17 توت / 27 سبتمبر
بمناسبة عيد الصليب المقدس


المسيح المصلوب



يقـول القديس بولس الرسـول في رسالته الأولى لكنيسة كورنثوس:

+ «لأن اليهود يسألون آيـةً، واليونانيين يطلبون حكمةً، ولكننا نحن نَكْرِزُ بالمسيح مصلوباً: لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة! وأمَّا للمدعوِّين: يهوداً ويونانيين، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله. لأن جهالة الله أحكم من الناس! وضعف الله أقوى من الناس!» (1كو 1: 22-25).

في سَعْينا الروحي كثيراً ما نواجه مُعوِّقات وعـراقيل تَحُول دون استمرارنـا في المسيرة الروحية، ويتولَّد في داخلنا إحساس بما قاله داود النبي: «يا ربُّ، لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضِّيق؟» (مز 10: 1)

ربمـا نحـسُّ في هـذه الأوقـات بـأنَّ الله محتجبٌ، بالرغم مـن أنـه موجود، إلاَّ أنَّ مقاليد الأمور وكأنها ليست في يـده، ربما نستشعر أنه ضعيف، أو أنَّ الشيطان أقوى منَّا، أو لعلَّه لا يأبه لحالنا أو أنه لا يرثي لضعفنا. فننتظر رِقَّة فلا نجد، ومُعزِّين فلا نجد، ونتساءل أين وعود الله الذي قال: «في كلِّ ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلَّصهم. بمحبته ورأفته هو فكَّهُم ورفعهم وحَمَلهم كلَّ الأيام القديمة» (إش 63: 9).

يزداد حزننـا، وتعلو صرخاتنـا، وتتضاعف حيرتنا، وتكثُر أسئلتنا: أين الله؟ ولِمَ لا يحسُّ بنا؟ ألعلَّه نائم؟ أو هو محتجبٌ عنَّا؟ ربما لا يحسُّ بنا! وإن كان يحسُّ بنا، فلماذا يتركنا؟!

في الحقيقة، عرفنا بالاختبار أنَّ الله في هـذه الأوقـات، ليس هو غائباً، ولا ضعيفاً، ولا نائماً؛ وإنما هو مصلوب! نعم، فالرب مصلوب!

المسيح مصلوب، وهذه خبرة جديدة لا يُعطيها المسيح إلاَّ للذين يسعى لخلاصهم بكلِّ طريقة، للمحبوبين والأخصَّاء.

يسيرٌ جداً على كلِّ نفس الإيمانُ بالمسيح الخالق والمُهَيمِن على كل قُوَى الطبيعة، مسيح المعجزات والقيامة؛ أما الإيمان بمسيح مصلوب مُقيَّد ومُسمَّر ومطعون، فعسيرٌ جداً على كلِّ نفس لها منطق العالم وحكمة هذا الدهر؛ إذ كيف يقدر أن يُخلِّص آخرين مَـن هو لا يقدر أن يُخلِّص نفسه: «خلَّص آخرين، وأمَّا نفسه فما يقدر أن يُخلِّصها» (مر 15: 31).

إن الإيمان بالمسيح ابن الله المتجسِّد، يتطلَّب أيضاً الإيمان به مصلوباً. فإن آمنتَ بمسيح غير قادر أن يُخلِّص نفسه (في نظر الناس)، فلا تطلب منه أن يُعينك على حَمْـل الصليب، ولا تتوقَّـع ذلك منه.

نَحِّي جانباً كلمات اللص الذي عن يسار المسيح المصلوب، والذي قال: «إنْ كنتَ أنت المسيح، فخلِّص نفسك وإيَّانا!» (لو 23: 39)، ذاك الذي كان يفتكر في الأرضيات، وكل همِّه أن ينزل عن الصليب ليأكل ويشرب ويسكر؛ وتمسَّك بقول اللص الآخر الذي آمن قائلاً: «اذكرني يا ربُّ متى جئتَ في ملكوتك» (لو 23: 42)، الذي وضع الملكوت نصب عينيه، منتظِراً مُخلِّصاً هو الرب يسوع المسيح، هذا الذي تمدحه الكنيسة في الساعة السادسة مـن يوم الجمعة العظيمة فيما يُعرَف بـ ”أمانة اللص“ (أو ”إيمان اللص“) مُردِّدة:

[ما رأيتَ المسيح الإله مُتجلِّياً على طور طابور، بل رأيته مُعلَّقاً على الإقرانيون.

أيهـا اللص الطوبـاوي: ماذا رأيتَ؟ وماذا أبصرتَ؟ حتى اعترفـتَ بـالمسيح المصلوب بالجسد ملك السماء وإله الكل].

المسيح نفسه يضطلع بدوره في تزكية الإيمان به مصلوباً باستحقاق صلاته أمام الآب التي تحمل يقين الاستجابة: «طلبتُ من أجلك لكي لا يَفْنَى إيمانُك» (لو 22: 32).

الإيمان بالمسيح المصلوب يحمل في داخله سرَّ النصرة على الموت، ويطوي بين ثناياه سرَّ الغلبة على العالم.

الإيمان بالمسيح المصلوب يحمل في طيَّاته سرَّ القيامة، ويُخبِّئ في أعماقه سرَّ الخليقة الجديدة.

الإيمان بالمسيح المصلوب مُكرَّمٌ جداً عند الآب والروح القدس، وهـو نبع تغذيـة مستمر للحياة الجديدة.

الإيمان بالمسيح المصلوب، الذي ينتج عن التمسُّك بالله أثناء التجربة، أعلى وأثمن من الإيمان كما نتصوَّره أحياناً أنه النجاة من التجربة.

الإيمان بـالمسيح المصلوب، الذي ينتج عـن التمسُّك بالله أثناء المرض، أسمى وأرفع من الإيمان المطلوب للشفاء.

التجربة (أي تجربة يتعرَّض لها أي إنسان)، هي موضع تحدٍّ بين مجد الله وبين ضعف إيماننا، ومطلوب على الإنسان أن يُحـدِّد لمَن تكـون النصرة؟؟

فالتذمُّر والتَّبطُّر والتبرُّم والشكوى، كل هذا يُرجِّح الكفَّة لحساب تعطُّل خلاصنا! أما الإيمان والصبر والشكر والفرح والتسبيح، فيعزِّز النصرة والمجد لحساب الله.

+ يا لعمق اتضاع الله الذي يَهَبني الفرصة لأنتصر لحسابه.

+ بالأمس انتصر هو لحسابي على صليبه؛

+ واليوم أَنتصِر أنا لحسابه على صليبي!

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis