مقدِّمات الأسفار
- 2 -
استعراض شامل للكتاب المقدس

الكتاب المقدس هو مكتبة شاملة للكتابات المقدسة. وهو أساساً ينقسم إلى قسمين كبيرين يفصل بينهما قرون من الزمان، ولكن يربطهما هدف وقصد واحد هو مجيء المسيح مخلِّص العالم. وكُتب العهد القديم اكتسبت هذا الاسم من حقيقة كونها تختص بالعهد الذي دخل فيه الله مع شعبه المختار (خر 24: 8،7؛ إر 31: 32،31)، والذي بفضله صار هذا الشعب قابلاً لاستعلان خاص وامتيازات معينة بشرط إخلاصهم وأمانتهم للالتزامات التي وُضعت عليهم. وحيث إن أمانتهم هذه لم تكن كاملة ولا ثابتة، بل كانت شديدة الت‍زعزُع والذبذبة؛ لذلك اقتضى الأمر إبرام عهد جديد أكثر اتساعاً وثبوتاً (إر 31: 31؛ مت 26: 28)، وصارت الكتب التي تختص بهذا العهد الجديد هي المكوِّنة للجزء الثاني من الكتاب المقدس.
وهناك اصطلاح خاص استخدمه يوسيفوس المؤرخ - ما يزال مستعمَلاً حتى الآن - للتعبير عن العلاقة الخاصة التي أنشأها الله بينه وبين شعب إسرائيل، أَلا وهو ”ثيئوقراطية“ العلاقة مع الله، أي حُكْم الله المباشر لهذا الشعب، وتكريسهم الخصوصي لخدمته. ومع أنَّ هذه الكلمة ذاتها لم تَرِدْ في الكتاب المقدس، إلاَّ أننا نجد هذا المعنى مألوفاً في مواضع متعددة (عد 33: 50 – حيث يتكلَّم الرب مع موسى بصفته ملكاً على شعبه؛ 1صم 12: 12؛ قض 8: 23؛ 1صم 8: 7؛ 1صم 10: 19... إلخ). وعلى ضوء هذا المعنى، فالعهد القديم يشرح لنا:

1. تأسيس الحُكْم الثيئوقراطي بالوضع المثالي الكامل.

2. رَفْض شعب إسرائيل حُكْم الله لهم وطلبهم مَلِكاً أرضياً مثل باقي الأُمم حولهم، وقول الرب لصموئيل النبي: «لم يرفضوك أنت بل إيَّاي رفضوا حتى لا أملك عليهم» (1صم 8: 7)؛ مما أدَّى إلى إنشاء نظام جديد من الحُكْم الثيئوقراطي المُعدَّل غير المباشر تحت قيادة شاول ثم داود وسلالته، الذي فشل بدوره في طاعة الله. إلاَّ أن المبادئ أو القواعد التي احتواها واشتمل عليها قد نمت نموّاً مطَّرداً في نفس الوقت، وتعمَّقت بواسطة تعاليم الأنبياء على وجه الخصوص.

أما في العهد الجديد، حيث يُقابلنا هذا التعبير ”ملكوت الله“ و”ملكوت السموات“ بكثرة واضحة فإنه يصف لنا:

1. مجيء المُلْك الإلهي (مت 1: 23؛ لو 2: 11؛ 19: 38... إلخ).

2. تأسيس مملكة روحية جديدة ليست مُخصَّصة لشعبٍ واحد، ولكنها عامة وتضمُّ كل البشر.

الخطوات الأولى للاستعلان عن مجيء المسيَّا في العهد القديم:

يمكننا أن نقتفي أثر الخطوات الأولى لهذا الاستعلان العظيم من نحو نمو الرجاء في مجيء ”المسيَّا“، الذي بدأ بتقدير مجيئه ملكاً على غرار الملك داود في حُكْمه شعباً متَّحداً (هو 1: 11؛ عا 9: 11-15)؛ ثم بولادته في بيت لحم مُجسِّماً السلام الذي اتسم به حُكْم سليمان مع النصرة التي اتصف بها حُكْم داود (مي 5: 2؛ زك 9: 9-11). ثم يصل الاستعلان إلى ذروته بتحديد ولادته من عذراء وتأسيسه مملكة البر التي تضم الأُمم مع اليهود جنباً إلى جنب. ومع أنه يغلب وينتصر إلاَّ أنَّ نصرته ستكون من خلال آلامه واحتماله واتضاعه. ويتضح ذلك بوضوح في سِفْرَي المزامير وإشعياء. ويعضد هذا الاستيعاب والمفهوم لمجيء المسيَّا ما جاء في سِفْرَي إرميا وحزقيال، ولو أنه ليس بنفس درجة الوضوح التي نراها في سِفْرَي المزامير وإشعياء. أما سفر دانيال فيصف هذا المجيء ويُحدِّده تاريخياً.

وأخيراً تحقَّق هذا كله في شخص ”يسوع المسيح“، الذي على الرغم من أنه خيَّب آمال الجموع التي أرادته ملكاً أرضياً (يو 6: 15؛ مت 27: 42)، وحتى تلاميذه أيضاً كانوا يتوقَّعون ردَّ المُلْك لإسرائيل، بسؤالهم للرب بعد قيامته: «يـا رب، هـل في هذا الوقت تَ‍رُدُّ المُلْك لإسرائيل؟» (أع 1: 6)؛ إلاَّ أن الرب بمجيئه وموته وقيامته قد حقَّق الصورة الصادقة والإدراك الصائب الذي قدَّمه العهد القديم عن شخص المسيَّا.

خط آخر لدراسة الأسفار المقدسة:

وهناك أيضاً خط آخر لدراسة الأسفار المقدسة للتعرُّف على الخطوات التي كشف بها الله عن إرادته بخصوص المبادئ الأساسية للتمييز بين الحق والباطل أو بين الصواب والخطأ، وعلاقة ذلك بآمال الجنس البشري ومصيره؛ فقد كشف الكتاب من البداية السبيل إلى القداسة والاقتراب إلى الله، بأنْ أعطى الإنسان الوصايا التي تساعده أن يحيا حياة صالحة، ويحفظ نفسه من الشر والخطية. ولكن هذا كله ظهر بأكثر جلاء وبصورة أكثر اكتمالاً في العهد الجديد عنها في العهد القديم.

ويمكننا أن نتتبَّع مع القديس بولس الرسول الخطوات العريضة لتاريخ الجنس البشري، كما استعرضها بالنسبة لعلاقة البشر مع الله:

1. فالأُمم تحت حُكْم العقل والضمير سقطوا في الوثنية: «لأنهم لما عرفوا الله لم يُمجِّدوه أو يشكروه كإله، بل حَمِقُوا في أفكارهم، وأَظْلَم قلبُهم الغبي... وأَبدلوا مجد الله الذي لا يَفْنَى بشِبْه صورة الإنسان الذي يَفْنَى، والطيور، والدواب، والزحَّافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة، لإهانة أجسادهم بين ذواتهم... وكما لم يستحسنوا أن يُبْقُوا الله في معرفتهم، أَسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض ليفعلوا ما لا يليق» (رو 1: 21-28).

2. ثم اقتبل نسل إبراهيم الوعد من الله، واستلموا الناموس (غل 3: 17-22). ومع أن الناموس أيضاً قد فشل في أن يجعلهم أبراراً، إلاَّ أنه كان مؤدِّبهم إلى المسيح (غل 3: 24)، مثل وَصِيٍّ أُقيم على طفل قاصر.

3. ثم بمجيء المسيح، وَهَبَ للبشرية عطية البر، التي لم يستطع لا اليهود ولا الأُمم على السواء أن يحصلوا عليها: «كما هو مكتوب: ”أنه ليس بارٌّ ولا واحدٌ. ليس مَن يفهم. ليس مَن يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس مَن يعمل صلاحاً ليس ولا واحدٌ“» (رو 3: 10-12). إلاَّ أنه بموت المسيح وقيامته ظهر بر الله: «وأما الآن فقد ظَهَرَ برُّ الله بدون الناموس، مشهوداً له من الناموس والأنبياء، برُّ الله بالإيمان بيسوع المسيح، إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، مُتبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفَّارةً بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه، من أجل الصَّفْح عن الخطايا السالفة بإمهال الله» (رو 3: 21-25).

وقد قَبِلَ الأُمم الإيمان ونالوا البر الذي بالإيمان بالمسيح، أما اليهود فقد رفضوه في مجملهم. إلاَّ أنَّ الله قادرٌ أن يرحمهم: «لأن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان، لكي يرحم الجميع» (رو 11: 32).

فلقد اقتضت الخطية من الله لكي يلغي آثارها وينهي على مفاعيلها في الإنسان والخليقة كلها، أن ”يُخلي نفسه، آخِذاً صورة عبد، صائراً في شِبْه الناس، وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب“ (في 2: 8،7). ولكي يُخلي الله نفسه ويصير إنساناً يحمل عن الإنسان أُجرة الخطية وعقوبتها وهي الموت؛ اقتضى الأمر أجيالاً عديدة من البشر وأحقاباً طويلة من الزمن، كان الله يُعِدُّ فيها أذهان البشرية لاقتبال السر المكتوم منذ الدهور الذي للخلاص العظيم المزمع أن يُكمِّله في ملء الزمان.

فقد كان لازماً أن يعرف الإنسان كم الخطية خاطئة جداً! وإلى أيِّ مدى تعمل بمفاعيلها في طبيعتنا! ومقدار الخسارة الفادحة التي مُنِّيَتْ بها الخليقة كلها من جرَّاء تعدِّي الإنسان لوصية الله!

لقد كانت نتائج سقطة الإنسان عظيمة، وهذا ما نراه واضحاً في تاريخ البشرية وبني إسرائيل في العهد القديم، ولكن الله ما زال أعظم في رحمته. والإنسان كخاطئ سيظل موضوع المحبة الإلهية، رغم كل النتائج التي ترتَّبت على عصيانه، والتغيُّرات الجذرية التي نشأت في جميع مناحي الحياة، والتي استلزمت خططاً من التدبير الإلهي لمعالجتها. وفي هذا يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[لو كان الأمر مجرد خطأ بسيط ارتكبه الإنسان ولم يتبعه الفساد، فقد تكون التوبة كافية؛ أما الآن وقد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدِّي انجرف في تيار الفساد الذي أصبح طبيعةً له، وحُرِمَ من تلك النعمة التي سبق أن أُعطِيَتْ له وهي مماثلته لصورة الله؛ فما هي الخطوة التالية التي كان يستلزمها الأمر؟ أو مَن ذا الذي يستطيع أن يُعيد إليه تلك النعمة ويردَّه إلى حالته الأولى، إلاَّ كلمة الله الذي خَلَقَ كل شيء من العدم في البدء؟](1)

وهكذا يتضح أن الخطية التي دخلت إلى العالم بحسد إبليس، وتسبَّبت في موت الإنسان، لم تكن مجرد تعدٍّ على وصية الله؛ بل هي كَسْر لقواعد وقوانين الحياة التي تأسَّست عليها علاقة الإنسان بالله جابله وخالقه من العدم، وانفصال عن مصدر الحياة وأصل الوجود. لذلك فقد كانت نتيجتها الحتمية الموت!

ولكن، هـل استطاع الإنسان أن يُدرك من ذاته هذه النتائج الرهيبة للخطية؟! كلا بالتأكيد! لأن الخطية أعمت بصيرة الإنسان حتى أنهم «مُبصرين لا يُبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون» (مت 13: 13)، «إذ هُم مُظْلِمُو الفكر، ومُتجنِّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم» (أف 4: 18). فهذه هي حالة الإنسان البعيد عن الله: يظنُّ أنه غني وقد استغنى ولا حاجة له إلى شيء، وهو لا يعلم أنه هو الشقي والبائس والفقير والأعمى والعريان (انظر رؤ 3: 17).

فكيف يعرف الإنسان نفسه لكي يُدرك مدى احتياجه الشديد إلى الله؟ لأنه بدون إدراك الإنسان لعوزه واحتياجه الشديد وعجزه الكامل لن تُدركه مراحم الله ولن يحظى بعطاياه. لذلك رتَّبت محبة الله واهتمامه الفائق بالإنسان أن يُهيِّئ له شتَّى الفرص التي يختبر فيها قوته وإمكانياته في كافة الأحوال لكي يتبيَّن له إخفاقه الدائم تحت كل الظروف، فيُدرك بنفسه مدى احتياجه لله! وهكذا استلزم الأمر آلافاً من السنين من التدبير الإلهي لكي يتبرهن خلالها للإنسان أنَّ كل قواه الأخلاقية وكل أنظمة الحُكْم الاجتماعية، وكل معرفته الذهنية، بل وكل طقوس عباداته وتقدماته وحرصه الشديد على حفظ الوصايا والفرائض والأحكام؛ كل هذه ليست قادرة على خلاصه ولا كافية لدرء الموت الذي حلَّ به، وأنَّ خطة الله لخلاصه بالمسيح هي الرجاء الوحيد والأمل الأخير! وهذا ما يكشفه لنا العهد القديم بأنواع وطُرق كثيرة، حيث يتبيَّن لنا دائماً إخفاق الإنسان في جميع الأحوال، مع وعد الله بالخلاص بواسطة المسيَّا المنتظَر في ملء الزمان.

وهكذا لما استُنْفِدَتْ كل الوسائل التي دبَّرها الله لأجل خلاص الإنسان، «أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنِّي» (غل 4: 5،4). وجاء المسيَّا المُنتظَر ليُخلِّص كل الشعوب: «ويُعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمُلْكه نهاية» (لو 1: 33،32).

(يتبع)

(1) تجسُّد الكلمة 7: 4.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis