دراسات كتابية


المذبح الحقيقي

+ «لنا مذبح لا سلطان للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه» (عب 13: 10).

+ يسرد لنا سِفْر الملوك الأول قصة غامضة حدثت بعد انفصال المملكة الشمالية (إسرائيل) عن المملكة الجنوبية (يهوذا): «وقـال يَرُبْعَامُ (ملك إسرائيل) في قلبه: ”الآن ترجع المملكة إلى بيت يهوذا. إنْ صَعِدَ هذا الشعب ليُقرِّبوا ذبائح في بيت الرب في أورشليم، يرجع قلب هـذا الشعب إلى سيِّدهم، إلى رحبعام ملك يهوذا، ويقتلوني ويرجعوا إلى رحبعام ملك يهوذا“. فاستشار الملك وعمل عِجْلَي ذهب، وقال لهم: ”كثيرٌ عليكم (أو رحلة طـويلة عليكم) أنْ تصعدوا إلى أورشليم (حيث الهيكل). هوذا آلهتُكَ يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر“. ووضع واحداً (أي عِجْلاً ذهبياً) في بيت إيل، وجعل الآخر في دان. وكان هذا الأمر خطيةً. وكان الشعب يذهبون إلى أمام أحدهما حتى (طول المسافة) إلى دان. وبنى بيت المرتفعات (عبادة البَعْل) وصَيَّر كهنةً من أطراف (أو فئات) الشعب لم يكونوا من بني لاوي. وعَمِلَ يرُبعام عيداً في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر (يوم الكفَّارة) كالعيد الذي في يهوذا (أو أورشليم). وأصعد (ذبائح) على المذبح. هكذا فعل في بيت إيل بذَبْحِه للعِجْلَيْن (الذهبيَّيْن) اللَّذَيْن عَمِلَهُما. أوقف (أو عيَّن) في بيت إيل كهنة المُرتفعات التي عَمِلَها. وأصعد (أي قدَّم ذبائح) على المذبح الذي عَمِلَ في بيت إيل في اليوم الخامس عشر من الشهر الثامن، في الشهر الذي ابتدعه من قلبه، فعَمِلَ عيداً» (1مل 12: 26-33).

+ والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هو: لماذا حرَّم الله تقديم ذبائح في أيِّ مكان آخر غير هيكل أورشليم؟

معروفٌ أنَّ الهيكل تم بناؤه على جبل موريا، وهو المكان الذي قدَّم فيه إبراهيم إسحق ابنه (بالنيَّة) ذبيحة للرب، حسب المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس(1). وتحريم تقديم ذبائح على أيِّ مذبح آخر، كان نبوَّة طقسية عن المذبح الوحيد الذي أصبح الآن مقبولاً لدى الله الآب، وهو صليب المسيح، الذي قـدَّم عليه الابـن جسده صَعيدةً مَرْضيَّة. والذي حدث في اللحظة التي أَسلم فيها المسيحُ الروحَ على مذبح الصليب، أنَّ حجاب (أو ستارة) الهيكل الذي يفصل القُدْس عن قُدْس الأقداس، انشقَّ من فوق إلى أسفل، أي أنَّ العبادة اليهودية قد بطلت بكلِّ ما فيها من ذبائح ومذبح وكهنوت وناموس وهيكل وأعياد... إلخ. ولكن الوحيد بين الرسل الذي وَعَى ذلك جيِّداً هو بولس الرسول، الذي جعل هذا المبدأ محور كرازته للأُمم!

ويبدو أنَّ حجاب الهيكل الذي انشقَّ، لم يُفهَم معناه من قِبَل اليهود، بل ظلُّوا يرفعون ذبائحهم كما اعتادوا. ولكن ما هـو موقف الله مـن هذه الذبائح بعد أن قَبِلَ الذبيحة الحقيقية الوحيدة من على صليب المسيح؟

+ الجواب نستشفَّه من بقية النبوَّة: «وإذا برجُل الله قد أتى من (مملكة) يهوذا بكلام الرب إلى بيت إيل، ويرُبعام (ملك إسرائيل) واقفٌ لَدَى المذبح ليُوقِد (النار). فنادَى (رجل الله) نحو المذبح بكلام الرب: ”يا مذبح، يا مذبح، هكذا قال الرب: هوذا سيُولَد لبيت داود ابن اسمه يُوشِيَّا، ويذبح عليكَ كهنة المُرتفعات الذين يُوقِدون (النار) عليكَ، وتُحْـرَق عليكَ عِظـام الناس“. وأعطى في ذلك اليوم علامةً قـائلاً: ”هـذه هي العلامة التي تكلَّم بها الربُّ: هوذا المذبح ينشقُّ، ويُذْرَى الرماد الذي عليه“» (1مل 13: 1-3).

هذه العلامة تُذكِّرنا بنبوَّة المسيح: «ثم خرج يسوع ومضى مـن الهيكل، فتقدَّم تـلاميذه لكي يُرُوهُ أبنيةَ الهيكل. فقال لهم يسوع: ”أَمَا تنظُرون جميع هذه؟ الحقَّ أقول لكم: إنه لا يُترَك ههنا حجر على حجر لا يُنقَض!“» (مت 24: 2).

+ ولكن السؤال هو: هل وَجَدَت هذه النبوَّة آذاناً صاغية لدى التلاميذ؟ لقد كان اليهود بما فيهم التلاميذ ينظرون إلى الهيكل على أنه رمز الأُمة اليهودية، وأي مساس به هو مساس بكيان إسرائيل ذاته وبروحها. وحتى بعد قيامة المسيح من بين الأموات ظلَّت الأفكار القومية عالقة بذهن التلاميذ وسألوه: «يا ربُّ، هل في هذا الوقت تَرُدُّ المُلْك إلى إسرائيل» (أع 1: 6). وقد كانت إحدى التُّهَم التي وُجِّهَت إلى اسطفانوس عند قَتْله، أنه جَدَّف على الهيكل: «هذا الرجل لا يَفْتُرُ عن أن يتكلَّم تجديفـاً ضد هـذا الموضع (أي الهيكل) والنامـوس، لأننـا سمعناه يقـول: ”إنَّ يسوع الناصري هذا سينقُض هذا الموضع ويُغيِّر العوائد التي سلَّمنا إيَّاها موسى“» (أع 6: 14،13).

وكان دفاع اسطفانوس: «... ولكن سليمان بَنَى لـه بيتاً. لكنَّ العَليَّ لا يسكن في هياكـل مصنوعـة بالأيـادي، كما يقول النبي: ”السماء كُرسيٌّ لي، والأرض موطئ لقَدَمَيَّ. أيَّ بيت تبنون لي، يقول الرب، وأيٌّ هو مكان راحتي؟ أليست يدي صنعتْ هذه الأشياء كلَّها؟“... فلما سمعوا هـذا حَنِقوا بقلوبهم، وصَرُّوا بـأسنانهم عليه...» (أع 7: 47-50، 54).

وكانت هذه أول بادرة للاضطهاد السافر ضد ”شِيعة الناصريين“ مـن قِبَل اليهود، الذي ظلَّ يـزداد ويتفاقم إلى أن تُوِّج بإلقاء يعقوب أخي الرب أسقف أورشليم مـن فـوق جناح الهيكل ورَجْمه حتى الموت!

+ نعود الآن لنتحسَّس موقعنا من نبوَّة سِفْر الملوك الأول: «فنادَى نحو المذبح بكلام الربِّ: ”يا مذبح، يا مذبح، هكذا قال الرب: هوذا سيُولَد لبيت داود ابن اسمه يُوشِيَّا، ويذبح عليكَ كهنة المُرتفعات الذين يُوقِدون عليكَ (أي يُقدِّمون عليك الذبائح)، وتُحْرَق عليكَ عِظام الناس“» (1مل 13: 3).

واضحٌ أنَّ الكلام منطبق تماماً على المصير الأسود الـذي كـان ينتظر اليهود بعد صَلْب المسيح، ثم اضطهاد كنيسته بعد ميلادها. ففي سنة 66م، بدأت الحرب اليهودية ضد الاحتلال الروماني، وقد كان التحدِّي الأحمق لقوة روما العسكرية في ذلك الوقت معروفاً نهايته مُسبقاً! ومِـن ثمَّ فقد حـاول القائد الروماني تيطس (المعروف برزانتـه وميوله السلمية والإنسانية) بكل ما أُوتِيَ من صبر ودبلوماسية، إقناع الجانب المُتمرِّد بالتفاوض والتعقُّل، ولكنه قوبل بمزيد من العناد والتعنُّت، حتى أنَّ الثُّوَّار مـن مـذهب ”الغيورين“ كانوا يقتلون كل العقلاء من اليهود أنفسهم، مِمَّا أدَّى إلى حرب أهلية داخل أورشليم نفسها!

أمـا المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس، فقد كـان فرِّيسيّاً (ومعروف طبعاً موقف الفرِّيسيين من الرومان)؛ ولكن القائد تيطس، استخدمه كمُترجم في بادئ الأمر، ثم أصبح بعد ذلك طَرَفاً في المفاوضات، وانتهى به الأمر إلى الانحياز الكامل إلى جانب روما!

وقد كانت الحرب، في بادئ الأمر، حرب عصابـات، وكـانت معسكرات الجيش تتعرَّض لهجمات مُفاجئة من الثُّوَّار، وكان كثيرٌ منها أثناء الليل. ولمَّا نَفَدَ صبر تيطس، بدأ حصار أورشليم في أبريل سنة 70م بعد عيد الفصح مباشرة، وكانت أورشليم في ذلك الوقت مُكتظَّة بالحُجَّاج اليهود! فكان الجوع والوبأ يحصد الآلاف يومياً. وربما كان ذِكْر حادثة الأُم التي لجأت إلى شَيِّ ابنها كافياً لوصف الحال داخل أسوار أورشليم بما قلَّ ودلَّّ!

+ نعود الآن إلى النبوَّة: «وأعطى في ذلك اليوم علامةً قائلاً: ”هذه هي العلامة التي تكلَّم بها الربُّ: هوذا المذبح يَنشَقُّ ويُذْرَى الرماد الذي عليه“. فلما سمع الملك كلام رجل الله الذي نادَى نحو المذبح في بيت إيل، مَدَّ (الملك) يرُبعام يده عن المذبح قائلاً: ”أمسكوه“. فيَبِسَتْ يده التي مدَّها نحوه، ولم يستطع أن يَرُدَّها إليه! وانشقَّ المذبح وذُرِيَ الرماد مِن عليه حسب العلامة التي أعطاها رجل الله بكلام الربِّ» (1مل 13: 3-5).

واضحٌ أنَّ النبوَّة هنا تنطبق على اليهود الذين حاولوا إسكات فم اسطفانوس، الذي كان ينطق بكلام المسيح عـن مستقبل الهيكل ومستقبل العبادة التي صارت باطلة. فمحاولة إخراس صوت الحق (الذي يُمثِّله في النبوَّة رجل الله)، انتهت بشللٍ في يد يرُبعام، وخراب أورشليم والهيكل بمذبحه على يد تيطس (المرموز له بيوشيَّا في النبوَّة) في سنة 70م.

+ وفيما يخص الحادثة الأخيرة، يقول المؤرِّخ الكنسي Philip Schaff:

[وأخيراً دُوهِمَت قلعة أنطونيا (في أورشليم) ليلاً، وسقطتْ في شهر يوليو(2). ومهَّد ذلك لخراب الهيكل حيث قمة المأساة! وتوقَّفتْ الذبـائح اليومية (في الهيكل) في 17 يوليو، لأن الحاجة كانت ماسة إلى الأيدي المُحارِبة. وكـانت الذبيحة الأخيرة على مذبح المُحرقة وأكثرها دموية، هي ذَبْح آلاف اليهود الذين تكدَّسوا حوله](3).

(يتبع)

(1) Josephus, Antiquities, I, 13.
(2) الحصار بدأ في أبريل سنة 70م.
(3) From Schaff's History of the Church, PC Study Bible formated electronic database 2006 by Biblesoft, Inc.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis