تأملات روحية



«أيِّلة الصُّبْح»
(مز 22)

المزمور 22، هـو قمة المزامير المسيَّانيَّـة، ويُعطينا صورة نبويَّة حيَّة للصليب قبل حدوثه بنحو ألف عام، ففيه يرسم لنا الروح القدس مشهد الجلجثة حيث تألَّم المسيح من أجلنا. فهو يحوي سرَّ الأسرار: الابن الحبيب متروكاً من الله! ينبوع المياه الحيَّة، بحَنَكٍ يابس! الذي تُبْدي الخليقةُ قوَّتَه، يقول المزمور: «يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي» (مز 22: 15)! والمؤتزر بالجلال نراه عارياً من كل كرامة بشريَّة!! فَلْتنحنِ الهامات ونحن نقرأ كلمات هذا المزمور النفيس، ولتَفِض مـن القلب أعمق مشاعر التوقير والإجلال والتعبُّد.

عنوان المزمور 22: ”لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى «أَيِّلَةِ الصُّبْحِ» - مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ“. فالمسيح هـو إمـام المُغنِّين الحقيقي الواقف في الوسط يقـود إخوتـه في التسبيح: «فِي وَسَطِ الْجَمَاعَـةِ (الكنيسة) أُسَبِّحُكَ» (مـز 22: 22؛ عـب 2: 12). أمَّا عن تعبير ”عَلَى «أَيِّلَةِ الصُّبْحِ»“، فإنَّ منطقة يهوذا، التي تقع فيها قرية بيت لحم، حيث تربَّى داود، هي منطقة مُحاطة بالجبال، وكثيراً ما سهر داود يحرس أغنامه على تلك الجبال، ونستشفُّ من هذا التعبير أنَّ داود كان يستمتع بمنظر الشمس وهي تُشرق، مُتخيِّلاً أشعة الشمس أول ما تظهر له من خلف جبال يهوذا كأنها قرون الإيَّل، فدعـا الشمس المُشرقـة: «أَيِّلَةَ الصُّبْحِ». كما أنَّ وصف الشمس بالغزالـة، استعارة كثيرة الورود في اللغة العربيَّة، فيَرِد معنى ”غزالـة“ في المعاجـم: ”الشمس عنـد طلوعها“، لأنها تمدُّ حِبَالاً من نورها كأنها تغزل. ولا يُقـال ”غـربت الغزالة“، لأن هـذا الاسم مخصوصٌ بها عند طلوعهـا. ويُقـال ”ذَرّ قرنُ الغزالـة“ أي طلعت الشمس. ومَـن هي الشمس المُشرقة سوى شخص الرب يسوع المسيح، كما جاء في ملاخي 4: 2: «وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا».

ويتميَّز الإيَّل بأشواقه وتلهُّفه إلى المياه: «كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ» (مز 42: 1)، هكذا كان المسيح: «فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلاً» (مز 1: 2)؛ بل هو - كما قال يعقوب - أيِّلة مُسَيَّبة في (تك 49: 21): «أَيِّلَةٌ مُسَيَّبَةٌ يُعْطِي أَقْوَالاً حَسَنَةً». فقد انسلَّ المسيح مـن أكفان القبر وقام مـن بين الأموات، وبعد قيامته أعطى الأقوال الحسنة: «أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي».

ومـع أنَّ المزمور مليء بذِكْر حيوانـات شرسة: ثيران، وكـلاب، وبقر الوحش، والأسد؛ لكن هذه الضَّواري كلها اجتمعت ضد الأيِّلة الوديعة، ربنا يسوع المسيح. ولكن هيهات فسوف ترجع إلى الربِّ كلُّ أقاصي الأرض، وتسجد قدَّامه كـلُّ قبائل الأمم وكـلُّ سميني الأرض (الأشراف والعظماء)، ويأتـون ويُخبرون ببرِّه (مز 22: 31،29،27).

فحين رنَّم بنو اسرائيل ترنيمتهم للربِّ بقيادة موسى، وهم على شاطئ البحر، وكان عددهم من ابن عشرين سنة فصاعداً نحو ستمائة ألف رجل؛ كـانت هـذه صورة مُصغَّرة لِمَا سيحدث عندما تُرنِّم جماعـة المفديِّين العظيمة في السماء على القيثارات، للجالس على العرش، ترنيمةً جديدة: «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنا للهِ بِدَمِكَ» (رؤ 5: 9).

يبدأ المزمور بهذه العبارة: «إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟»، والتي نطق بهـا ربنـا مـن فـوق الصليب، وهي بخلاف باقي عباراته السَّبع سُجِّلَت بـذات النُّطق الـذي خـرج مـن فـم المسيح، أي باللغة الآراميَّة ثُمَّ تفسيرهـا باليونانيَّة: «إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِـي إِلهِـي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (مر 15: 34)

وكـأنَّ الروح القدس أراد أن تُخلِّد الأجيالُ والأبديَّة تلك الصرخةَ بذات الألفاظ التي خرجت مـن فم البارِّ المتألِّم، والتي نطق بها من عمق أعماق الألم.

فإنْ كان الله لا يُحوِّل عينيه عن البارِّ (أي 36: 7)؛ فالمسيح، وهو البارُّ القدوس الذي من الأزل وإلى الأبد في حضن الآب، صاحبُ الشركة غير المنقطعة مع أبيه، نسمعُه هنا يصرخ بالجسد إلى الآب لأنه تركه. ولكن لولا ترك الآب له ما استطاع أن يُصلَب، وما أمكن أبـداً أن يمـوت، لأنَّ لعنـة الصليب لا يمكـن أن يتقبَّلهـا دون أن يتخلَّى الآب عنـه، ليتحمَّل اللعنة وحده!

في هـذا المزمـور يشكـو المسيح ثـلاث مرات من البُعد: «بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي» (ع 1)، «لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي» (ع 11)، «أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ» (ع 19). كأنَّ المسيح يقول للآب: ”إنني في البداية لم يكن لي سواك، وإلى النهاية ليس لي إلاَّك، فلماذا تركتني؟!!“.

مَن يقدر أن يسْبُر غَوْر ما تمَّ بين الآب وبين نفس المسيح المُثقَّلة المتألِّمة؟ ماذا بوسعنا أن نُدرك؟ تُرَى مـاذا سيفعل الخطاة في أبديَّـة لا تنتهي؟ إلى أبد الآبدين سيكونون بعيدين عن مركز الله!

وتأتي في هـذا المزمور البديع عبارةٌ تقشعرُّ لها الأبـدان، وهي قـولُ المزمور بلسان ابن الله: «أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ» (ع 6)، وهي مسافة لا تُقاس، تلك المسافة التي بين قول الربِّ قديماً لموسى في (خـر 3: 14) «أَهْيِه»، وهي بعينها العبارة التي قـالها المسيح للَّـذين أتـوا ليقبضوا عليه في البستان: «أنـا هـو» (يو 18: 5)؛ وبين أنَّاته بعد ساعاتٍ معدودة في الجلجثة بقول المزمور: «أنا دودة» (مز 22: 6).

مَن الذي يقول هذا؟ إنه القدير مُبدع الأكوان، الذي كال بكفِّه المياه، وقاس السموات بالشِّبر، وكال بالكَيْل تراب الأرض، ووَزَنَ الجبال بالقبَّان والآكام بالميزان (إش 40: 12).

تأمَّلي، يـا نفسي، في هـذا اللُّغز العجيب واخشعي وقولي مع إشعياء النبي: «مَـنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا» (إش 53: 1).

يقول المزمـور في آيـة 14: «كَـالْمَاءِ انْسَكَبْتُ»، فهذه صورة لمنتهى الضعف، لأنه هل توجد صعوبة في سكب الماء؟ إنَّ أضعف شخص بوسعه أن يفعل ذلك؛ والماء المُهراق، ليس فقط صورة للضعف، بـل أيضًا لاستحالة جمعه مـن جديد (2صم 14: 14).

هكذا يصفُ ربنا حالَه، في المزمور، وهـو يموت على الصليب: «صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي». إنَّ أسـد سبط يهوذا ذاب قلبه على الصليب، فيما يتحدث المُرنِّم عن يوم ظهوره فيقول: «ذَابَتِ الْجِبَالُ مِثْلَ الشَّمَعِ قُدَّامَ الرَّبِّ، قُدَّامَ سَيِّدِ الأَرْضِ كُلِّهَا» (مز 97: 5). وليس فقط الجبال ستذوب، بل كلُّ مَن رفض محبته والإيمان به: «لَحْمُهُمْ يَذُوبُ وَهُمْ وَاقِفُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَعُيُونُهُمْ تَذُوبُ فِي أَوْقَابِهَا، وَلِسَانُهُمْ يَذُوبُ فِي فَمِهِمْ» (زك 14: 12).

ويواصـل المسيح وصـف آلامـه - كما جاء في المزمور - فيقول: «يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَـةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي» (ع 15). فذاك الذي تُعلن السموات والأرض قدرتَه السرمديَّة ولاهوته، كان في بستان جثسيماني مسكيناً مُعْيًى؛ والمُفجِّر عيونًا في الأودية، قد صار حَنَكه يابساً من هول ما احتمل!!

ثُمَّ أخيراً مُحيي الرميم يُوضَع في تراب الأرض! الآيات (16،12): «أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ (اليهود)... أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ (الأمم، انظر: مت 15: 26). جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي». لقد كان الصَّيادون يستخدمون الكلاب المُدرَّبة لتُحيط بالفريسة التي يريدون الإيقاع بها؛ وهذا ما فعله صيَّاد البشر الأكبر (الشيطان) عند الصليب مع الأَيِّلة الطاهـرة الوديعـة (المسيح)، إذ استخدم الأشرار والقَتَلَة نظيره.

«ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (ع 16). تأتي كلمة ”ثَقَبُوا“ في النَّصِّ البيروتي والتي تُقابل في العبريَّـة كلمة ”+++++++ (كاأرو) = ثقبوا“، بينما النَّصُّ الـماسوري ”++++++++ (كاأري) = كـأسد“، وكذلك ترجمة (Jewish publication society) ”كـأسـد = like a lion“ وبعض الترجمـات اليهوديَّة، لكي يخفوا النبوَّة الواضحة عن موت المسيَّا مصلوباً عـن طريق ثقب يديـه ورجليه: «وَأَعْطَوْا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: قُولُوا إِنَّ تَلاَمِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ» (مت 27: 13،12). لكن الترجمة السبعينيَّة تؤكِّد ما فهمه اليهود في القـرن الثالث قبـل الميلاد، فجـاءت الكلمة ” ++++++= ثقبوا“.

فإن كان داود قد رأى المسيحَ، من على بُعْدِ مسافةٍ من وراء الدُّهور، مُعلَّقا على الصليب، «فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً... سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ الْمَسِيحِ» (أع 2: 31،30)، «سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا الَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهذِهِ الأُمُورِ الَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ الآنَ» (1بط 1: 11، 12)؛ ولكن اليوم صار دمه يسري في عروقنا، فأيَّ أُناسٍ يجب أن نكون نحن في سيرة مُقدَّسة وتقوى (2بط 3: 11)؟

لذلك يجب أن «نطرحَ كلَّ ثِقْلٍ والخطيّة المُحيطة بنا بسهولة، ولنُحاضر بالصَّبر في الجهاد الموضوع أمامنا. ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع، الذي مـن أجـل السُّرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مُستهيناً بالخِزي فجلس في يمين عرش الله» (عب 12: 2،1)، ”ولنفتكرْ في الذي احتمل من الخطاة مُقاومةً لنفسه مثل هذه، لئلا نَكلَّ ونخور في نفوسنا“ (عب 12: 3).

أخيرًا، فإن كان الآب لم يَبْخل بابنه بل بذله لأجلنا أجمعين (رو 8: 32)، وأفنى الابنُ قدرتَه بالجسد من أجلنا (إش 49: 4)، وأحبَّنا إلى المنتهى (يو 13: 1)، وأعطانا كلَّ ميراث الله والمسيح (رو 8: 17)، بل ولكي يضمن لنا الميراث أعطانا عربون الميراث (أف 1: 14) وصرنا خليقة جديدة في المسيح يسوع (2كو 5: 17)، وشركاء الطبيعة الإلهيَّة (2بط1: 4)، ولا يزال عطاؤُه غيرَ مَجْذُوذٍ (أي مقطوع)؛ فليت شعري: ماذا حاق بنا حتى غابت ينابيع المسرَّة في القلوب، وماتت أحاسيس البهجة في النفوس، وتحلَّلت أواصر المودَّة بين الناس، وآل الأمر إلى هذه الصورة الطامسة والحال البائسة! ودخلنا دخولاً في حَوْمة (ساحة) الفساد المُطبِق الذي عمَّ وسـاد حياتَنا وطمَّ (كَثُرَ حتَّى عَظُمَ) وطغى. هل صار أعضاء جسد المسيح هم أشقى جميع الناس! وكيف نغفلُ، يا إخوتي، عـن عِظَم صنيع الرب معنا وما فَعَلَه من أجلنا!

ولكن اعلَمْ أنَّ الإنسان لا يرتاح ولا يهدأ له بال إلاَّ بمعيَّة الله، جلَّت قدرته.

فمَن ذا الذي يسكن في حضرة المسيح دون أن يُسلَب لُبُّه، ويُسبَى بهذا المجد وهذا الحضور الإلهي البهيِّ؟

إنـه فرحٌ لا يُنْطَق بـه ومجيد، وأننا سوف نـهجُرُ، يوماً مـا، هموم هـذا العالم وقضاياه، وسيؤول هـذا الدَّهر حتماً إلى الانحلال ثم إلى الزوال.

ولن يبقى مـن هـذه الضجَّة الكبرى التي نحن في موكبها، مـن الطفولـة إلى الانتقال، إلاَّ ما ينسجم مع قانون الخلود!

ولن يبقى من كلِّ ما عملتْ أيدينا وما اشتهت قلوبنا، إلاَّ ما هو جليلٌ وحقٌّ.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis