مخافة الله (*)

 

 

    للأب متى المسكين

(*) نص كلمة أُلقيت على الرهبان يوم 7 أكتوبر سنة 1976م. وستُطبع كنبذة مستقلة.

كلمة لكل نفس تريد أن تجاهد وتحيا مع الله.
مخافة الله تراث الكنيسة من العهد القديم:

لقد استلمت الكنيسة تراثاً طويلاً وعميقاً من العهد القديم. وأغلى وأجمل ما في هذا التراث أن الله في العهد القديم خالق مهوب، سيِّد وربٌّ: «إن كنتُ أباً فأين كرامتي، وإن كنتُ سيِّداً فأين هيبتي» (ملاخي 1: 6). الله في العهد القديم سيِّد ورب، له كل الهيبة والكرامة. هذا ميراث استلمناه.

الكنيسة والمسيحية في هذه الأيام بدأت تضعف، ليس فقط بسبب ضعف المحبة، ولكن لأن الأساس الذي تُبنَى عليه المحبة ليس موجوداً، أَلا وهو مخافة الله.

الأب عندما يربِّي ابنه، يُربِّيه على المخافة، فيبدأ الطفل يشعر بمخافة نحو أبيه. وعندما يكبر الطفل، يحبه والده ويعتبره أخاً له. ولكن إن لم تكن المحبة متأصِّلة على المخافة، فإنها لن تعيش. بمعنى آخر، لو أن الابن عاش مُدلَّلاً ولم يتعلَّم المخافة، ثم يحاول أن يُكوِّن علاقة على أساس المحبة، فلابد أن تفشل هذه العلاقة، لأن الابن - في هذه الحالة - سوف يستهزئ بأبيه، وأبوه لن ينال هيبته ولا كرامته، وللأسف هذه الصفة هي السائدة في هذا الجيل.

أمثلة السقوط من مخافة الله:

كل محبة بدون مخافة، لا تعيش ولا تقوم، بل تصبح دالَّة على أساس نفسي مريض. هذا الميراث الثمين الذي استلمناه من العهد القديم هو دقيق جداً. وكان الله يُدقِّق فيه جداً، وقد جعل أمامنا الأمثلة في هذا:

+ موسى النبي، الذي أحب الله جداً، وتكلَّم الله عنه كلاماً طيِّباً، ومدحه مدحاً بديعاً: «ويُكلِّم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يُكلِّم الرجل صاحبه» (خر 33: 11)، ويقول الله: «إن كان منكم (أي مريم وهارون) نبيٌّ للرب فبالرؤيا أَسْتَعْلِن له، في الحُلم أُكلِّمه. أما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي. فماً إلى فم وعياناً أتكلَّم معه لا بالألغاز» (عد 12: 6-8)؛ موسى هذا المحبوب من الله والمُكرَّم، فرَّط بشفتيه ولم يُقدِّس الله عند ماء مريبة (انظر عد 20: 13،12)، فرَّط بشفتيه، وما أكثر ما نفرِّط نحن بشفاهنا ونُخطئ بلساننا بالتسرُّع، فنُسيء إلى الله وإلى اسم الله. موسى المحبوب المُفرز المُكرَّم، عندما فرَّط بشفتيه، كانت العقوبة، وكانت النهاية المُحزنة الكسيفة، ولذلك قال له الله: «اصعد إلى جبل عباريم، هذا جبل نَبُو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا، وانظر أرض كنعان التي أنا أُعطيها لبني إسرائيل مُلكاً، ومُت في الجبل الذي تصعد إليه وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور وضُمَّ إلى قومه، لأنكما خُنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين، إذ لم تُقدِّساني في وسط إسرائيل. فإنك تنظر الأرض من قُبالتها، ولكنك لا تدخل إلى هناك إلى الأرض التي أنا أُعطيها لبني إسرائيل» (تث 32: 49-52).

الله في العهد القديم أراد أن يُرسِّخ في ذهن البشرية أن أهم ما يربطه بالإنسان وما يربط الإنسان به هو ”المخافة“؛ وها أنا أُعطي أمثلة ليس لها حصر تُبيِّن ماذا كانت عقوبة الذين فرَّطوا بشفاههم وسلوكهم!

+ شاول الملك الحلو الطويل الذي أحبه الله والشعب، كيف انتهت حياته (1صم 31: 1-7).

+ داود المكرَّم، الذي باسمه وعلى اسمه جاءت النبوَّات كلها أنَّ المسيح سيكون ”ابن داود“ و”من نسل داود“، كيف أخطأ في لحظة دون مخافة الله، وكيف رفع الله عنه رحمته وعنايته لدرجة أن ابنه أهانه وأذلَّه قدام الشعب، وعبدٌ مثل ”شمعي ابن جيرا“ أهانه قدام جنوده وقَبـِلَ داود المذلَّة، وقال: «دعوه يَسُبَّ، لأن الرب قال له: سُبَّ داود... لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويُكافئني الرب خيراً عِوَض مسبَّته بهذا اليوم» (2صم 16: 10-12). لماذا؟ لأنه فرَّط في مخافة الله. فالميراث الذي أخذناه من العهد القديم، ميراث غالٍ وثمين، وأثمن ما فيه: نوع العلاقة التي تربطنا بالله.

وفي العهد الجديد كلَّل المخافة بالمحبة:

ثم جاء العهد الجديد وكلَّل المخافة بالمحبة. جاء المسيح وأعلن لنا عن حب الآب، الحب الباذل الذي رأيناه في الصليب. هذه المحبة التي أعلنها الآب في العهد الجديد في شخص يسوع، لا يمكن أن تُبنَى إلاَّ على المخافة. اختبر نفسك وجرِّب وابدأ أن تحب الله بدون مخافة في القلب، ستجد نفسك تصنع حماقات، إذ بينما تحب الله، تُخطئ في نفس الوقت، لأن المخافة امتنعت، فصار سهلاً عليك أن تُخطئ. فلا يمكن أن تُدعى هذه محبة، لا يمكن أن نقول إننا نحب الله ونفعل الخطية، أية خطية. ويمكنك أن تراقب نفسك وأنت تُخطئ وتُفرِّط بشفتيك طول النهار. لذلك ها أنا أردتُ أن تُسجَّل هذه الكلمة حتى لا تُنسى على مرِّ الأيام.

أساسنا المسيحي الأول الذي نبني عليه عهدنا مع الله، هو مخافة الله. وعلى غير هذا الأساس لا يمكن أن تقوم محبة: في العبادة، وفي علاقتنا الخاصة بالله. وعلامة المخافة تظهر في الإحساس بالخطيئة. فحينما نُخطئ ونحس بالخطية بعنف يهزُّ الأعماق، بحيث يوقفنا عن الحركة والتمادي في الفعل، نصمت، نتراجع، وكأن أمامنا الموت؛ مثلما إذا سار جسم بحركة سريعة جداً ثم يقف فجأة إذا وجد أمامه حفرة عميقة سيقع فيها، أو عقرباً؛ هكذا تماماً بالنسبة للإنسان إن كانت فيه مخافة الله في تحرُّكاته اليومية، فإنه يشعر بالخطية، إحساساً سريعاً وعنيفاً، إحساساً يهزُّ أعماقه، فإنَّ النفس تقف مذهولة صامتة أمام الله في حزنٍ وبكاء ومراجعة شديدة للنفس. هذا معناه أن في القلب حساسية طبيعية ضد الخطية.

ثم تسألني:

كيف تدخل مخافة الله قلب الإنسان؟

وأنا أُجيبك: إنه من العيب أن تسأل هذا السؤال، لأن مخافة الله هي الوضع الطبيعي، مثلما تقول إن الإنسان كائنٌ عاقل ناطق، أو أنه يحس بالحرارة أو الضوء. فالأطباء يُسلِّطون الضوء أمام عيني الطفل المولود حديثاً لكي يعرفوا إن كانت عيناه سليمتين أم لا، وإذا نخسوه بدبوس يصرخ فحينئذ يعرفون أنه يتحرَّك ويحس، هذه علامات الطبيعة الجسدية السليمة. هكذا خوف الله، فهو موجود في الإنسان طبيعياً، موجود في الخليقة كلها، لكنه غير مُدرَك إلاَّ في الإنسان. ولكي يأخذ خوف الله مجاله في الحيوان، جعل الله الحيوان يخاف من الإنسان عِوَض الله، وهذه هي مهابة الله على الإنسان من جانب الحيوان. أما الإنسان العاقل، فإنَّ مخافة الله موجودة فيه طبيعياً، تماماً مثل مخافة الحيوان من الإنسان. فإذا مشيت بجوار قطة (لم تربيها في بيتك) فإنها تجري، ولو اقتربت من عصفور فإنه يطير ويخاف منك. وكذلك الحيوانات الكبيرة تخاف من الإنسان قليلاً، مثل الذئب إذا وقف من بعيد فإنه يخاف من الإنسان، والحصان يخاف من الذئب، لكن الذئب لا يخاف من الحصان. والطفل الصغير إذا نظره الذئب، فإنه يقف في مكانه ويتسمَّر ويخاف جداً ويُعطي ظهره ويجري. لماذا؟ لأن مهابة الله موضوعة على الإنسان. والإنسان يخاف الله، تماماً مثلما يخاف الحيوان من الإنسان، ويكفي أن يكون الإنسان عاقلاً حتى يكون فيه خوف الله.

وضع أساس المخافة:

+ خوف الله يُدرَك من الخطأ الذي يحدث في علاقتنا بالله. بمعنى أن الإحساس بالخطيئة هو علامة خوف الله في القلب، وبقدر الحساسية في القلب، بقدر وجود خوف الله فيه. فمحمودة إذن ومشكورة جداً وفاضلة هي النفس التي تمتلك خوف الله في داخلها، لأن أساس النفس في هذه الحالة يكون هو الأساس المتين الراسخ، ليُبنَى عليه الحب الإلهي بلا خوف من السقوط. أما بدون مخافة، فالسقوط محتمل جداً، لأن المحبة التي لا تقوم على خوف الله تجري وتنمو بسرعة، ولكن سقوطها من عُلُو هو محتمل جداً. أما المحبة القائمة على مخافة الله فهي تنمو في هدوءٍ، بلا تسرُّع، فهي متمهِّلة في نموِّها، لكن بلا خوف من السقوط.

جيلنا يُعاني من برودة المحبة وكثرة الخطية، ولا علاج لنا إلاَّ بالروح، بوضع أساس المخافة، وهذا هو الأساس الأول الذي ينبغي أن نبني عليه نحن أيضاً حياتنا كرهبان. الراهب الذي يشعر بخوف الله في علاقته كل يوم مع الله، هو راهب له إمكانية في النمو بلا حدود، ولا خوف من هذا النمو. وأما الذي لا يخاف الله، ففي نموِّه خطورة. ليت كل راهب يقيس نفسه على هذا الكلام، فإن كان لا ينمو نموّاً واضحاً، فالعلَّة واضحة أن المحبة متوقفة، وهي محبة بدون خوف. وهذا الحال يظهر في علاقتنا بالآخرين، إذا كانت علاقة الإنسان بأخيه الآخر فيها احترام متبادَل وتوقير دون النظر لإمكانيات الآخر، سواء هذا الآخر مستحق أو لا يستحق، سيَّان، لكن عليَّ أن أُقدِّم له المحبة والإكرام، للرئيس وللزميل وللمرؤوس، تكريماً ومحبةً وتوقيراً بلا مقابل؛ فإن المحبة هنا معناها وجود خوف الله في القلب، لأني بسبب حبي لله المبني على مخافته أتعامل مع أخي، لأنه هو صورة الله. هذه ليست فلسفة. إن أخي مخلوق على صورة الله، فأنا أتصوَّر صورة الله لكي أحبه!!

مخافة الله تُرسِّخ فينا توقير صورة الله في الآخرين:

كل إنسان هو صورة الله طبيعياً وتلقائياً، فلهذا ينبغي أن النفس تحمل لكل نفسٍ أخرى توقيراً نابعاً من علاقتها بالله. هذا إذا كانت النفس على علاقة صحيحة بالله، فتتعامل مع الآخر برزانة، برويَّة، بلا غضب وبلا ازدراء. الرئيس مهما كان، سواء كان يُعامل الآخرين بظلم أم بعدل، أو بعدم مغفرة، أو اضطهاد؛ هذا لا يعنيني. أنا يهمني محبتي له وتكريمي له النابع من مخافة الله.

محبة الله تجعلني أحترس جداً وأخاف جداً أن أُسيء إلى أخي، لأن الإساءة إليه مُعتبرة إساءة لله، أيّاً كان هذا الأخ، مسلماً كان أو مسيحياً، كاثوليكياً كان أو بروتستانتياً، أو ملحداً؛ ذلك لأن دينه هو له، وعلاقته بالله تخصُّه هو ولا تخصُّني أنا. أما الذي يخصُّني أنا فهو أن هذا أخي وعليَّ أن أُعامله كصورة الله. فكل نفس خُلقت على صورة الله. فإذا كنتُ أخاف الله حقّاً، فإني أخاف أن أُسيء لمخافة الله، لهذا عليَّ أن أُكرم كل إنسان وأُكرم دينه. فإن كان دين أخي وعقيدته مختلفة عن ديني وعقيدتي، فهذا يختص به شخصياً؛ أما أنا فعليَّ أن أُكرمه، مهما اختلف عني حتى في مبادئه السياسية أو الدينية.

+ فدين أخي يختص به وبكرامته. فهل تحتمل أنت أن يُسيء أحد إلى إلهك ومذهبك وعقيدتك؟ إنه في الحقيقة يُسيء إلى نفسك؛ هكذا مطلوب مني أَلاَّ أُسيء إلى أي نفس. فلو أن المخافة موجودة في القلب، يستحيل أن أتجرَّأ وأُسيء لأي نفس، سواء كان هذا الشخص معوَّقاً، أو مريضاً، أو ضعيفاً، أو مُشوَّهاً، أو كان مهزاراً أو غبياً؛ أو كان يخطئ كثيراً، أو كان في كلامه عثرات. كل هذا لا يهمني، ما يهمني أن أتعامل معه حسناً. فالمنابع الداخلية ومصدر معاملتك لهذا الشخص موجودة في قلبك، والقلب هو الذي سيحكم عليك. فإن وُجـِدَت المخافة، فسوف أحترس حتى لا أُسيء إلى أي إنسان، وبالأخص الأعداء. محبة الأعداء مستحيلة إن لم يرتبط القلب بالمخافة والمحبة معاً. من السهل أن أحب أعدائي، إن كان في قلبي محبة الله ومخافته معاً.

مخافة الله، ووصايا الاحتمال ومحبة الأعداء:

من الصعب جداً أن تحب إنساناً متعدِّياً. إن وُجـِدَت المخافة في قلب إنسان قوي أو ضعيف، يصبح من السهل عليه أن يحتمل تعدِّي المتعدِّي، ومن السهل عليه أن يتجاوز الإهانة والشتيمة والضرب، وذلك بسماحة القلب، وبوجه مبتسم، وحتى باعتذار سلفاً للأخ المتعدِّي، إلى أن تهدأ نفسه ويرجع عن غيِّه. وعندما قال المسيح: «أحبوا أعداءكم»، قالها لأن ميراثنا استلمناه بالكامل منه، ولأنه ما جاء لينقض بل ليُكمِّل، جاء ليضع المحبة على أساس المخافة.

ونحن، كرهبان، لابد في عبادتنا لله وفي حياتنا أن تأخذ المحبة مجالها، كمحبة متَّجهة نحو الله. لابد أن نُعطي للمخافة مكانها. فالمخافة – كما قلتُ – موجودة أصلاً، لكن بتراخينا وتعدِّينا وإهمالنا وشعورنا بذاتنا، نحن لا نسمح لها أن تأخذ قوتها. والنتيجة أن حساسيتنا تقلُّ، فتصير كاليد المشلولة لا تشعر بالبرد أو الحر أو النار. هكذا الخطية إذا سكنت في القلب تُبدِّد المخافة. عدو الخطية الأول هو مخافة الله. المخافة تكشف الخطية مثل الكلب النبَّاح الذي يكشف اللصوص. وعندما تتواجد الخطية لأول مرة في القلب، ويكون في هذا القلب مخافة، فالقلب ينبض بشدة وبعنف؛ لماذا؟ لأن الإنسان ينوي أن يشتم أو يتعدَّى. فإذا وصل نبضه إلى 160 نبضة في الدقيقة، فهذا قلب سليم. ولكن إذا فعل الإنسان الخطية مرة أو مرتين، فيقول لقلبه: اسكت وتشجَّع حتى لا نظهر أننا ضعفاء فيأكلنا الآخرون. فهنا الخطية تُبدِّد مخافة الله، خاصة إذا اعتادها الإنسان، سواء كانت خطية صغيرة أو كبيرة، سيَّان.

الخطايا الصغيرة تُبدِّد مخافة الله:

ولكن الخطايا الصغيرة قادرة أيضاً على تبديد مخافة الله بصورة مُخيفة ومُرعبة، لأن الخطايا الكبيرة قد يحصرها الضمير ولا يستطيع نسيانها. الخطية الكبيرة عندما تُرتكب تُسبِّب انزعاجاً، ويُمهِّد لها اللاشعور مكاناً ثابتاً محفوراً بالماس على لوح من حديد، وهكذا تتسجَّل الخطية في اللاشعور كصورة أو حادث، بالمقدِّمات والمؤخِّرات. وإن كان الإنسان مُنتبهاً، فإنه يستطيع أن ينزعها أو يمحوها من ضميره حتى لو بعد 50 سنة! ولكن عمل الله في الإنسان عملٌ مُبدع.

أول مرة يُخطئ فيها الإنسان خطية كبيرة، ولم يسبق من قبل أن يختبرها القلب أو النفس، فإنَّ القلب يهيج، والنفس تصبح في غاية الحساسية لاستقبال الصدمة. فإذا لم يمنعها، فحينما يُخطئ، تتسجَّل الخطية تسجيلاً لا يُمحَى. الضمير يُحدِّدها ويضعها في صندوق زجاجي، ويعرض هذه الصورة الملعونة على الإنسان كل صباح وكل مساء، ويُتعبه بها ويُرعبه ويُزعجه، والشيطان يستغلها ليُضعف الإرادة.

أما الخطايا الصغرى، فلا تكون بمثل هذه الطريقة المؤثـِّرة، يعملها الإنسان وينساها، ومن كثرة اعتيادها يتبدَّد الخوف. وتجد الإنسان الذي اعتاد الصغائر فإنه يُخطئ أيضاً في الكبائر، ولكن لا تُنقش في ضميره، أي دون أي انزعاج. وهذه هي الطريقة المُثلى التي يستخدمها العدو لإسقاط عمالقة الإيمان ورجال الصلاة والرهبان. كانوا في بداية حياتهم يعتبرون الصغائر كبائر، ولكن عندما يكبرون ويعتادون الصغائر، فإنهم يعملون تلك الكبائر التي كانوا يعتبرونها في بداية حياتهم أنها شنيعة.

الخطايا الصغيرة قادرة على تبديد مخافة الله من القلب، لكن مخافة الله يستحيل أن تغادر القلب نهائياً، يستحيل، وحتى من النفوس التي اعتادت الجرائم. فأيُّ مجرم عاتي متدرِّب، وبعد كل جريمة يرتكبها، فحينما يفحصونه يجدون أن الجريمة قد أثـَّرت على نفسه وأضعفته. وقد يعترف بجريمته بالكامل، إذ يكون قد أصابه الانهيار. الخطية لها قدرة فظيعة لإضعاف النفس والإرادة وتبديد المخافة، ولكن أن تُنهي الخطيةُ المخافةَ بالكامل من القلب، فهذا مستحيل. الله لا يمكن أن يُغادر قلب الإنسان، يستحيل!

مطلوبٌ منَّا أن نستعيد القدرة على مواجهة الخطايا الصغيرة، أي الانزعاج الأول، وذلك بالخشوع والركوع والاعتراف المباشر الفوري أمام الله عن كل هفوة صغيرة وكبيرة حتى يستعيد القلب والضمير حساسيته للخطية، حتى تعود مخافة الله لتأخذ مجالها في القلب.

وثقوا، يا أحبائي، لو أن المخافة أخذت مجالها الحي في قلب الإنسان، فإنها تحيا في القلب، ولكن ليس بدون المحبة، ليس بدون الحب الإلهي. وكل الذين يُجاهدون في الحب الإلهي يجدون صعوبة، وذلك بسبب الخطايا الصغيرة المتكررة التي أضعفت قدرة البناء، بناء المحبة، بناء برج المحبة الشامخ. فإن لم تكن حساسية الخطية في القلب، فباطل كل ما نصنعه، مثل الحديد الذي يحتك بالحديد فيتآكل. هذا الكلام أقوله للصغير والكبير، للمبتدئ والشيخ، وأنا أولكم. حاجتنا شديدة جداً جداً كرهبان منفتحين وعارفين من أين نبدأ وكيف نعيش في مخافة الله. الحب الإلهي هو صناعتنا الأولى والعُظمى، ولكن بدون مخافة الله، تصبح صناعة بلا خامات.

مخافة الله تجعل محبة الله تملأ النفس:

المحبة تتشكَّل على المخافة، والنفس عندما تُبنَى على المخافة، فإن محبة الله تملأ الهيكل. وعندما تكون العلاقة بيننا وبين الله – كخالق – حيَّة وصحيحة؛ فإن المحبة تأخذ مجراها الصحيح مثل الفخاري الذي يضع ملامحه فينا. لذلك فعليك أنت ألاَّ تتعجَّل، لا تضع يدك على يده وتقول: اعمل لي الأُذُن من هنا أو اعمل اليد من هناك؛ اتركه يصنع الإناء الذي يُريده، لأنه سيُبدع فيه. قدِّم نفسك في كل لحظة بإخلاص بَنَوي، بإحساس المخلوق وليس بإحساس الإنسان فلان الفلاني، أي اللقب الذي يسبق فلان وبعده فلان.

تقول لله: ”يا خالقي“! ما أجمل هذا الدعاء!

+ ”يا خالقي، انظر إلى جُبْلتك، أنا في ضعف شديد. أتوسل إليك أَعِد ما فسد مني. أصلح أو بالحري أَعِد بنائي. أنا لا أتذمر على أي شيء تصنعه فيَّ إلاَّ على ما فيَّ من رداءة. أعطني سلطاناً أن أتذمر كل التذمُّر على كل ما فيَّ من رداءة، وعلى كل ما لا ينطبق فيَّ على ما فيك. كل ما فيَّ لا يتناسب معك حطِّمه، حتى لو كانت حياتي كلها واسمي“.

بهذا الشعور البَنَوي، شعور المخلوق للخالق، يتقدَّم الإنسان كل لحظة حتى يتشكَّل بيديِّ الله الخالق، الآب الحلو الذي يُشكِّلنا على صورته في المجد والكرامة. قد ترى صورتك حتى هذه اللحظة أنها في الهوان. والمصوِّر الماهر عندما يرسم صورة لا يضع في البداية الملامح الأخيرة، لماذا؟ لأن اللصوص يُراقبونه من الثقوب والشبابيك. لذلك يترك الملامح الأخيرة إلى اللحظات الأخيرة. يترك العينين والقلب، ويترك... ويترك...، ولكن في آخر لحظة عندما ينتهي الوقت يضع الخطوط الأخيرة، فيُكمل الصورة.

مخافة الله وعمله في تشكيل حياتنا على صورته:

الرب، كخالق، يخلقنا على صورته في البر وقداسة الحق. ولكن لن تكمل هذه الصورة في يومٍ ولا في شبابنا، الطريق طويل، والرسَّام طويل البال، والصورة بهية تحتاج إلى تعبٍ كثير. انظر إلى المسيح وهو على الصليب، وهو الإله، يصرخ ويتأوَّه! ولا كل رسامي الأرض كلها يقدرون أن يرسموه وهو على الصليب. وماذا سيرسمون؟ هل المشاعر الجوَّانية أو البرانية؟ وكيف يرسمونها؟ أما هو فسوف يُعطيك صورة للداخل وللخارج، ويُعطيك مشاعره تماماً التي كان يشعر بها وهو ابن الله الوحيد، وأيضاً وهو وحيد كابن الإنسان وهو يصرخ: ”إلهي إلهي لماذا تركتني“؟ لقد وقف الرب يسوع موقفاً فيه تضادة: حب منتهى الحب، وهجران منتهى الهجران. الذي ذاق هذا يعرف كيف يصرخ صرخة المسيح! مجد منتهى المجد، وذلة منتهى الذلة. فالذي له السماء والأرض أيضاً، الذي ظُلِم ورُفع حقّه وخسر قضيته؛ هو الذي سيتشفَّع في البشرية كلها كمحامٍ، ويُعطي كل مظلوم حقه، ويقضي للأرملة واليتيم. أما هو فلم يجد مَن يُدافع عنه! هذه المشاعر المتزاحمة البديعة سوف يُصوِّرها فيك، من الداخل ومن الخارج.

كم من الزمن تأخذ هذه الصورة آخر ملامحها؟ كثير، كثير جداً. اتركه، لا تستعجله. اتركه، ولا تَقُل له: الأذُن صغيرة، كبِّرها لي لكي أبدو جميلاً. اتركه يعمل ما يريد، ربما تظهر الآنية إلى زمنٍ كثير أنها للهوان؛ ولكن في اللحظة الأخيرة، يطبع صورته عليها، لكي تصلح أن تكون الآنية عن يمين العظمة في الأعالي. الله يفتخر بآنيته قدَّام ملائكته. لا تتعجل الله أبداً أبداً، لأننا وضعنا أنفسنا تحت يد الحبيب المصلوب، فلا تنتظر أن يضع صورة مجده وآلامه في وقت بسيط. سيصنع صورة تبدو فيها كل مشاعر المسيح، في آلامه ومجده وحُبِّه وهُجران الآب. كل مشاعره، لكن ليست كلها جميلة، فيها ذل وإهانة وضرب على الرأس وتعرية الظهر، والبصق على الوجه، ظلم منتهى الظلم، واضطهاد منتهى الاضطهاد؛ ثم نأخذ صورة المجد أيضاً. تحتاج هذه الصورة لأيام طويلة، أيام نعمة طويلة تحت أيدي الفخاري، وهو يصنع آنيته التي سوف تُعلِن مجده وتشهد لعمله ولنجاحه: «من تعب نفسه يرى ويشبع» (إش 53: 11).

+ ومن المستحيل أن نأخذ صورة المسيح الابن، إن لم نكن طيِّعين تحت يد الآب. ونحن نعلم أننا لسنا أحراراً في أنفسنا، وكل حرية أخذناها لأنفسنا نُعيدها له مرة ثانية. أقول للرب: ”أنا سارق، اسمح وخُذ الحرية التي لك. يا رب أنا بدَّدتُ أيامي، والحرية أضعفت عينيَّ وخسَّرتني كل ما جمعتُه. خُذها، هذه حريات وكرامات أخذتُها لنفسي. ها هي، خُذها لا أريدها، لئلا أعمل مثل إنسان أَرْجَع الأموال بعد فوات الأوان. قال (يهوذا): «أخطأتُ إذ سلَّمتُ دماً بريئاً». فقالوا له: «(لا) ماذا علينا. أنت أَبصِرْ» (مت 27: 4)، "انتهى الأمر، ما عاد ينفع"“. فقبل أن ينتهي الميعاد، علينا أن نُسلِّم كل ما سرقناه. صدِّقوني، سرقنا الكثير لأنفسنا، وليست هذه السرقات إلاَّ ملك الله 100 %، وكان ينبغي ألاَّ نأخذها لأنفسنا: حريات كاذبة، أكلتنا وأماتتنا وأضعفتنا. نُسلِّم كل حرية كاذبة سرقناها وكانت من حق الله، مثل العبد الذي يأخذ حرية أولاد سيده، ويوقِّع على شيكات، ويعمل أموراً كثيرة ليست من حقِّه، فيأتي سيده ويسأله: ”مَن الذي وقَّع على هذا؟ ومَن هو الذي قال لك أن تبيع هذا أو تشتري ذاك“؟ فيخجل وينظر إلى الأرض ويستدُّ فمه. أخذنا، خطفنا حريات وكرامات ليست مِلكاً لنا.

كيف نسترجع مخافة الله؟

ولكي نسترجع مخافة الله فينا ونعيش فيها فعلاً، لابد أن نسدِّد الديون قبل أن يُفتِّشوا العهدة، نُرجع المسروق ونقول: ”أنا عملت هذا، وأخذت تلك، واشتهيت هذه لنفسي“! قبل أن يجمعوا الأسباط، ويطلع سبط يهوذا، عشيرة الزارحيين ويطلع عاخان بن كرمي (الذي أخذ من الحرام) (يشوع 7: 16-26). أخاف أن أكون أنا الذي سرقت لنفسي ثوباً شنعارياً أظهر به أني نبيل وقديس وعظيم وطاهر. أخذت لنفسي كروماً وزيتوناً. أخذت مكانة الله من الكرامات والتحيات، وأجري وراءها ووراء المواهب لكي أظهر أفضل من إخوتي، وأطلب موهبة شفاء أمراض، والرهبان يقولون: ”يا سلام، هذا راهب ممتاز“؛ ويأتي إليك الناس من آخر الدنيا. لقد كسبنا أوهاماً، وجمعنا أهواءً وشهوات، سوف ندفع ثمنها في النهاية. لماذا كل هذا؟ هل ممكن أن نراجع أنفسنا؟ الكلام يبدو حلواً، لكنه مرٌّ كالعلقم.

أُكلِّمك في هذا اليوم، وممكن أن يظل هذا الشريط 20 سنة، وتقيس نفسك على هذا الكلام الذي قلتُه، فستجده قد تمَّ؛ والخطايا التي تقشعر منها اليوم، سوف يأتي وقت، إن لم تكن فيك مخافة الله، فسوف تعملها. الخطايا التي تقول عنها: ”يستحيل أنا أن أقع فيها“، ستجدها يوماً من الأيام أمامك، لأن الطريق الصاعد له دائماً متربِّصون، يتربَّصون بالصاعدين ويبحثون ما هي أشنع الخطايا التي تخاف منها ويجروا وراءك لتقع فيها.

كلام اليوم فيه مرارة، وهأنذا أقول: إن لم نسبق الزمن، إن لم نغلب أنفسنا، ونفتش عهدتنا، ونُسلِّم ما خطفناه، ما يتنافى مع خلاصنا وحياتنا الأبدية، ثم جدَّدنا عهودنا وتواعدنا مع الله ودقَّقنا جداً؛ فلن يعود إحساسنا بالخطية ولا يسترد قوته في القلب من جديد. لذلك أقول: إن كل قلب بشري مهما بلغ عنف الخطية فيه لا يمكن أن يتبدَّد خوف الله منه نهائياً. فاليوم الذي تُغلِّب فيه صوت الله والإحساس بالخوف الإلهي وتنحصر في الجهاد، تكون كمَن عنده حجرة مُظلمة، ثم تُنيرها بشمعة، وبنعمة الله تستطيع أن تجعل الشمعة 10 شمعات، ثم 30 شمعة، وحينئذ يظهر كل شيء بوضوح، نفسك من الداخل ستظهر. أقول: هذا ليس سهلاً للذين قطعوا مراحل في حياتهم، ليس سهلاً أن يرجع الإنسان إلى التدقيقات الأولى في حياته، ويعيش بتدقيق في حضرة الله يوماً فيوماً ولحظة بلحظة.

عندما نستعيد إحساسنا بمخافة الله، فحالما نحس بالمخافة، فإن مخافة الله ستُحاصِر الخطية، ومهما كان سلطانها ومهما كان صغرها أو كبرها، فإن الضمير يُحاصرها ويُبدِّدها حتى تخرج نهائياً من القلب. هذا لو استعاد القلب مخافة الله بشدة وبعنف.

مخافة الله حيَّة في كل قلب ونفس، خاصة في بداية حياة الإنسان مع الله. رأيتُ زملاء ورهبان مبروكين قدِّيسين عاشت معهم المخافة سنة وراء سنة وأيضاً ما زالت تزداد فيهم. يا سلام عليهم، هؤلاء صار طريق الله مفتوحاً أمامهم بلا حدود. محبة الله تُبنَى فيهم بلا عائق: «كل ما يصنع كان الربُّ يُنجحه بيده... ومهما صنع كان الربُّ يُنجحه» (تك 39: 23،3)، فهم يمتدُّون إلى فوق لأنهم أسَّسوا وتعبوا، فقد كانوا مُدقِّقين جداً وللغاية. فكَشْف الخطية – حتى ولو كانت صغيرة – هو مهمٌّ، والسهر أيضاً مُهمٌّ.

وكما أنه إذا كانت الجدران عليها قذارة، فستظهر؛ هكذا مخافة الله تُظهِر الهفوات التي ليست خطية. وسِيَر القديسين مليئة بهذه المخافة التي ملأت قلوبهم، وبحساسيتهم للخطية. فكيف لا أُصلِّي هكذا؟ وكيف لا أخدم إخوتي بتفانٍ هكذا؟ وكيف لا أعمل هكذا؟ الرؤية تتسع، ومجال الخدمة يزداد قوة وحكمة وعمق ورزانة لحساب المسيح.

مخافة الله والرعب من فعل الخطية:

إن لم نرجع للأصول الأولى، ونضع الإنجيل كله أمامنا على أساس مخافة العهد القديم، ستقوى علينا الخطايا. هناك آية مُرعبة تقول: «نعلم أن كل مَن وُلد من الله لا يُخطئ» (1يو 5: 18)، وكثيرون عثروا في فهمها، ولكن الآن صارت مفهومة. إذا كانت المخافة في القلب، فالخطية مرفوضة. إذا أخطأ الإنسان عن سهو وعدم إدراك، لا يقبل نفسه، يرفض نفسه، يتوقف عن الحركة، لأنه لا يمكن أن يقبل الخطية، ولا يمكن أن يعيش فيها.

+ مخافة الله تُعطي الإنسان حساسية ضد الخطية وتفرزها نهائياً، مهما حاولتْ باحتيال وخداع أن تدخل من هنا أو من هناك. مثل الفكرة، أو صورة الخطية عندما تأتي إلى الإنسان في ذهنه، ويرفضها؛ ثم تأتي ثانية وثالثة، ويرفضها، حتى تتبدَّد، ويقول لنفسه: ”أنا غلطان“! ولكني أقول له: ”لا، أنت مجاهد رائع، ولو لم تكن يد الله معك، ما انتصرتَ“. لقد أُعطِيَ لنا بقوة رأس مال كبير في بداية حياتنا، والله أمين حتى يستزيده لنا كخالق، إنه: ”مخافة الله“. نحن من حقِّنا أن تكون مخافة الله هي ذخيرتنا الروحية، في ضمائرنا وفي كياننا. نحن نطلبها كحقٍّ ثابت لنا من خالقنا. فإذا فقدناها، فإن الخطية يكون لها السلطان، وتملك علينا، فلابد من إيقاظ خوف الله في قلوبنا.

+ هَلُمَّ نرجع ثانياً للأصول، نقف لنجاهد، ونندب السنين التي ضاعت، ونسلِّم كل الحريات الكاذبة. منذ أول يوم دخلتُ فيه قلايتي بعد الرهبنة مباشرةً كتبتُ: ”الراهب ليست له حقوق، ولكن عليه واجبات“، ”عملنا الوحيد أن نحب الله، وأن نُسعِد أنفسنا بهذا الحب“. لقد عشتُ كغريب، عليَّ واجبات، ولكن ليس لي حقوق أُطالب بها. وأيُّ خطأ أعمله، أجري إلى الله في قلايتي وأعترف به، بصوت مسموع وبكاء. فتكوَّنت بيني وبين الله علاقة حسَّاسة جداً جداً. أصبح هو أبي الذي أرجع إليه في كل ضيقتي وتعبي. أشكو له، وهو يسمع لي. كان يُداويني مثل أب روحاني وجسداني معاً، لأني كنتُ على وشك أن أموت، إذ لم يكن لي أحد، وكل الموجودين كانوا صغاراً وضعفاء.

+ فلنرجع، يا آبائي، أنا وأنتم من جديد، ليس لنا أبٌ سوى المسيح، ولا طبيب جسداني أو نفساني إلاَّ يسوع. مع كل هفوة صغيرة، ننسكب أمامه، ونقول له: ”أرجوك امسحها، لا تطبعها. أولادك لا يصنعون هكذا. لماذا تركتني أفعل هذه الحماقة وهذه الجهالة يا رب“. هَلُمَّ نسهر على أنفسنا، لئلا نوجد عُراة. لا نأخذ الحياة باستهتار وتوانٍ. لقد ضاعت مخافة الله، والثعالب الصغيرة أفسدت الكَرْم جداً، ولا يوجد إلاَّ شكل ومنظر وورق، ولو أتى الحصاد لن نجد لا زهرة ولا عنقوداً. والكلام لي ولكم، أيامنا تجري هباءً، والسنين تعبر ولا ثمر. الخطايا الصغيرة بدَّدت مخافة الله. ونحن قاعدون ولا نبني. أيامنا لن تطول، وسيأتي وقت – غصباً عنا – ولا نستطيع الجهاد فيه: مرض بسيط يُنهي على كل أمل في الحياة. من مراحم الله أنه يُنذرنا لئلا نقول: خسارة، كل الذي عملناه قد ضاع. الزمان قليل، والأيام شريرة (يقول المسيح: «يكفي اليوم شرَّه» - مت 6: 34؛ ويقول بولس الرسول: «مفتدين الوقت، لأن الأيام شريرة» - أف 5: 16).

الشيطان حاقدٌ ومشتكي علينا ويُعرقلنا، ليُبدِّد كل رجائنا. ليس باللحية، ولا بالسن، لا بطول الأيام، لا تصدق هذا، لأن في العدو من الخبث الشيطاني والخطط المحبوكة ما يكفي لإسقاط رجال الله الأقوياء ومتقدِّمي الصفوف والمعتبرين؛ لأن هذا هو همُّ الشيطان الأول. فإن كانت الكنيسة قائمة الآن، فهذا بسبب الذين احتفظوا بمخافة الله. وإن كان الروح فعَّالاً، فهو في الذين لهم مخافة شديدة لله. وإن كان في الكنيسة خير الآن، فبسبب الرُّكب المنحنية التي لا تكفُّ عن الانحناء، لا بسبب كِبَر سن ولا أمام أية كرامة أو وظيفة، ولا نتيجة أية مشغولية.

+ أتوسل إليكم ألاَّ تشتهوا المواقف والمواهب والكرامات التي تَحُول بينكم وبين التوبة والدموع والاعتراف بالخطايا والسهر على النفس. كل عمل تعمله في الدير أو خارج الدير ويحرمك من مخافة الله، يجب أن تطأه بقدميك. كل عمل يُسبِّب لك رجوعاً إلى الخلف في روحياتك، يجب أن تطأه بقدميك. وكل أب أو عمل أو كلمة تُنير طريقك وتُظهِر لك ضعفك وخطيتك، ثق فيه أو فيها، فإنك لن تجد له أو لها مثيلاً.

خطورة فهمنا الخاطئ لآيات التعزية:

وأخيراً، كثرة قراءتنا في الآيات التي نظن أنها تُناقض آيات أخرى تُسبِّب ضرراً لحياتنا. فيأتي إليَّ مَن يسألني ويقول: أنا غلطت الغلطة الفلانية! فأقول له: طيب، هذه الخطية تحتاج أن تقف عندها وترجع رجعة كبيرة، وتحتاج توبة وتجديد حياة، وإلاَّ فالحياة الروحية تتوقف نهائياً. فيقول لي: ما رأيك يا أبانا – بشيء من الحذلقة – في الآية التي تقول: «الصدِّيق يسقط سبع مرات ويقوم» (أم 24: 16). فأقول: يا إلهي!! هذا معناه أنك تلغي أشياء كثيرة. تلغي: «مَن حفظ كل الناموس، وإنما عثر في واحدة، فقد صار مُجرماً في الكل» (يع 2: 10)، وتلغي آيات كثيرة، تلغي أن موسى فرَّط بشفتيه فلم يدخل أرض الموعد (عد 20: 13،12)، وتلغي أن داود غلط غلطة دفع فيها دم قلبه وتذلَّل بسببها ولم ترجع له كرامته الأولى أبداً (2صم 12: 1-15). اِرجع إلى أشخاص في الكتاب المقدس وفي خارجه كأمثلة.

كثرة حفظنا للآيات التي تُخفِّف من وطأة الخطأ والخطية ضيَّعت حياة كثيرين من الأقوياء. ابتعِد عن الآيات التي تُعزِّي ولكن أنت تظن أنها تُقلِّل من مخافة الله. أتوسَّل توسُّلاً أخيراً، لأنه توجد آيات غرضها التعزية: «عزُّوا عزُّوا شعبي، يقول إلهكم، طيِّبوا قلب أورشليم، ونادوها بأن جهادها قد كَمُل، أن إثمها قد عُفِيَ عنه، أنها قد قَبـِلَت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها» (إش 40: 2،1)، وأنت تأخذ هذا الكلام على نفسك، ثم تنام وتسكت، لا، لا. لا تُعطي لأجفانك نعاساً ولا راحة لصدغك؛ فالعدو، يا عزيزي، قائم، والذين بكَّروا إلى المسيح في الفجر وجدوه وآمنوا بقيامته. تمسَّك بالآية التي توقفك أمام الله مُداناً، والله يُبرئك. لو اخترتَ المتَّكأ الأخير بهدف أن رئيس المتكأ يأتي ليرفعك، فلن يحدث هذا، يستحيل؛ ربما يخلق لك المتكأ الذي بعد الأخير ويأمرك أن تجلس على الأرض. ولكن عندما نجلس في المتكأ الأخير ونتمسك به، لأن هذا ما نمتلكه بالحقيقة كل أيامنا، فإنه هو يُعطينا ما فوق وليس ما هنا على الأرض.

يا آبائي، لا تتصوروا أن تحقيق وعود الوصايا الكبرى سوف نراه هنا على الأرض، هذه خطيتي وخطيتكم العظمى التي تنخر عظمي وعظامكم، أن نفتكر هذا. نحن هنا نأخذ العربون، نتذوق حلاوة حب المسيح. أما الكرامة والمجد فليسا هنا، ولكن فوق.

تمسَّكوا بالآيات التي توقفكم مُدانين أمام الله الديَّان، والمسيح يتطوَّع للدفاع عنكم. قُل له: ”يا ربي، أنا خطيتي ثقيلة جداً. أنا واثق فعلاً في دمك المسفوك، ولكن أنا أحتاج أن تُدافع عني بقوة. ماذا ستقول عني للآب؟ يا يسوع، دمك انسكب من أجلي، كلامك قد أعطيتني وسمعتُه، والتوبة فهمتُها وقرأتُ عنها وحفظتُها، ولكني أعود وأُخطئ إليك. ماذا ستقول عني للآب؟ فأنا مُشفقٌ عليك يا يسوع، لأني أُسبِّب لك حَرَجاً أمام الله الآب“.

ضَعْ على نفسك الدينونة، والله سيرفعها. ولكن إذا رفعتَ عن نفسك الدينونة، فالله سيضعها. برِّئ نفسك، فيدينك الله. دِنْ نفسك، فيُبرئك الله. اجعل نفسك غير مستحق لصبغة الدم الطاهر، يغسلك الدم عدة مرات. لكن إذا قلتَ له: ”يا ربي أنا مستحق أن تغسلني“، حينئذ تسمع صوته يقول: ”ابعد عني حتى أرى المستحقين الذين أتوا قبلك“!

أنا أحاول أن أنقاد إلى مخافة الله، لأني أخشى أنه من كثرة تمسُّكنا بآيات التعزية، نتعوَّد تعزية أنفسنا وعدم إدانتها، وبالتالي ندين الآخرين ونُبرِّئ أنفسنا. كلُّ مَن يسقط في دينونة الآخر، يحدث في ضميره شلل، وبالتالي لا يحسُّ بخوف الله. لذلك هو يدين الآخرين بدلاً من أن يدين نفسه. لكن إذا دخلت مخافة الله قلبك، فلا يمكن أن تظن أن أخاك مُخطئ، مهما تحاول؛ بل المخافة تجعلك تقول: ”لا، أنا المخطئ“، لأن عينك على نفسك، ولا تستطيع أن تُرخي عينيك عن نفسك لتُبصر أخطاء الآخر. لكن إذا قلَّت المخافة، ففي الحال يدين الإنسان أخاه. وذلك لأني عندما أُبرِّئ نفسي، ففي الحال أدين الآخر.

هل من الممكن أن نصنع لأنفسنا طريقاً جديداً؟ هل من الممكن أن نبدأ من أول الطريق؟ هل من الممكن أن نرجع مرة أخرى إلى بداية حياتنا مع الله وعلاقتنا الأولى معه، العلاقة التي تقوم على المخافة، حتى نستطيع أن نبني حياتنا بناءً حسناً؟! آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis