة بكل إكرام.

حدوث تغيير في الجو أثار الناس،

ظنّاً منهم أن القيامة قد أتت:

بعد نياحة البابا يؤانس السابع عشر بأسبوع، حدثت في الساعة العاشرة من النهار صاعقة، وأَظْلَمَت الدنيا، وثار الغبار في الجو، وقامت رياح شديدة في الغرب، وعمَّ الظلام وجه الأرض، واشتدَّت الزوابع ومكثت على هذا الحال مدة ساعتين؛ فوقع الخوف والفزع في قلوب الناس بمصر. ومن العجب أن سَرَتْ بين الناس آنذاك شائعات بأنَّ القيامة ستقوم. فأثَّرتْ هذه الشائعات عليها تأثيراً متبايناً، فلجأ البعض إلى الصوم والصلاة واسترحام الله.

+ تعليق: حدثت مثل هذه الظاهرة في الأربعينيات من القرن العشرين، وشاهدنا في العاصفة لون السماء قد تغيَّر بسبب ألوان الرمال والأتربة؛ فأصبح اللون الأحمر يُغطي السماء، ثم اللون الأصفر، ثم اللون الرمادي، وهكذا. وخرج الناس من الشُّرفات يصرخون، ويقولون إنَّ القيامة قد قامت. وقد استمرت العاصفة ساعتين أو أكثر تقريباً.

التراث الفكري الأدبي للبابا يؤانس:

ومما يجب ذِكْره بالاعتزاز أنَّ الأنبا يؤانس السابع عشر جاهد جهاد الأبطال ليحفظ أبناء الكنيسة داخل حظيرة الأرثوذكسية، وداخل سياج الكنيسة القبطية، وعلى الأخص بسبب هجوم المُرسلين الكاثوليك، كما ذكرنا سابقاً؛ فلم يقتصر على زيارة شعبه بالافتقاد والرسائل، بل ووضع عدداً من الكتب دفاعاً عن العقيدة الأرثوذكسية.

+ ومن الأدلة على عناية هذا البابا بنشر التعاليم الأرثوذكسية أنه توجد مخطوطة ترجع إلى عهده، تتضمن:

1. ( أ ) مزامير الأجبيـة، تتبعها توسُّلات مار أفرآم السرياني؛

(ب) موضوعات مختلفة لتذكير المؤمنين بالوصايا العشر؛

(ج) شَرْح أسرار الكنيسة (ولم تكن مُحدَّدة حتى ذلك الوقت بالسبعة أسرار)، ونصائح إنجيلية، والحضُّ على أعمال الرحمة؛

(د) شرح الصلاة الربانية، والعقيدة المسيحية عموماً(6).

2. مخطوطة إثيوبية بالمتحف البريطاني، عُثِرَ عليها في المجدل. وتتضمن إلى جانب الصلوات بعض المراثي بعنوان: ”سَلْوة وعزا لمَن كان حزين القلب“. وعلى الورقة 239 توجد صلاة إثيوبية. وقد تمَّت كتابة هذه المخطوطة سنة 1442ش/ 1726م(7).

3. كما أنَّ هناك مخطوطة جاء في آخرها أنَّ ناسِخَها انتهى من كتابتها في 11 مسرى سنة 1452ش/ 16 أغسطس 1736م.

وهذه المخطوطة تتضمن ميمراً عن القديس صرابامون أسقف نقيوس، كتبه البابا ألكسندروس الإسكندري، بناءً على طلب الكهنة والشعب، وقرأه في كنيسة تُعرَف باسم: ”تاورا“، حيث تجمَّع جمهور كبير من الناس لسماعه(8).

4. وإننا نجد عناية خاصة بالتوجيهات الروحية المؤدِّية إلى بنيان المؤمنين، كما يتضح من مخطوطة لا تحمل اسم كاتبها، وإنما جاء في آخرها أنها تمَّت في 26 بؤونة سنة 1447ش، وعنوانها هو:

- ”كتاب في الحكمة الروحانية والأقاويل الشريفة والتعاليم الحسنة والإنظام المُعيد والمواعظ النافعة وإقامة الدين الصحيح من قول سادتنا مُعلِّمي البِيعَة (أي الكنيسة) الأرثوذكسية“(9).

5. وهناك مخطوطة تحتوي على 56 درساً عن سفر التكوين(10).

6. وهناك مخطوطة كاتبها ”نصر الله فرج الله فيتان الطوخي“، تشتمل على عدة موضوعات، مكتوبة على شكل سؤال وجواب، يُبيِّن فيها المعلم عمَّا يجب عمله لتتخلَّص النفس من الخطية. وهذا الكتاب مُطابق لِمَا جاء في كتاب: ”المعلم والتلميذ“، الذي وضعه البابا كيرلس الثالث(11).

(يتبع)

**** العمل والصلاة *************************************************************************

[إذا ابتدأ العمل بالصلاة، فلن تجد الخطية لها مدخلاً إلى داخل النفس، لأنه إذا تأسَّس الوعي بالله في القلب، فإنَّ حِيَل الشيطان تصبح عديمة الجدوى، ويهدأ الشغب ويتحوَّل إلى برٍّ.

الصلاة تمنع الزارع من إتيان الخطية، فيتكاثر ثمره ولو كانت أرض فلاحته صغيرة، فلا تعود الخطية تتداخل مع الرغبة فيما بعد. وهكذا الأمر مع كل واحد، مع المسافر، أو مع مَن يتهيَّأ لعملٍ ما، أو مع مَن يستعد للزواج. فمهما كان العمل الذي يتهيَّأ له الإنسان، فإنْ كان يعمله مع الصلاة، فسوف يُثمِر العمل، وهو ينجو من الخطية، إذ لن يكون هناك ما يُضاده ويجذب النفس نحو الشهوة.

ومن جهةٍ أخرى، فمَن يترك الله ولا يعود ينتبه إلاَّ لعمله، فهو لابد سيكون مُضادّاً لله، لأنه قد انفصل عنه. لأن الشخص الذي لا يُتْحِد نفسه بالله بالصلاة فهو منفصل عن الله].

************************************** [القديس غريغوريوس النيصي (335-394م) - ”في الصلاة الربانية“]

(1) ”تاريخ الأمة القبطية“، ليعقوب بك نخلة، ص 261-265؛ عن كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات“، الحلقة الخامسة، تأليف: كامل صالح نخلة، مطبعة دير السريان، ص 22.
(2) ”تاريخ الأمة القبطية“، ليعقوب بك نخلة روفيلة، ص 261-266؛ عن كتاب: ”سلسلة تاريخ البابوات“، المرجع السابق، ص 25.
(3) عن: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 123.
(4) ”التوفيقات الإلهامية“، ص 578، وكتاب 15 تاريخ، ص 305 ”أ“؛ نقلاً عن: ”سلسلة تاريخ البابوات“، المرجع السابق، ص 26.
(5) كتاب 15 تاريخ، ص 305 ”أ“.
(6) مخطوطة 103 (156 أدب)، محفوظة بمكتبة المتحف القبطي؛ عن كتاب: ”قصة الكنيسة القبطية“، للأستاذة إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 128.
(7) سِجِل المخطوطات القبطية بالمتحف البريطاني س 355 مخطوطة 846 (وهي عن النسخة المحفوظة بالمتحف المصري ببرلين، ألمانيا).
(8) مخطوطة 22 - 10 أدب - محفوظة بمكتبة المتحف القبطي.
(9) مخطوطة 430 (رقم 407)، محفوظة بالمكتبة البابوية بالقاهرة.
(10) مخطوطة 108 (193 لاهوت)، محفوظة بمكتبة المتحف القبطي.
(11) مخطوطة 123 (209 لاهوت)، محفوظة بمكتبة المتحف القبطي.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis