الكنيسة هذا الشهر



مثال للأسرة المسيحية
استشهاد القديسة رفقة وأولادها الخمسة
(7 توت / 17 سبتمبر)

مقدِّمة:

إنَّ مهمة الوالدين لا تتوقَّف عند إنجاب الأولاد، وتغطيـة احتياجـاتهم الماديـة، وإشباع تطلُّعاتهم وطموحاتهم العالمية فقط؛ بل إنها تتجاوز كل هذه الأمور إلى التنشئة الروحية السليمة والنمو في حياة القداسة والنعمة، لأن هـذا هـو الذي يُعطي للحياة قيمتها الحقيقية. فالانحصار في الأمور الجسدية فقط، قد يقود إلى انحرافاتٍ ضارة وسلوك مشين.

ولذلك يقول القديس أُغسطينوس:

[ليكُن مـن بركـات الزواج النسل المولود، لا ولادة جسديـة فقط، بل المولود ثانية؛ لأنه يولَد جسدياً للعقاب والهلاك والدينونة، إنْ لم يُولَد ثانية للحياة الأبدية](1).

والنفس التي تستنير بإشراقة روح الله عليها، تستطيع أن تعكس صورة المسيح في هذا العالم الحاضر، لأن كل مَن نشأت فيه القداسة يكون المسيح قد نشأ فيه. وهكذا تتجدَّد شخصية العضو داخل الأسرة منذ سنٍّ مُبكِّر جداً، وتتجدَّد أيضاً مسيرة حياته المستقبلية. فإما أن ينمو ولديـه القدرة على محبة الآخر، وإما أن يصير غير قابل للآخر، بل ويُنكر وجوده ويتجاهله. وأيضاً إما أن ينمو وقد صارت لديه الرغبة في التعاون والمُشاركة، وإما أن تنمو فيه روح الفردية والانحصار في الذات.

مِـن هنا تظهر أهمية الحياة الروحية داخل الأسرة، والقدوة الصالحة في السلوك والتصرُّف من قِبَل الوالدين، وتأصيل روح المحبة والشركة مع الكنيسة والقدِّيسين، وتكريس القلب للخدمة، والتطلُّع الدائم نحو الحياة الأبدية، وعدم التمسُّك بأمور هذا العالم الحاضر. كل هذا يُساهم بدوره في امتداد ملكوت الله في الزمـن، حيث تُقدِّم الأسرة أعضاء جُـدُد للكنيسة، لهم حياة شركة حقيقية مع المسيح الذي هو رأس الكنيسة.

إذن، طبيعة العلاقة بين الزوجين هي التي تُحـدِّد الشكل الـذي سيكون عليه الأولاد في المستقبل. فالرصيد المُسلَّم للأولاد، إما أن يكون رصيداً روحياً نافعاً، وإمـا أنـه رصيدٌ جسدي ضار. ومـن أجل هذا يَعتَبِر الرسول بولس أنَّ عـدم الاعتناء بـأعضاء الأسرة، يُعدُّ إنكـاراً للإيمان، وأشرَّ من غير المؤمنين: «إن كان أحدٌ لا يعتني بخاصَّته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان وهو شرٌّ من غير المؤمن» (1تي 5: 8). بل إنه تشدَّد في شروط اختيار الأرملة التي تُكتتب من أجل المشاركة في الخدمة، بأن يكون مشهودٌ لها في أعمالٍ صالحة، وأن تكون قد ربَّت الأولاد، أي لديها خبرة في تربية الأولاد وتنشئتهم تنشئة روحيـة صحيحـة، فتُخرِج بهذا أبنـاء صالحين للكنيسة (انظر 1تي 9: 10).

فالدور الحيوي، إذن، في تنشئة الأولاد، يلعبه الوالدان بكـلِّ حكمة وتعقُّل، والتربية لابـد أن تكون مُستنيرة بعمل الروح: «وأنتم، أيها الآباء، لا تغيظوا أولادكم؛ بـل ربُّـوهم بتأديب الرب وإنـذاره» (أف 6: 4)، وأيضاً: «أيها الآبـاء لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا» (كو 3: 21). وهذه الاستنارة، وهي عملية ولادة تتمُّ في النفس، إذا خضعت لله بالتواضع والمحبة، لابد أن تُثمِر للحياة ثماراً مُفرِحَة(2).

سيرة القديسة رفقة وأولادها الخمسة:

ترمَّلت هذه السيِّدة، وكانت أُمّاً لخمسة أبناء، وهم: أغاثون وبطرس ويوحنا وآمون وأمونة. وكان موطنهم ”قامولا“ - مركز قوص بجوار الأقصر - محافظة قنا. وقد اهتمَّت الأُم بتربية أولادها في الرب، فالتهبت مشاعرهم بحبِّ الله الفائق.

وقـد أعلن لهم ملاك الرب في رؤيـا، أنهم سينالون أكاليل الشهادة بشبرا بالقرب من الإسكندرية، وأنَّ أجسادهم ستُنقل إلى ”نقرهـا“ بمحافظة البحيرة (وهي جزء من مدينة دمنهور الحالية).

الاستعداد للاستشهاد:

وإذ تمتَّعت الأُم رفقة وأولادها برؤيا رئيس الملائكة الجليل ميخائيل، فامتلأوا فرحـاً. وكانوا يترقَّبون تمتُّعهم بأكاليل الاستشهاد التي تهيَّأوا لها كل أيام حياتهم.

وفي الوقت الذي أَمَرَ فيه الإمبراطور الجاحد دقلديانوس بهَدْم الكنائس، وحَرْق الكُتُب المقدَّسة، وتعذيب المسيحيين حتى يُنكروا الإيمان؛ جَمَعَت القديسـة رفقة أولادهـا لتحثَّهم على الثبات على الإيمـان المسيحي، وذكَّـرتهم بقـول الرب: «في العالـم سيكون لكـم ضـيق» (يـو 16: 33)، «لا تخافـوا مـن الذيـن يقتلون الجسـد» (مت 10: 28). كما قالت لهم: إنَّ أعظم عطية يُقدِّمها الإنسان في حياتـه، يُقدِّمها بغير تردُّد ولا ندم، بل بكل فرحٍ وشجاعة.

وقد وقفت الأُم رفقة مع أولادها للصلاة والتوسُّل إلى الله، لكي يرحم كنيسته ويُثبِّت شعبه في الإيمان. وبينما كانوا يُصلُّون، ظهر لهم ملاك الرب، وأعلن لهم أنه قـد حان الوقت الذي فيه سينالون أكاليل الشهادة على اسم المسيح، وعزَّاهم وبشَّرهم قائلاً: ”الـربُّ معكم ويُقوِّيكم حتى تُكمِلوا جهادكم. فـلا تخافوا الموت، ولا تجزعوا منه، واشهدوا للرب“. فشعروا بفرحٍ عجيب لا مثيل له.

الآن، وقد حان الوقت، فرحوا ووزَّعوا أموالهم على المحتاجين، ثم توجَّهوا إلى ديونيسيوس القائد والي بلدة قوص. وعندما طلب منهم الوالي التبخير للأوثان وجَحْد الإيمان المسيحي، صرخوا جميعاً: ”نحن مسيحيون، لا نعبد سوى رب السماء والأرض الذي بيده جميع البشر“.

حـاول القائد بكل الوسائل أن يُغريهم بهباتٍ كثيرة، كما هـدَّدهم بالموت إنْ اعترفـوا باسم المسيح. لكنهم أعلنوا شـوقهم للموت على اسم الرب، ليلتقوا مع محبوبهم المسيح وجهاً لوجه.

فلما اعترفوا بإيمانهم بثبات، بدأ القائد يُعذِّبهم عذاباً شديداً، مُبتدئاً بأُمهم رفقة التي أظهرت صبراً واحتمالاً لا مثيل له، بل كانت تُشجِّع أولادها. وهكذا عُذِّب الأبناء الخمسة كلهم. وبسبب ثباتهم واحتمالهم للعذاب، آمـن كثيرون مـن الحاضرين وأعلنوا إيمانهم، واستشهدوا أيضاً على اسـم المسيح. أمَّا القديسة رفقة وأولادها الخمسة، فوضعهم الوالي في السجن الذي كان محتشداً بجموعٍ غفيرة من الشعب مع أساقفة وكهنة.

وقوفهم أمام أرمانيوس والي الإسكندرية:

لمَّا كـان الابـن الأكبر ”أغاثون“ مُقدَّم بلدته ومحبوبـاً مـن مواطنيه، فبسبب ثباتـه واعترافه بالإيمان بالمسيح، كـان هـو وأُمه وإخوته، دافعاً لاستشهاد الكثيرين واعترافهم بالإيمان. لذلك أشار البعض على القائد بأن يُرسلهم إلى أرمانيوس والي الإسكندرية حيث لا يعرفهم أحدٌ هناك.

ولما كان أرمانيوس غائباً في بلدة شبرا، فقد أُرسلوا إلى هناك. فبعد أن عذَّبهم عذاباً شديداً، ألقاهـم جميعـاً في السجن. فظهر لهم رئيس الملائكـة ميخائيل، وشجَّعهم وشفى أجسادهـم المُثخنة بالجروح. وفي الصباح دُهِشَ الجُند وكل جمهور الشعب إذ لم يَرَوا ندبـة واحدة مـن الجراحات على أجساد المعترفين. ونتيجة هذا، صرخ جمهور الحاضرين وأعلنوا إيمانهم بالرب يسوع، فأَمَر الوالي بذبحهم جميعاً.

وبعد ذلك وَضَع الوالي القديسة رفقة وأولادها على أَسِرَّة من حديد وأوقد ناراً تحتهم، ولم يُصَب أحدٌ منهم بسوء، بل أرسـل الله مطراً بعد ثلاث ساعـات أطفـأ النيران، واعترف جمهور غفير بالمسيح، ونالوا أكاليل الاستشهاد.

لم يهتزَّ قلب الوالي، بل ازداد عناداً وأَمَرَ بتقطيع أعضاء هؤلاء القدِّيسين، وبوَضْع خَـلٍّ وجيرٍ عليهم. فظهـر لهم رئيس الملائكة مـرَّة أخرى، وأنـار حولهم وشفاهم. وعندما ألقاهم الوالي في السجن مُقيَّدين بسلاسل، سمعوا صوتاً يقول: ”جهادكم قد اقترب، وها أنا قد أعددتُ لكم أكاليل الحياة“. وبعد ذلك أَمَـر الوالي بصَلْبهم مُنكَّسي الرؤوس، ثم وضعهم في خَلْقين (برميل)، فـانقلب الخَلْقين بـالزيت المغلي على الجنود المُكلَّفين بتعذيبهم وماتـوا. وأخيراً أَمَـرَ بقطع رؤوسهم وطَرْح أجسادهم في البحر.

الاهتمام بأجسادهم الطاهرة:

وقد أُعلِن لرجلٍ مسيحي ثري من ”نقرها“ من أعمال البحيرة، بواسطة رؤيـا، أن يحفظ هـذه الأجساد. فقدَّم للجُند بعض المال وأَخَـذَ الأجساد منهم، وحفظها عنده حتى زال الاضطهاد. وإذ حلَّ الخراب بمدينة ”نقرها“، نقل المؤمنون الأجساد إلى مدينة ”ديبي“ حيث كنيسة الشهيد مار مينا. وهكذا ظلَّت هناك حتى نُقِلَت إلى ”سنباط“. وكانت تُسمَّى ”سنبموطيـة“ أو ”سنابيط“، نسبة إلى حـاكمها الروماني ”سنابيط“. وما زالت هذه الأجساد الطاهرة في الكنيسـة التي بُنِيَت على اسمهم ببلـدة ”سنباط“ - مركز زفتى - محافظة الغربية. وكان استشهادهم في اليوم السابع من شهر توت.

بركة صلوات الشهيدة رفقة وأولادها الخمسة تكون معنا، آمين.

(1) القمص تادرس يعقوب ملطي، ”لقاء يومي مع إلهي خلال خبرات آباء الكنيسة الأولى“، 2003، ص 34،33.
(2) دكتور سعيد حكيم، ”الأساس المسيحي لتكوين الأسرة“، المؤتمر السنوي الثاني عشر للدراسات الآبائية.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis