دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

ساعة الضعف

 

ملخص:
- أخطر من ضعف الجسد: الضعف النفسي والروحي.

- نقطة الضعف.

- ساعة الضعف.

- الكتاب المقدس وساعة الضعف.

- نحن وساعة الضعف.

- ساعة التجربة ليست النهاية.

- خطورة عثرة القادة والخدَّام.

لا نأتي بجديد عندما نقول بضعف الإنسان الطبيعي وهشاشته بصورة عامة «يُزرع في ضعف» (1كو 15: 43)، فمهما بلغ الإنسان من القوة الجسدية أو العقلية أو السلطة أو التأثير الروحي أو الأدبي، يأتي وقت يمكن أن يفقد فيه الإنسان كل قواه الجسمية والعقلية، ويصبح كما يقولون كنباتٍ ذابل vegetable فاقداً لحواسه وإدراكه(1). فالضعف والمرض والعجز والشيخوخة وكوارث الحياة وآلامها تترصَّد الجميع، وآجلاً أو عاجلاً يأتي الموت بكل طريق.

وقديماً قال أيوب: «الإنسان مولود المرأة، قليل الأيام وشبعان تعباً. يخرج كالزهر ثم ينحسم ويَبْرَح كالظل ولا يقف» (أي 14: 1و2). وكتب القديس يعقوب في رسالته: «لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار، يظهر قليلاً ثم يضمحل» (يع 4: 14).

أخطر من ضعف الجسد: الضعف النفسي والروحي:

نعرف أن الإنسان جسد وروح، وأن النفس هي مجال تلاقيهما، وهذه قد تتأرجح بينهما أو تميل إلى أحدهما. وعادة يمتد مفهوم الجسد الحي من الأعضاء والأجهزة والحواس إلى الميول والغرائز، وهذه أودعها الله في الإنسان لخيره طالما هي منضبطة بقوة الروح التي تميل إلى ما فوق. فإذا تمرَّدت الغرائز والميول وتجاوزت ناموسها، لتتحوَّل غريزة الجنس مثلاً (وهي أصلاً لاستمرار الحياة) إلى طلب اللذة المجرَّدة خارج حدود الوصية، وتصير غريزة التملُّك (وهي للدفاع عن الكيان والممتلكات) طمعاً وجشعاً، وحب الاستطلاع (الذي يُنمِّي المعرفة) فضولاً وتجسُّساً، والحاجة إلى الطعام (وهي لحماية الجسد ونموه) شراهة ونهماً... وهكذا؛ هنا يدخل الإنسان في التجربة. فساعة الضعف تأتي عندما يتغلَّب الميل الجسدي وتتراجع قوة الروح وقيادتها: «ولكن كل واحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته» (يع 1: 14).

ويُلخِّص معلِّمنا بولس العلاقة بين الجسد والروح في الآيات التالية:

+ «وإنما أقول: اسلكوا بالروح فلا تُكمِّلوا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون. ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس» (غل 5: 16-18).

+ «فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح. لأن اهتمام الجسد هو موتٌ، ولكن اهتمام الروح هو حياةٌ وسلامٌ. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله... فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله... لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون» (رو 8: 5-13).

نقطة الضعف:

يختلف نوع الضعف الإنساني تبعاً لنقطة أو نقاط الضعف، وهي الثغرات التي يتسلَّل منها العدو ليضرب ضربته. وهذه قائمة ببعض نقاط الضعف، نذكرها دون ترتيب معين، بقصد اكتشافها والحذر منها ومعالجتها، فهي التي ستقودنا - إذا لم ننتبه - إلى ساعة الضعف: سرعة الانفعال والغضب، الاندفاع في الكلام دون تروٍّ، حب المديح والمجد الباطل، الاستهتار وعدم الالتزام، شهوة الطعام والشراهة، النجاسة والخطايا الجنسية، شهوة العيون، تعظُّم المعيشة، محبة المال، التعالي والإعجاب بالذات (النرجسية)، الحساسية الزائدة للكرامة الشخصية، حب المكان الأول، الطمع، الكسل والإهمال وحب الراحة، الجهل والادِّعاء، المبالغة والكذب، إدانة الآخرين، الفضول وحب الاستطلاع المَرَضي، العادات الرديئة بأنواعها، الجُبْن، عدم الاحتمال وقلة الصبر، التسلُّط والاستبداد، العناد، صغر النفس، الغيرة، ضعف المحبة، التعصُّب، التردُّد، سهولة الانقياد، وغيرها كثير.

ساعة الضعف:

يستخدم إبليس أحياناً عنصر المفاجأة، فيجد الإنسان نفسه في ساعة ضعفه من حيث لا يدري، ولكن نحن بأيدينا نستحضر ساعة ضعفنا إذا سمحنا للظروف أن تقودنا إليها.

فساعة الضعف كالخطية الرابضة عند الباب (تك 4: 7) تقتحم حياتنا عند الارتداد عن الإيمان وسيادة الخوف، أو عندما تمرُّ النفس بفترة من الضعف الروحي والفتور والبُعد عن الله، أو عندما ترتد إلى الجسد وتبدأ في التحلُّل من الالتزام، أو عند توقُّف التوبة، أو عند الانصياع إلى الهوى والغريزة والعاطفة وتراجُع الإرادة؛ ساعتها تتصاغر دناءة الخطية كما تتضاءل قوة المبادئ وقيمة الالتزام وينهار الوازع الخُلقي، ويُسكَت صوتُ الضمير، ويتوقف العقل عن دوره، بل ربما استخدم لتبرير هذا الانهيار حجة أننا بشر تحت الآلام. فتخضع النفس الهشة للمؤثـِّرات المادية، فتبيع كل شيء من أجل الشهوة وإغراء الجسد، أو من أجل المال السهل (كمَن تبيع جسدها وكرامتها)، أو تخضع للخوف (كالمضطهَد الذي يتنازل عن إيمانه)، أو تخضع لمحبة العالم (مثل ديماس والخدَّام الذين يتركون خدمتهم).

وفي حياتنا العملية، فالموظف الكبير والصغير يرتشي لأول مرة في ساعة ضعف، جشعاً أو احتياجاً، ثم قد لا يتراجع أبداً حتى يسقط يوماً في قبضة العدالة، والزوج (أو الزوجة) يخون في ساعة ضعف وفقدان عقل منجذباً منخدعاً من شهوته، وأحياناً بصورة مضادة لأي منطق (يستوي في ذلك أصاغر الناس أو الملوك ورؤساء الدول) فتتحطَّم أُسرة ويتعثَّر كثيرون، وهناك مَن يُقدِم على القتل لأسباب تافهة ودون تدبير مُسبق في ساعة ضعف فيُدمِّر حياته وحياة الآخرين، والمختلس عندما يكتشف سهولة الحصول على المال في ساعة ضعف يمدُّ يده أول مرة بصعوبة ثم يصير الحرام هو قانون الحياة، والذي يخون الأمانة ويسرق غيره يفعلها في ساعة ضعف عندما تغيب الإرادة والعقل والضمير، كما أن المدمن والمقامر ينزلقان إلى عادتهما المتسلِّطة في ساعة ضعف لا يعرف كل منهما بعدها كيف يخرج من هوة الدمار التي سقط فيها.

الكتاب المقدس وساعة الضعف:

يذكر الكتاب المقدس عدداً من مواقف الضعف التي مر بها عدد من رجاله ونسائه. بعضهم نال بعدها قوة فنهض من كبوته وتعلَّم الدرس، وبعضهم الآخر طوَّحت به التجربة، ونحن نعرضها هنا لكي نأخذ منها درساً وعِبْرة: «لأن كل ما سبق فكُتِب كُتِب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء» (رو 15: 4)، «فهذه الأمور جميعاً أصابتهم مثالاً، وكُتِبَت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور» (1كو 10: 11).

- فحواء، دخلت التجربة لأنها صدَّقت الكذب مُنخدعة بشهوة الجسد والعيون: «فرأت المرأة أن الشجرة جيِّدة للأَكْل، وأنها بهجة للعيون، وأنها شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً فأكل» (تك 3: 6). وكانت النتيجة وبالاً، فطُرِدَت وآدم من الجنة، وحلَّت على الإنسان لعنة الخطية وموتها، ولم يأتِ الإنقاذ إلاَّ بمخلِّص العالم.

- وقايين، اشتعلت في قلبه نار الغيرة والحسد والبغضة على هابيل الذي شهد الله ببرِّه وإيمانه «إذ شهد الله لقرابينه» (عب 11: 4)، «فقام قايين على هابيل أخيه وقتله» (تك 4: 8). وهكذا تمَّت أول جريمة قتل على الأرض، نال قايين بسببها اللعنة ومعه الأرض التي قبلت دم هابيل.

- ولإبراهيم «خليل الله» (يع 2: 23) ساعة ضعف ارتدَّ فيها إلى فكره الشخصي دون مشورة الله. فعندما التجأ إلى مصر هرباً من المجاعة، طلب من ساراي امرأته الجميلة أن تقول للمصريين إنها أخته لئلا يتخلَّصوا منه ويقتلوه إذا عرفوا أنها زوجته لتصير لهم. وبالفعل دخلت ساراي بيت فرعون، لكن الله «ضرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة إبراهيم» (تك 12: 17)، حتى أن فرعون نفسه لام إبراهيم ووبَّخه على خديعته. وتعلَّم إبراهيم فيما بعد ألاَّ يعتمد إلاَّ على ذراع الرب الرفيعة، وصار لكل شعب الله نموذجاً في الإيمان وطاعة الله وتصديق وعوده.

- وعيسو، في ساعة جوع عابرة وهو عائد مرهقاً من الحقل، بينما أخوه التوأم الأصغر يعقوب يطبخ عدساً، رَضِيَ أن يتنازل بسهولة عن بكوريته واحتقرها مقابل أن يسدَّ جوعه. وفيما بعد فَقَدَ أيضاً بركة أبيه إسحق بسبب حيلة يعقوب وأُمه رفقة، ولم تشفع له دموعه وصوت بكائه. فباستهتاره واستباحته وتهاونه حقَّق نبوَّة الله عنه «كبير يُستعبَد لصغير» (تك 25: 23).

- وموسى نبي الله العظيم، وقائد مسيرة بني إسرائيل من مصر عَبْرَ سيناء إلى كنعان، رأى أرض الموعد من فوق الجبل، ولكنه مات دون أن يدخلها بسبب تصرُّف في ساعة ضعف. ففي قادش، بعد دفن مريم أخته ولم يكن ماء للجماعة - التي لم تكفَّ عن الشكوى والتهجُّم على موسى - طلب الرب من موسى وهارون أنْ «كلِّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها» (عد 20: 8)؛ ولكن موسى - الذي شهد الكتاب بحلمه (عد 12: 3) - في ضيقه وغضبه من شعبه، رفع يده «وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير. فشربت الجماعة ومواشيها». فقال الرب لموسى وهارون: «من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدِّساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تُدخِلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إيـَّاها» (عد 20: 11و12)، وقد كان.

- وشمشون نذير الله والمولود بوعد إلهي، والذي وهبه الله قوة عظيمة لتأديب الفلسطينيين ضعُف ونَسِيَ نذره ووقع في حب امرأة غريبة. وفي ضعفه باح لها بسرِّ قوته، ولكنها خانت محبته وأذلَّته وحلقت شعر رأسه، ففارقته قوته (قض 16: 19). ولكن الله لم يتخلَّ عنه بل سانده في آخر أيامه وأعاد إليه قوته وتمجَّد في موته «فكان الموتى الذين أماتهم في موته، أكثر من الذين أماتهم في حياته» (قض 16: 30).

- وداود مرنِّم إسرائيل الحلو، الذي قال عنه الله: «وجدتُ داود بن يسَّى رجلاً حسب قلبي» (أع 13: 22)، وكان ملكاً عظيماً لإسرائيل، حدث أنه «رأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً» (2صم 11: 2). وكانت هذه بداية الانحدار، إذ استدعاها واضطجع معها فحملت منه، وامتد التدبير للتخلُّص من زوجها ”أوريَّا“ الجندي المحارب، الذي لَمَّا لم يشأ - رغم المحاولات - أن ينزل إلى بيته (بقصد التغطية على خطأ الملك)، اضطر الملك في النهاية أن يأمر بأن يجعلوه «في وجه الحرب الشديدة... فيُضرب ويموت» (2صم 11: 6-15). ومات أوريَّا، وكان داود راضياً بقتله، وضم ”بثشبع“ إلى بيته. ولكن داود تعرَّض لغضب الله الذي كان يحبه، وصدر فيه الحُكْم: «... والآن لا يُفارِق السيف بيتك إلى الأبد... هأنذا أُقيم عليك الشر من بيتك» (2صم 12: 10و11)، وبدأت سلسلة معاناته وآلامه. ولكنه عاد إلى الرب من باب التوبة والدموع، وهكذا سمع صوت الغفران: «الرب أيضاً قد نقل عنك خطيتك، لا تموت» (2صم 12: 13)، ووضع خبرته للآتين بعده في عشرات المزامير.

- وسليمان الذي بدأ مع الرب بداية طيبة، وكانت طلبته «قلباً فهيماً لأحكم على شعبك، وأُميِّز بين الخير والشر» (1مل 3: 9)، فكان أن «أعطى الله سليمان حكمةً وفهماً كثيراً جداً» (1مل 4: 29)، بل وارتبط اسمه ببناء بيت الرب (1مل 9: 1). ولكن تمضي الأيام فلا تسعفه الحكمة، بل يقع في حب النساء الغريبات، «فأمالت نساؤه قلبه... وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب... وعمل سليمان الشر في عيني الرب» (1مل 11: 3-6). وكان عقاب الرب أن مزَّق مملكته فيما بعد. ولكن سليمان ندم على سقوطه وخيانته لعهد الله الذي تراءى له مرتين، وسجَّل في أسفار الكتاب المقدس خبرة حياته الحافلة مُشدِّداً على السلوك في مخافة الرب وقبول تأديبه، وطلب الحكمة لا أباطيل هذا العالم، وحذَّر كثيراً من الميل إلى النساء الغريبات وشركة الخطاة وما تجرُّه هذه العلاقات من مآسٍ وآلام قد تؤدِّي إلى الهلاك، يستوي في ذلك الفرد والمجتمع، «البر يرفع شأن الأُمة، وعار الشعوب الخطية» (أم 14: 34).

- وبطرس، مندفعاً كعادته، أمسك بيد الرب وسار على الماء بالفعل، ولكن ساعة ضعفه جاءت عندما اهتزَّ إيمانه وارتدَّ إلى واقعه فابتدأ يغرق، ولكنه استطاع أن ينجو لَمَّا التجأ إلى إلهه: «يا رب نجِّني» (مت 14: 30). إلاَّ أن كبوته الكبيرة جاءت عندما أنكر الرب ثلاثاً وقت آلامه رغم تحذير الرب المُسبق له، ولكنه لم يسمح بشماتة إبليس، فما أن نظر إليه الرب المتألم حتى «خرج إلى خارج، وبكى بكاءً مُرًّا» (مت 26: 75)، وأعلن له الرب قبول توبته عندما دعاه بعد القيامة لرعاية شعبه. ومن ناحيته فقد ظلَّ بطرس أميناً لمخلِّصه حتى النَّفَس الأخير، وساعة استشهاده لم يحسب نفسه مستحقاً أن يموت مصلوباً كسيِّده، فصُلِبَ منكَّس الرأس.

- وعلى العكس، فإن يهوذا، الذي التصقت آماله بتراب الأرض، لم ينجح مرة في الإفلات من فخ التجربة، فسرق (يو 12: 6)؛ بل إنه مضى وعرض سيده للبيع وأخذ مقابله ثلاثين من الفضة! ولما جاءت الساعة كي يكتشف خيانته وضياعه، لم يعرف كيف ينجو كما فعل بطرس، وبَدَلَ ترقُّب قيامة الرب والالتجاء إلى حنانه كمخلِّص كل الخطاة، اختصر الطريق ليفقد حتى المستقبل أيضاً.

(بقية المقال العدد القادم)

دكتور جميل نجيب سليمان


(1) ظل الرئيس الأمريكي رونالد ريجان السنوات العشر الأخيرة من حياته لا يدري في مرضه بالألزهايمر Alzheimer's disease أنه كان رئيساً للولايات المتحدة لثماني سنوات!!