مفاهيم كتابية



«كونوا رجالاً»

في ختام رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، يكتب القديس بولس هذه الكلمات: «اسهروا. +ثْبُتُوا في الإيمان. كونـوا رجالاً(1). تَقَوَّوْا» (1كو 16: 13). ويعنينا هنا وصيته: «كونوا رجالاً». ولأن رسالته كـانت موجَّهة إلى كـلِّ الكنيسة برجالها ونسائها وصغارها. فالمعنى المقصود، إذاً، يتجاوز الرجولة الجسدية والأخلاقية إلى الرجولة الروحية بسماتها المسيحية.

الرجولة الجسديـة، تعني قـوة العضلات والصلابـة والقـدرة على الاحتمال ومـواجهة الأخطـار بغير خـوف. وبعض هـذه الصفات وراثي وبعضها مُكتسَب، ولكنها تتراجع مـع الضعف والمرض والشيخوخة.

والرجولة الأخلاقية، والتي تُكتَسَب بالتربية والتعليم ومـن خـلال القدوة، تقصد ضمن مـا تقصد: الجديَّـة والنجدة والمؤازرة وحماية الضعيف والدفاع عن حقوقه، وشجاعة الاعتذار عند الخطأ، والثبات في المحن.

ولكن الرجولة الروحية أمرٌ آخر. فهي هبة النعمة للذين يعيشون بالإيمان ويطلبونها من إلهنا الغَني، فيُضيء فيهم شخص المسيح ويهبهم حيوية وتألُّقاً، ويُعطَوْن القدرة على ضبط النفس وقَمْع الجسد والجهاد ضد الخطيـة، وممارسـة التوبة بغير تحفُّظ، والتحرُّر من الخوف، والأمانة حتى الموت، والشهادة للحـقِّ، والصلابـة أمام الإغـراء والوعيد، والصمود أمـام التجارب والشدائد، وحَمْل الصليب واحتمال الآلام من أجل الإيمـان، والاستقامة وعـدم التذبذُب، والقناعة وعـدم الشكوى والتذمُّر، وعـدم الانحصار في الحزن والهَمِّ، والتحرُّر من محبة المال، والتسامُح والغفران، والتعفُّف عن الانتقام.

الرجـولة الروحيـة بهذه المعاني هي، إذاً، ليست للرجال والشباب وحدهم، وإنما هي للكل: رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً؛ يشتركون في احتمال المشقَّات كجنودٍ صالحين ليسوع المسيح (2تي 2: 3).

ووصية القديس بولس هذه، تجد صداها في كلمات الرب عن الحياة المسيحية التي دعا إليها، إنها ليست نُزهة وإنما هي مُمارسة جادَّة تهبها النعمة، وعبَّر عنها بالدخول من الباب الضيِّق إلى الطريق الكَرِب المؤدِّي وحـده إلى الحياة الأبدية (مت 7: 14،13؛ لو 13: 24)، وأنَّ «ملكوت السـموات يُغصَـب، والغاصبون يختطفونـه» (مت 11: 12).

+ نماذج مُلهمة:

+ الذي يتقدَّم الكل هـو الرب يسوع كأعظم الرجـال، الذي ثبَّت وجهه نحـو الصليب ولم يتهرَّب منه، بـل إنـه انتهر بطرس الذي بدافـع محبته حثَّ الرب على تجنُّب الموت (مت 16: 22)، فتكلَّل الربُّ ظافراً بالقيامة.

+ والعـذراء أُمُّنا، وهي الفتاة الآتية مـن ناصرة الجليل، تتلقَّى بشجاعة بشارة الملاك بأن تكون والدة ابن الله المُتجسِّد، فتنحني طائعة لمشيئة الرب قائلة: «هوذا أنا أَمَة الرب. ليكُن لي كقولك» (لو 1: 38). وبعـد عقودٍ مـن المطاردة والعناء، تقف تحت الصليب الـذي يحمل ابنها الفادي. ولأنها تعرف أنَّ في موته الدامي خلاص العالم، فهي تنطوي صامدة على السيف الذي يجوز في قلبها وتُسلِّم مشيئتها للتدبير الإلهي.

+ وتلاميذ الرب ورُسله هم أنوار ساطعة في ميدان الرجولة مُتمثِّلين بسيِّدهم (1كو 11: 1). فهُم يخرجون من السجن، لا ليتواروا خوفاً، وإنما ليُبشِّروا من جديد (أع 5: 21،20). وبعد جلدهم يذهبون فرحين أنهم حُسِبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسم الرب (أع 5: 40).

والقديس بولس يقول عـن خدمتـه: «لستُ أَحتَسِب لشيء، ولا نفسي ثَمينة عندي، حتى أُتَمِّم بفرح سَعْيي والخدمة التي أَخذتُها من الرب يسوع، لأَشهد ببشارة نعمة الله» (أع 20: 24).

والقديس بطرس يقف في ساعته الأخيرة أمام صليبه مُتماسكاً شُجاعاً، حاضر الذهن، ويرى نفسه غير مُستحق أن يُصلَب كسيِّده ويطلب أن يُصلَب مُنكَّس الرأس.

+ ومثلهم كل الشهداء على مدى العصور، الذين لم يهابـوا الموت، بـل قدَّموا حياتهم حبّاً في الملك المسيح، وبينهم النسـاء والشباب بـل والصغار والبسطاء.

كما أنَّ القديسـة رفقـة تجاوزت غريـزة الأُمومة تجاه أولادها الخمسة، ولم تشأ أن تُسلِّم نفسها للموت قبل أن تُعاين استشهادهم ودخولهم المجد، لئلا يتم التأثير عليهم بعد انتقالها.

+ ولا ننسى الذيـن التفُّوا حول الرب وهـو يقترب من الصليب، حين انفضَّ عنه الجميع وهربوا (مت 26: 56؛ مر 14: 50)، مثل يوسف الرامي ونيقوديموس اللَّذَيْن لم يحرصا على موقعيهما في المجمع، بل دافعا عن الرب، وبعد موته أخذا جسده ودفناه في قبر يوسف الرامـي الجديـد (مت 27: 57-60؛ مر 15: 43-46؛ لو 23: 50-53؛ يو 19: 38-42)؛

وسمعان القيرواني الذي وهو عائد من حقله، وجـد نفسه في صدارة موكـب الصليب، فلما سخَّروه ليحمـل الصليب لم ينسحب أو يتعلَّل، ولكنه ارتضى أن يكون واحداً من أتباع المخلِّص ولو في ساعته الأخيرة (مت 27: 32؛ مر 15 11؛ لو 23: 26)؛

كما لا ننسى المريمات اللائي كُنَّ أشجع من بعض الرجال في وجودهن إلى جوار الرب وأُمـه العذراء وقت آلامه وحتى الصليب والقبر، وكوفئن، مِـن ثَمَّ، أن يكُنَّ أول شهود قيامته المجيدة.

+ وفي أيـامنا هـذه، نذكر سُكَّان قُرانا المُحاصَرين بالكراهية والعنف، والصامدين أمام تهجيرهـم وحـرق بيوتهم وكنائسهم، أو سَحْل شبابهم وقتلهم؛ ولكنهم يقفون، رجـالاً ونساءً، يحتملون الموت والألم والخسائر من أجل إيمانهم الذي تسلَّموه من آبائهم عَبْر الأجيال.

+ كما نذكر يوسف الشاب العبراني الذي كان عبداً غريباً في بيت فوطيفار، وساندته نعمة الله فلم يُذعِـن لسطوة امرأة سيِّده، ورَفَضَ الانصياع لرغبتها، وأفلت من بين يديها تاركاً ثوبـه معها، وقانونـه: «كيف أصنع هذا الشر العظيم، وأُخطئ إلى الله؟» (تك 39: 12،10)

نعم، إن الانفلات من سجن الشهوة هو تعبيرٌ أكيد عـن الرجولة، خاصةً لمَن هم في سـنِّ الشباب. وفي هذا المجال يُزكَّى أيضاً المجاهدون الذيـن قبلوا الدعـوة واختاروا البتولية طريقاً لتكريس حياتهم، سواء للعبادة في البراري، التي بدأها نجما البريَّة أنبا بولا وأنبا أنطونيوس؛ أو لخدمة الرب والكرازة للعالم بالإيمان.

+ كما أنَّ وقوف الراعي ليحمي شعبه أمام مؤامرة الأشرار، الذيـن يُريـدون اختطافهم أو التهامهم، هو من جوانب الرجولة في الخدمة. فموسى ترك حياته الهانئة في بيت فرعون وفضَّل المذلَّة مع إخوتـه، «حاسباً عار المسيح غِنًى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظُر إلى المجازاة» (عب 11: 24-26).

وكان أثناسيوس، شمَّاساً وبطريركاً، أسداً مِقْدَاماً في الدفاع عن الإيمان دون أن يهاب كثرة الأعداء وقوَّتهم، بل تشدَّد وتشجَّع مُعلناً أنه ”ضد العالم“ Contra Mondum، حتى صار هذا لقبه.

+ ويبرز لنا من العهد القديم نماذج عظيمة في الشجاعة تمسك بالإيمان، مثل الفتية الثلاثة الذين ظلُّوا على عبادتهم في أرض السبي ولم تردعهم نار الأَتون؛ كما أنَّ دانيال رَفَضَ طاعة أَمْر الملك داريوس ولم يَخَف أن يُلقَى في جُبِّ الأُسود، حيث أرسل الله ملاكه وسدَّ أفواههم؛ ويوحنا المعمدان الذي شهد بالحقِّ أمام هيرودس ولم يتراجع أمام حدِّ السيف.

+ ولا شكَّ أنَّ موقف التوبة والرجوع إلى الله بعد التِيه، هو تعبيرٌ عن الرجولة الروحية، حيث يُقاوِم التائب الشعور بالخجل والمهانة وربما بالفضيحة، وحيث يكون الانفصال عن الخطية ورفاقها أشبه باقتلاع العين أو بَتْر الذراع، والذي تغلبه نعمة الله التي استثارت فيه التوبة.

نذكـر هنا مـن العهد القديم، توبـة داود، وهـو النبي والملك الذي لم يُكابـر أو يُـبرِّر (2 صم 12: 13)، بـل صارت مزامير توبته إلهاماً لكلِّ التائبين.

ويعرض لنا الإنجيل توبـة المرأة الخاطئة (لو 7) التي لم تُلْقِ بالاً إلى المجتمعين في بيت سمعان الفرِّيسي ونظرة احتقارهـم لها، وإنمـا حصرت انتباههـا في شخص المسيح وحـده، فخرجت من عنده مغفورة الخطايا.

ومثلها موقف الابـن الضال الذي لم يُبـالِ بالعقبات أمام عودته إلى بيت أبيه بعد أن اختار، بملء إرادته، أن يأخذ نصيبه من ميراث أبيه وهو بعد حي، وباستهتاره وطياشته بدَّد كل شيء، وربما استهول أن يعود مُنكسراً مهزوماً خالي الوفاض فيسمع ما لا يطيق، وربما جرى طرده قبل أن يصل إلى تخـوم أملاك أبيه. ولكنـه استجمع شجاعته واستعدَّ لكل التبعات التي رأى أنـه يستحقُّها، واتَّجه إلى بيته القديم يطلب عفواً؛ فكان في رجوعه نجاته، فقد أحاطت به محبة أبيه الذي كان ينتظر عودته.

كما نذكر أيضاً دموع بطرس الذي بعد أن أنكر الرب، استعظم خطيئته وغسلها بخروجه من دائرة الضعف إلى ساحة قوَّة التوبة المُكلَّلة بالبكاء المُرِّ (مت 26: 75؛ مر 14: 72؛ لو 22: 62،61).

+ وبنفس القَدْر، فإنَّ السلوك بالاتضاع أمام الله والناس، يحتاج إلى معونة إلهية خاصة من أصحاب المراكز والمواهب المرموقة، وهو قمة الرجولة المسيحية وقوَّتها، وليس عنواناً للضعف كما يفهم البعض. والرب هـو قدوتنا، وهو ملك الملوك، الذي «أخلى نفسه آخِذاً صورة عبد» (في 2: 7)، وهو أوصى تابعيه أنْ «تعلَّموا مني لأني وديـع ومتواضع القلب، فتجدوا راحـةً لنفوسكم» (مت 11: 29).

+ عندما تغيب الرجولة المسيحية:

في غياب الرجولة المسيحية، يسود الضعف والتخاذُل والكسل والهزال والميوعة والرخاوة والخضوع للشهوة والرياء والادِّعاء، والتديُّن الشكلي وازدواج الحياة، والمراوغة والكذب والمكابرة والتبرير والتهرُّب، والنفاق والخنوع والخوف والتردُّد، ومحبة المال والميل للتنعُّم والتَّرَف والزينـة، والأنـانية والخيانـة. وعند الحصار قد يُنكَر الإيمان بالكامل.

والنماذج كثيرة من حولنا، قديماً وكل يوم. فآدم وحواء بَـدَل الاعتراف بالذنب، عَمِدَا إلى التبريـر والتهرُّب (تك 3: 13،12). وقايين يُكابر أمام الله العارف بكـلِّ شيء (تك 4: 9). وامـرأة لوط، باستهتارها في الساعة الحاسمة للنجاة، تفقد الحياة (تك 19: 26). وعيسو المستبيح، يبيع بكوريته بـأَكلة عدس، كما يفقد بركة أبيه (تك 25: 33؛ 27: 38).

+ ويهـوذا الإسخريـوطي، غَلَبَه الطمع ولم يحتمل أن يُبدِّد الرب آماله، رافضاً أن يتبعه إلى النهايـة ويُشاركه آلامه، فباعه بالقليل؛ ولما عاد إلى نفسه، تنكَّب الطريق إلى التوبـة، فَفَقَدَ كـل شيء (مت 27: 15؛ أع 1: 18).

+ وبيلاطس، وهـو الحاكـم الروماني ذو السلطان، والذي كان بيده أن يحكم بإطلاق يسوع البار، خضع لأصوات الغوغـاء ورؤساء الكهنة، وسقطت رجولتـه في الامتحان وتنكَّر للحـقِّ مخذولاً (لو 23: 25).

+ وفيلكس الوالي، عندما سمع الدعوة لتبعية يسوع من بولس الأسير، خانته شجاعته وخاف على موقعه واستكثر ثمن توبته، ومرتعباً يطلب من بولس أن يذهب على أن يستدعيه متى توفَّر الوقت الذي لم يأتِ. وهكذا أفلتت منه فرصة خلاصه (أع 24: 25،24).

+ والقديس بولس يكتب حزيناً عـن ديماس الذي تركه إذ أحبَّ العالم الحاضر (2تي 4: 9).

نعم، فالطريـق ليس آمِناً، والأخطار تترصَّد المُجاهديـن. وكثـيرون يختبرون حيـاةً ممتلئة بالنصرة والقوَّة، ثم يـدبُّ فيهم الضعف عندما يرتـدُّون للماضي منخدعـين مـن شهوتهم (يع 1: 14)؛ وإنْ لم تُدركهم مراحم الله ويعرفون طريق التوبـة، فقد لا يستعيدون قوَّتهم، ويسبقهم المبتدئون والخطاة الراجعون.

(+( (

«كونـوا رجـالاً»، هي دعوة للجميع، وهي وصية تُحتِّمها الحياة المسيحية، وتحمل في طيَّاتها نعمة بلوغها. على أنَّ البعض مـع هـذا سيقف عاجزاً، لأن التصاقه بالخطية يجعل حياة البرِّ عنـده حُلماً بعيد المنال.

والبعض يتحكَّم فيـه الخوف وصِغَر النفس، فيرى إمكاناته قاصرة عن الإيفاء بالتزامات الحياة المسيحية. والبعض مِمَّن تُحاصره الهموم وأتعاب الزمان، يرى نفسه فاقد الهمَّة للجهاد والحرب الروحية.

هؤلاء أعذارهم حقيقية، ولكنها مع هذا غير مقبولة؛ ذلك أنَّ بلوغ الحياة المسيحية بكل بهائها وقوَّتها، هو ممكن فقط بعمل النعمة التي تستثير التوبة، وتطرح الماضي بظلامه كأن لم يكن.

عندما يلتقي العمل الإلهي مع الإرادة الطائعة، يتحوَّل أعتى الخطاة إلى أعظم القدِّيسين.

نعم، فالنعمة تصنع الرجال.

دكتور جميل نجيب سليمان

**************************************************************************************************

صدر حديثاً كتاب:

دير القديس أنبا مقار

مكان الحكمة العالية والصلاة الدائمة

(جولة داخل الدير)

(مُرفق به CD فيديو فيلم مُتحرِّك لمعالم الدير)

إعداد الراهب أخنوخ المقاري

الكتاب فقط (70 صفحة، ويحوي 16 صورة بالألوان لأيقونات ومعالم الدير) الثمن 15 جنيهاً

فيديو فيلم مُتحرِّك لمعالم الدير الثمن 5 جنيهات

يُطلب من:

دار مجلة مرقس

القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 25770614

الإسكندرية: 8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740

أو من مكتبة الدير

أو عن طريق موقع الدير على الإنترنت:

www.stmacariusmonastery.org

**************************************************************************************************

(1) أو «كونوا كالرجال» be like men، أو «كونوا شُجعاناً» be brave (في ترجمات أخرى).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis