أحاديث لم يسبق نشرها 



لقاء للأب متى المسكين مع مجموعة من رؤساء الأديرة البنديكتية بأفريقيا عام 1994م

+ (عن جريدة Aim التي تصدر عن: Alliance intermonastique).

+ بدأ الأب متى المسكين حديثه(1) بكلمة رحَّب فيها بضيوفه قائلاً:

إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بكم اليوم في ديرنـا. والواقع أنـه منذ العصر الرسولي وحتى وقتنا الحاضر ونحن (جميعاً) لا نَكُفُّ عن الصلاة، لكي يعود المسيحيون ويتلاقوا من جديد مع بعضهم البعض، وتصير الكنيسة واحدة مقدَّسة جامعة رسولية.

إنَّ مشواري الشخصي على طريق الشركة مع الكنيسة في العالم أجمع، لهُو أمرٌ يطول شرحه. فمنذ بكور حياتي الرهبانية عام 1948، تملَّكني إحساس داخلي بضرورة أن أحيا في شركة مع الكنيسة بأسرها؛ وقد استجاب الله لي بطريقةٍ مُدهشة. فبعد دخولي الدير بأيامٍ قليلة، أرسل الرب صديقاً قديماً من أورشليم حاملاً هدية لي من طرف راهب إنجليزي ينتمي إلى الكنيسة الروسية. وكـانت الهديـة عبارة عـن مجموعة كتابات لقدِّيسين روس غير معروفين لنا في ذلك الحين (في الكنيسة القبطية)، وكان الأب الراهب يمتلك عدَّة نُسَخ منها وأرسل لي نسخة كهدية.

بدأتُ أُترجم هذه الكتابات شيئاً فشيئاً إلى اللغة العربية، بالإضافة إلى أقوال آبـاء البرية وبعض آباء الكنيسة. كنتُ في ذلك الوقت أعيش مُنفرداً وحدي مع المسيح، وكانت عادتي أن أقضي الليل بطوله ساهـراً في الصلاة. فكنتُ أُتـرجم فقرة مـن هـذه الكتابات، ثم أقف منتصباً لأُصلِّي بما ترجمتُ. وفي نفس الوقت الذي كنتُ أُترجم فيه هـذه النصوص، كنتُ أجمع أيضاً آيـاتٍ مـن الإنجيل تتكلَّم عن نفس المعنى.

فكانت النتيجة النهائية لهذا العمل، إصدار مُجلَّد باللغة العربية تبلغ صفحاته حوالي 800 صفحـة (يُسمَّى: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“)، تُرجم فيما بعد إلى اللغة الإنجليزية.

وفي الحقيقة كنتُ أتكلَّم أمام الله مثلما أتكلَّم الآن أمامكم، لأني أومِـن إيمانـاً راسخاً بكلام مُعلِّمنا بطرس الرسول: «مولودين ثانيةً، لا من زرع يَفْنَى، بل مِمَّا لا يَفْنَى، بكلمة الله الحيَّة الباقية إلى الأبـد» (1بط 1: 23)، وأنـا أيضاً وُلِدْتُ بكلمة الله. فكلمة الله مكتوبة وموحَى بها من الروح القدس؛ لذلك كل مَن يقرأها بإخلاصٍ وانفتاح قلب، لابد وأن يدخل حالاً في اتِّصالٍ مباشر مع الروح القدس.

معروفٌ أنَّ الميلاد الجسدي للإنسان يحدث عادةً مرة واحدة؛ أما الميلاد الروحاني فإنه يحدث على مدى رحلة الزمن، ويتحقَّق كنتيجة للقيام بكَمٍّ من الأعمال المتوالية التي تمتدُّ (بالإنسان) حتى تصل به إلى الأبدية؛ ذلك لأن كل مرة نقرأ فيها الإنجيل نتجدَّد بالكلمة. على أنَّ قراءة الوحي يمكن أن تأخذ أشكالاً كثيرة. فقد تكون مجرَّد قراءة بسيطة، أو حفظاً عن ظهر قلب، أو سعياً واجتهاداً لفهم أغوارها. لكن مع هذا، تظل هناك طريقة أخرى مختلفة تماماً لقراءة الكلمة، أَلا وهي القراءة بغرض الرغبة في الميلاد الثاني (التي تكلَّم عنها القديس بطرس). وأنا أودُّ أن أتكلَّم عن هذا النوع الأخير من القراءة، لأنه موضوع خبرتي (الخاصة)، كما أنه يحمل الرسالة التي أُريد أن أنقلها لكم، والتي من أجلها جاء بكم الرب إلى هذا المكان.

أبدأ بقراءة الآية مرة، ومرتين، وثلاث مرات، حتى أشعر أن روحي بدأت تدخل في مجالٍ ما، ثم أعود وأقرأها من جديد ولكن بتمهُّل شديد؛ وهكذا أصل إلى المفهوم الروحي لهذه الآية. وفي اللحظة التي يتمُّ فيها تلاقي النفس البشرية مع المعنى الروحي للآية، هنا يحدث الميلاد الجديد. وهكذا، آية بعد آية، وأصحاح وراء أصحاح، تكتمل صورة المفهوم الروحي بالمعاني الروحية الجديدة التي تتوارد على الذهن يوماً بعد يوم. وهكذا يبدأ نور الحياة الجديدة يُشرق في القلب.

ولا شكَّ أنَّ الإنجيل هو الباب الوحيد المفتوح أمامنا منذ الآن للدخول إلى الحياة الأبدية. ولذلك قال المسيح: «ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21)، وبالتالي فنحن ننفتح على ملكوت الله عَبْر هذا الباب، أي الإنجيل؛ وبدونه يستحيل علينا أن ننفتح على الحياة الأبدية، بل وعلى الله نفسه.

وقـد يبدو (للبعض) أنَّ إنجيـل القديس متى - على سبيل المثال - يختلف تماماً عن إنجيل القديس مرقس وإنجيل القديس لوقا وإنجيل القديس يوحنا. لكن كلمة الله الحيَّة مُدوَّنة بصُور مختلفة في الإنجيل لكي يستطيع الإنسان أن يصل إليها بطُرُق متنوعة.

عندما بدأتُ أكتب تفسير إنجيل القديس يوحنا والعديد من الرسائل، أخذتني دهشة عظيمة عندما اكتشفتُ كيف أنَّ المعاني (الروحيـة) المختلفـة المُعبَّر عنها في هـذه الأسفار المختلفة، تتواصل وتتلاقى مع بعضها البعض بطريقةٍ إلهية غاية في الدقة والإحكام. وذلك بالرغم من تبايُن العبارات المستخدمة (للتعبير عنها). فعندما يدخل الإنسان في شركة مـع الروح القدس الذي كتب هـذه الأسفار المختلفة، لن يجد صعوبة البتة في فهم أيَّة آية من آيات الكتاب المقدس بأكمله.

+ والآن يمكننا أن نتبيَّن طريقتين تعمل بهما الكلمة:

- الطريقة الأولى ابتدأها الرب مع التلاميذ، وما يزال يستخدمها حتى يومنا الحاضر. وهي تقـوم على أساس أنَّ روح الله (الروح القدس) يأتي ويحلُّ بمواهبه في الإنسان. وهذه الطريقة لا تحتاج إلى تدريب أو تعليم، وإنما مجردَّ صلاة حارة بالروح القدس. فالذي يقبل الروح القدس يبدأ يتكلَّم بـالروح، أو ينـال موهبـة شفاء الأمراض، أو الكرازة بكلمة الله، وقد يُصاحِب ذلك حدوث بعض المعجزات، الأمر الذي يُشدِّد إيمان آلاف الحاضرين. والكنائس اختبرت هذه الطريقة في كلِّ العصور.

وهذا ما فعله المسيح بنفسه، إذ لم يقدر أن يمنع نفسه من عمل المعجزات. فقد غضب مرةً وقال: «لا تؤمنون إنْ لم تَرَوْا آياتٍ وعجائبَ» (يو 4: 48). ومع هذا صَنَعَ الآية وشفى ابن خادم الملك. لماذا؟ لأن هذا هو حال الإنسان الذي ما أبعد طُرُق الله عليه عن الاستقصاء. كما أنَّ كلمة الله تتجاوز فهم الإنسان، لكن متى حدثت المعجزة، فحينئذ نؤمن بالكلمة.

هذا عن الطريقة الأولى التي تعمل بها كلمة الله، والتي مارسها المسيح بنفسه ثم سلَّمها للرسل، كمـا يتضح مـن كلمته الأخـيرة لهم قبل صعوده إلى السماء؛ حينما أرسل تـلاميذه ليكـرزوا بـالكلمة، ويصنعوا الآيات، ويُقيموا الموتى.

- غير أنَّ هذه الطريقة ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستخدمها الروح القدس. فلعلكم تذكرون كلام القديس بطرس: «مولودين ثانية... بكلمة الله». والمقصود هنا عملية تجديد أيضاً، ولكنه تجديد يتمُّ هذه المرَّة، ليس عن طريق المواهب، وإنما بفعل الكلمة ذاتها المُوجَّهة لي شخصياً والتي أستمع إليها.

وهكذا عَوْدٌ على ذي بدء لكي نَصِلَ من جديد لِمَا سبق وتكلَّمنا عنه في بداية هذا اللقاء: إنَّ رجائي وتوسُّلي الشديد لكم أن تُكرِّسوا وقتاً كافياً مُقدَّساً لقراءة الكتاب المقدس، واضعين في قلوبكم هـذا الاعتقاد الداخلي (الراسخ) أنكم على موعدٍ للدخول في شركة مباشرة مع الروح القدس بواسطة كلمة الله.

يلزمنا أن نقرأ الإنجيل بهدوء وبتمهُّل، رافعين قلوبنا بالصلاة لكي يُعطي الروح القدس للكلمة المفهوم الروحي الذي يريده هو لها، وليس الذي نريـده نحـن. وفي الحقيقة، قـد يحدث أن يقرأ شخصان نفس الفصل الواحد من الكتاب المقدَّس، وكلٌّ منهما على حِدَة وبمعزلٍ عن الآخر؛ ومع ذلك يُعطي الروح للواحد منهما حرارة شديدة للخدمة والتبشير، بينما يُعطي للآخر رغبة في الوحدة والانفراد للصلاة لكي يمتلئ من الروح القدس. وهكذا فنحن نقرأ الإنجيل لكي نعرف مشيئة الله من جهتنا. وهنا أستميحكم عُذراً في الإشارة إلى نقطةٍ خطيرة كثيراً ما نقع فيها، وهي أننا قد نقرأ الإنجيل بغرض إعداد العظات أو من أجل إنجاح الخدمة والكرازة؛ ولكن هذا لا يتوافق أبداً مع الحقِّ، لأن السيد الرب نفسه أوصانا ألاَّ نهتم بما نقول، لأن «روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم» (مت 10: 20). وأنا نفسي أتكلَّم معكم الآن مدفوعاً بالروح القدس.

عندما نُسلِّم أنفسنا لكلمة الله لكي يُرشدنا الروح (القدس) لِمَا ينبغي أن نعمله، عندئذ يُعطينا الروح قـوةً فائقة ويأخـذ على عـاتقه مسئولية إرشادنا لِمَا يجب أن نقوله أو نفعله، وحتى إذا أخطأنا فللحال يكشف لنا الروح طريق تصحيح أنفسنا. إذا كان الروح القدس هو قائدنا في كلِّ كلمة نقولها، لا نعود نشعر بالتعب حتى ولو صرفنا الساعات الطويلة في الخدمة والكرازة، لأن الذي أوحى إلينا بعملٍ ما هو قادرٌ أن يَهَبَنَا قـوةً لإنجازه؛ بـل ويسهر بنفسه على أن تصل الكلمة وتُقْبَل من سامعيها. وهذا الأمر هو حجر الزاوية في الكرازة. فهل تتفقون معي على ذلك؟ وهل تعتبرون هذا الأمر مُمكناً وميسوراً؟!

(+( (

+ وبعد أن أنهى الأب متى المسكين كلمته، أعطى فرصة لضيوفه للتوجُّه إليه بأسئلتهم:

+ أحد الضيوف: يتقدَّم بالشكر للأب متى المسكين على هذه الرسالة التي أوضحت له كيف يمكن أن يتقدَّم في حياته الروحية ويُنعشها.

+ ضيف آخر يتساءل: نحن نُقابل مشكلات كثيرة في عالمنا الحاضر الذي يزداد اضطراباً وقلقاً يوماً بعد يوم، وهذه المشاكل تطغى على أرواحنا، خاصة وأننا نَشْغَل مواقع المسئولية في مجامعنا الرهبانية، فبماذا تنصحنا قدسكم؟

+ الأب متى المسكين: ليس بإمكاننا أن نمنع حركة التطوُّر الحادثة (اليوم) في العالم، لأنها جاذبة والكل منجرفٌ بها، بما في ذلك رؤساؤكم بـل والفاتيكان (نفسه). وبالتالي ليس هناك حـلٌّ سوى أن نُكيِّف أنفسنا بحيث نتحرَّك معها روحياً بنفس السرعة.

هذه الخطوة غاية في الصعوبة عملياً، لأنه في الحقيقة يستحيل على الإنسان أن يُغيِّر إيقاعه بنفسه ليتوافق مع التغيير الحادث في العالم. لكن إنسان الله قد أوجده الله في العالم، فإذا كان العالم الذي وَضَعنا فيه الله يتطـوَّر بسرعة جنونية، فبالتالي تقع مسئولية توافقنا مـع هـذا الرِّتْم rhythm (الإيقاع) الجديـد على عاتق الله ذاته. وأنـا نفسي شاهـدٌ على ذلك، فقد كنتُ أعيش متوحِّداً في مغارة منقطعاً عن العالم تماماً، تاركاً نفسي بين يدَي الله كي يُشكِّلني كما يشاء، وكنتُ سعيداً بهذا النمط من الحياة ولا أكفُّ عن تسبيح الله وشُكره؛ ثم فجأة نقلتني يـد الله وأرسلتني لأكون وكيلاً للأب البطريرك بمدينة الإسكندرية. وقتها كنتُ راهباً بسيطاً يقرأ الإنجيل بهـدوء، وكنتُ أعتقد أني سوف أقضي حياتي كلها حتى الموت على هذا الحال. لكن بين ليلةٍ وضُحاها وجَدْتَني مسئولاً عـن 24 كـاهناً برعيتهم البالغ عددها نحو أكثر من مليون مسيحي.

صلَّيتُ ودون أن «أستَشِر لحماً ودماً» (غل 1: 16)، أعدتُ تنظيم كنيسة الإسكندرية. على أنَّ كـل مـا أمكنني إنجازه في هذه المسئولية الجديدة، كانت جذوره مغروسة في قلبي كراهب. فالروح القدس الذي سلَّمتُ نفسي له في مغارتي في الجبل، كان هو نفس الروح القدس المسئول عن خدمتي في الإسكندرية.

تذكَّروا جيداً أنه لا ينبغي أن نحصر أنفسنا في وِجهة نظر مُعيَّنة، ولكن ينبغي أن نكون مستعدِّين لقبول الاتِّساع الذي يُعطيه الروح القدس لحياتنا، لأنه هو وحده الذي يتحمَّل مسئولية هذا الاتساع، ولكن علينا فقط أن نكون طيِّعين لعمل الروح.

وبالإجمال، نحن المولودين بالكلمة بواسطة الروح القدس، يلزمنا أن نبقى دائماً على أُهْبة الاستعداد تحت يد الروح القدس، لعمل كل ما يُريده منَّا حتى ولو كان ذلك يفوق إمكاناتنا؛ لأننا سوف ننال معونته وتعضيده. وديركم الذي أُخِذَ برِتْم rhythm (إيقاع) هـذا العالم المتسارع، يلزم أن يكون طيِّعاً للروح القدس، لكي يُعطي الروح القدس بغِنًى نفس هـذا الإيقـاع للحياة الروحية ولكل الذين يطلبونه.

+ سؤال من ضيف آخر: لقد تعلَّمتُ أن أدرس الكتاب المقدَّس جيداً بطريقة التحقيق والتفسير، مِمَّا يُصعِّب عليَّ أن أتناوله بنظرة روحية بسيطة. فماذا أفعل؟ فإن كان لديكم نصيحة تُسديها إليَّ، أكونُ لكم من الشاكرين؟

+ الأب متى: (يُجـيب بعد أن فكَّـر مـليّاً إلى لحظاتٍ): ”الروح القدس قادرٌ أن يرفع عن كاهلك كـل مـا يُثقِّل على نفسك“.

دَعني أُعطيك هذا المثال: هناك أمرٌ بديع حقّاً تتبنَّاه الكنيسـة الكاثوليكيـة، أَلا وهـو الطاعة للرئيس. ولعلَّكم تتذكَّرون قصة القديسة تريزا التي من ليزيو Lisieux، عندما تجاسرت وطلبت من البابا - خلال مقابلته في روما - أن يمنحها استثناءً من شرط السنِّ حتى تتمكن من دخول الدير بالرغم من صِغَر سنِّها. فقال لها البابا: ”قولي ذلك لرئيستكِ“. فأجابته قائلة: ”إذا قُلتَ قداستك كلمة، فسوف توافق الرئيسة على الفور“! وهكذا استطاعت أن تغلب البابا الذي اضطر أن يمنحها موافقته.

فالروح يعمل حتى ولو كان تحت ضغط أو إلحاح من رئيس، لأنه قادرٌ أن يندفق ويتفجَّر مثل ينبوع الماء. الروح لا يُقهَر، فعندما نزل المسيح إلى جوف القبر مدفوعاً من اتضاعه، استطاع الروح القدس أن يُقيمه (بسهولة) منه.

+ سؤال من زائر آخر: ما هو الدور الذي يمكن أن يؤدِّيه الرهبان مـن أجل تقدُّم الحوار المسكوني؟

+ الأب متى: أعتقد أنَّ للرهبان دوراً كبيراً، ليس فقط على مستوى التقارُب بين الكنائس، وإنما مـن أجـل وحدتها بحسب القصد الإلهي. انظروا ما يقوله النبي إشعياء: «على أسواركِ، يا أورشليم، أقمتُ حُرَّاساً لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام» (إش 62: 6). مسئولية الراهب الأولى هي الكنيسة، تماماً كمسئولية الأب عن ابنه المريض؛ فإذا تصامم (وكأنـه أصمُّ) الأب عـن مرض ابنه، فالولد محتَمَل جداً أن يموت!

تُرَى مَن هم السهارَى! ومَن هم الذين يُصلُّون الليل والنهار، سوى الرهبان! فالملوك والرؤساء، لا يهتمون على الإطلاق بذلك؛ والبابا مُحمَّلٌ فوق الطاقة بالمسئوليات (الاهتمامات). لـذا فالصلاة هي عملنا نحـن الرهبان. وهـل يصعب على الراهـب أن يقضي الليل كله في الصلاة، ثم يستريح قليلاً بعد ذلك بالنهار؟ إذا كان الرب يسمع «للصارخين إليه نهاراً وليلاً» (لو 18: 7)، «فكَم بالحري الآب الذي من السماء يُعطي الروح القدس للذين يسألونه» (لو 11: 13).

لابد وأن نطلب من الله، وإلاَّ فكيف يمكنه أن يُعطي؟ لقد قـال لنا بكـل وضوح: «اسألوا تُعطَوْا...» (مت 7: 7)، إنه فِعْل أمر! ثم إنَّ الرب قال لتلاميذه: «إلى الآن لم تطلبوا شيئاً» (يو 16: 24). لكن يبدو أنَّ التلاميذ كانوا يُريدون أن يقولوا له: ”يا ربُّ، أنت ترى بنفسك متاعبنا. إذن، فلا حاجة لنا أن نسألك“!

إنَّ أكبر خطأ في عصرنا هذا، أنَّ كل واحد منَّا يُلقي بـالمسئولية على الآخريـن. فـالصلاة الحارة لا تأتي إلاَّ من أصحاب النفوس القوية. ولذا فنحن مسئولون عن الصلاة من أجل البابا نفسه، وأيضاً من أجل رؤسائنا الروحيين. ففي الصلاة التي علَّمنا إيَّاها الرب، يقول: «لا تُدخلنا في تجربة...» (لو 11: 4). فهل الآب محتاجٌ لأن نقول له ذلك؟ نعم، ينبغي أن نطلب منه هذا، وإلاَّ سيكون قد فاتنا الكثير. الله وَضَعَنا في العالم بعد أن زوَّدنا بقدراتٍ عظيمة، فقد أعطانا روحه القدوس الذي يُمكننا به أن نُحرِّك العالم.

+ سؤال من ضيف آخر: في بعض الأحيان يكون الصوم صعباً في أديرتنا، لأن الوجبات مُرتَّبة في الغالب لتكون ثلاث مرات في اليوم؟

+ الأب متى: الإنسان الروحي لا يعجز على الإطلاق عن استحداث طُرُق للصوم، حتى ولو كان لزاماً عليه أن يشترك في وجباتٍ ثلاث؛ لأنه يستطيع بسهولة جداً أن يمتنع عن أشياء كثيرة. وهـذا يُعتَبَر في حدِّ ذاته أكثر مـن نُسك، لأن الشهية تتحرَّك وتُستثار في الإنسان لدى رؤيته للطعام!

الصوم لا يعني فقط الامتناع عن الأكل، ولكن أن يغلب (يقهر) الإنسان شهوة جسـده. وهـذه يمكننا أن نُمارسها بطُرُقٍ متنوعة.

(انتهى حديث الأب متى المسكين)

(1) هـذا اللقاء تمَّ بـين الأب متى المسكين – الأب الروحي لدير القديس أنبا مقار – ومجموعة من رؤساء أديرة بنديكتية إفريقية في الثاني عشر من شهر مايو عام 1994م.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis