تأملات روحية



«يوجد رجاء»
(عزرا 10: 2)



+ في إبداع قصصي مُميَّز وشيِّق وفريد، يسرد لنا القديس لوقـا الطبيب الحبيب، قصـة ظهور المسيح لتلميذَي عمواس بعد قيامته من بين الأموات، أثناء عودتهم إلى ديارهم على أثر ثلاث سنين ضاعـت مـن شبابهم - بحسب ظنِّهم - قضوها مع يسوع الناصري، كارز الجليل، بعد تبعيَّة صادقـة لـه. والرجوع إلى عمواس هـو منحدرٌ روحي خطير مرَّ عليه الكثيرون. ولكيلا يكون حديثنا مُبهماً، هَلُمَّ نتتبَّع القصة من أوَّلها، فهي قصَّتي وقصَّتك، مـع تلميحٍ خفيف على قصـة تلميذَي عمواس.

+ حقّاً، مـا أجمل العِشرة مـع الربِّ، وما أحلى المعيَّة مـع عمانوئيل. كثيرون عاشوا مع الربِّ، عاشوا حياة روحانية مقدَّسة، عاشوا معه في أُورشليم – التي تُشير للسماء – فرحوا بوجودهم معه، أكلوا وشربوا معه، تلامسوا معه عن قُرْب، حتى لمسوا هُدْب ثوبه، خفق قلبُهم رقصاً من سماع تعاليمه، استُنيروا، ذاقوا الموهبة السماوية، صاروا شركاء الروح القدس، ذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتي، آمنوا بكلامه، غنَّوْا بتسبيحه، جَرَت مـن مآقيهم دموع غزيـرة لمجرَّد رؤيـاه، اختبروه، أبصروا أيضاً فِعْله، نـذروا نـذوراً، ذبحوا ذبائـح (روحية)، وتعاهدوا بأن يعيشوا له الحياة برُمَّتها.

ولكن لأن المسيرة مع الرب طويلة، والطريق ليس دائماً مفروشاً بالورود؛ فهناك أوقات تَجَلٍّ وأوقات تَخَلٍّ، قوَّة وضعف، هوان ومجد. فإنهم، إمَّا بسبب ضيق أو خوف أو اضطهاد أو ملل أو ضجر أو عثرة أو صليب، أو لـذَّة أو خطية أو شهوة أو مال أو محبة للعالم، أو حتى مجرَّد كلام يبدو صعباً يقوله الرب؛ يعثرون ويتذمَّرون مثل كثيرين من تلاميذه (راجع يو 6: 61،60)، الذين «رجع كثيرون مـن تـلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه» (يو 6: 66).

بعض التلاميذ ذهب ليتصيَّد، وبعضهم اختبأ. أحدهم شكَّ، الآخر أنكر. وكثيرون خانوا وباعوا و«ارتَدُّوا وغَدَروا، انحرفوا كقَوس مُخطئة» (مز 78: 57). والغالبية خاب أملهم في الربِّ، وكمل عليهم قول الكتاب: «هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يُكَمِّل» (لو 14: 30). وآخرون رجعوا إلى بيوتهم معتبرين خبرتهم مع الربِّ حُلماً جميلاً، أو رؤيا لذيذة، أذابها الصباح وبخَّرتها أشعة الشمس: «وإذا اثنان منهم كانا مُنطلِقَيْن في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غَلْوَةً، اسمها ”عِمْوَاس“» (لو 24: 14،13).

+ لكن حتى وإن كانت أعيننا قد أُمسِكَت عن معرفته، إلاَّ أنه صوَّرنا قبلما خرجنا من الرَّحِم، ومعرفته لنا عجيبـة بحـقٍّ، فـوقنا ارتفعت، لا نستطيع أن نُدركها. وإنْ كانت آذاننا لم تَعُد تُميِّز صوته، إلاَّ أنه يدعونا بأسمائنا. وإنْ كنَّا غير أُمناء، فالمسيح هو هو دائماً وأبداً يبقى أميناً. فعندما يرانا على هذه الحال، يرقُّ قلبه ويقترب منَّا ويمشي معنا، حتى وإنْ كنَّا لا نـدري أنـه الرب. وإن بَدَتْ المسيرة مع الرب أنها قد توقَّفت مـن جهتنا، إلاَّ أنها لم تتوقَّف مـن جهة الرب: «وفيما همـا يتكلَّمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه وكـان يمشي معهما. ولكن أُمْسِكَتْ أعيُنهما عن معرفته» (لو 24: 16،15).

+ إذا زاد إحساسُنا بغياب المسيح، تستشري العبوسة في مُحيَّانـا، وتفرُّ السعادة مـن قلوبنا، وتتملَّكنا الحَيْرة. في ذلك الوقـت، يتفاضَل عمل الرب معنا جـداً، بـأن يضع أمـامنا تساؤلات ليستكشف قـلوبنـا ويُحـرِّك مشاعرنـا نحوه، وليستعلِن لنا حقيقة نفسه، وليهدم كلَّ ظنٍّ وعلوٍ يرتفع ضد معرفته، وينزع كلَّ شكوكنا من جهته. أليس هـو الذي سأل: «مَن يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟... وأنتم مَن تقولون؟» (مت 16: 15،3)، وسـأل أيضاً قـائلاً: «ماذا تظنُّون في المسيح؟ ابنُ مَـن هـو؟» (مت 22: 42). فكل تساؤل له كان بهدف استعلان نفسه أكثر فأكثر، فهو القائل: «أُظْهِرُ له ذاتي» (يو 14: 21). لذا، أيها الحبيب، حتى وإن كنتَ لا تشعر بحضور الربِّ، لا تتوقَّف لأن الربَّ نفسه سـائرٌ معك: «فقال لهما: ”ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسَيْن؟“ فأجاب أحدهما، الذي اسمُه كليوبـاس، وقال له: ”هـل أنت مُتغرِّب وحدك في أُورشليم ولم تَعْلَم الأمور التي حدثت فيها في هـذه الأيام؟“ فقال لهما: ”وما هي؟“ فقالا: ”المُختصَّة بيسوع الناصري، الذي كـان إنسانـاً نبيّاً مُقتَدِراً في الفعل والقول أمـام الله وجميع الشعب“» (لو 24: 17-19).

+ أمَّا أول وسيلة يستعلِن بها المسيحُ ذاته، فهي كلمته. فقد قيل عنه إنه: «يُخبر يعقوب بكلمته» (مز 147: 19). صدِّقني، أيها الحبيب، أنه مهما كنَّا أغبياء وبطيئي القلوب في الإيمان بالمكتوب - كتلميذَي عمواس – فالربُّ يسوع بنفسه يتكفَّل بتفسير جميع الأمور المختصَّة به في جميع الكُتُب (لو 24: 27)، لأن «شهادة يسوع هي روح النبوَّة» (رؤ 19: 10). تأمَّل وَصْف إرميا النبي له: «مَدَّ قَوْسَه ونصبني كغَرَضٍ للسَّهْم. أَدْخَلَ في كُليتَيَّ نِبَال جَعْبَتِهِ» (مرا 3: 13،12). وما هي السهام؟ يكشفها حبقوق فيقول: «سُباعياتُ سِهَامٍ كَلِمَتُكَ» (حب 3: 9)، «كلمة الله حيَّةٌ وفَعَّالةٌ وأمضى مـن كـلِّ سيف ذي حَدَّيْن، وخارقـة إلى مَفْرَق النفس والـروح والمفاصل والمِخَاخ، ومُمَيِّزةٌ أفكـارَ القلب ونيَّاتـه» (عب 4: 12). كلمـة الـرب كنـارٍ تُطهِّـر القلب «وكمطرقة تُحطِّم الصخر» (إر 23: 29)، مهما كان القلب صَلْداً.

والآن، أيها الحبيب، نحن عندنـا ليس فقط الكلمـة النبويَّـة (العهد القديم)، بـل الله الكلمة المُتجسِّد نفسه مُستَعْلَن كُلِّيةً في الإنجيل. فلتكُن عندنا الرؤيـة المسيَّانيـة في قراءتنا للكتاب، ولنفتش عـن المسيح في مُطالعتنـا لـلإنجيل. فـالمسيح أودَع الروح القدس في قلوبنا، لكي يُعلِّمنا كلَّ شيء، ويُرشدنا إلى جميع الحقِّ، ويأخذ مِمَّا للمسيح ويُخبرنا: «فقال لهما: ”أيها الغبيَّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلَّم به الأنبياء، أَمَا كان ينبغي أنَّ المسيح يتألَّم بهذا ويدخُـل إلى مجده؟“ ثم ابتدأ مـن موسى ومن جميع الأنبياء يُفسِّر لهمـا الأمـور المُختصَّة بـه في جميع الكُتُب» (لو 24: 25-27).

+ والوسيلة الثانية التي يستخدمها المسيح ليكشف بها ذاته لنا – بعدما ألهب قلوبنا بكلمته – هي أَلاَّ يفرض نفسه علينا؛ بـل يتظاهر بأنـه منطلق إلى مكـانٍ أبعد. هـذا أيضاً رآه إرميا ووصفه هكذا: «لماذا تكون كغريبٍ في الأرض، وكمُسافـر يميل ليبيت؟ لماذا تكون كإنسانٍ قد تحيَّر، كجبَّار لا يستطيع أنْ يُخلِّص؟ وأنت في وسطنا يـا ربُّ، وقد دُعِينا باسمك. لا تترُكنا!» (إر 14: 9،8).

ودورنـا ينحصر في الإلحاح واللجاجـة، بل وإلـزام المسيح بالمكوث والمبيت معنا، وهـذا يتحقَّق بالصلاة اللحوحة اللجوجة. فالمسيح الذي يُحوِّل خدَّه لمَن يلطمه، أَلا يميل قلبه لكـلِّ مَن يدعوه! فقد قيل عنه سابقاً إنه «دخل ليبيت عند رجلٍ خاطئ» (لو 19: 7). وهو الذي ألمح بأنه ”واقفٌ على الباب ويقرع. إنْ سمع أحدٌ صوته وفَتَحَ الباب، يدخل إليه ويتعشَّى معه وهو معه“ (انظر رؤ 3: 20).

فالمسيح يُقدِّم فِعل الشرط ”إنْ سمع“، وعلى الإنسان جواب الشرط ”فَتَحَ الباب“، والنتيجة هي المعيَّة والمكوث مع الربِّ: «وهو تظاهَرَ كأنه مُنطلِقٌ إلى مكانٍ أبعد. فألزماه قائلَيْن: ”امْكُثْ معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار“. فدخل ليمكُثَ معهما» (لو 24: 29،28).

+ أمَّا الوسيلة الثالثة التي بها يكشف لنا المسيح ذاتـه، فهي الإفخارسـتيا. وهي كمـال الاستعلان الإلهي. فـالإفخارستيا هي حضـور المسيح السرِّي.

فالربُّ نفسه هو الكاهن وهو الذبيحة، وهو بيديه يكسر جسده ويُناولنا، ويملأ الكأس من جنبه المفتوح ويسقينا؛ فنتذكَّر حبَّه الذي ظهر في جسده المكسور ودمه المسفوك، وهـذا كفيلٌ بأن يرفع قلوبنا، ليس فقط نحو الجلجثة حيث صُلِبَ ربنا؛ بـل نحـو السماء، نحو الأبدية.

المسـيح في الإفخارسـتيا - بحسـب تعبير القديس كـيرلس الكبير - ”يغرس نفسـه فينـا باتَّحادٍ لا يقبل الانفصال. والإفخارستيا هي كمال اتِّحادنا ووحدتنا بالربِّ وبأعضاء جسده“: «أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحدٍ» (يو 17: 23)، «مَن التصق بالربِّ فهو روحٌ واحدٌ» (1كو 6: 17)، «مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبُت فيَّ وأنا فيه» (يو 6: 56).

بعد حلول المسيح في القلب، يكون الرب داخلنا، ونحسُّ بوجوده فينا، ولا نتطلَّع أن نراه خارجنا وهو مـن نفسه يختفي: «فـلما اتَّكأ معهما، أخذ خُبزاً وبارَك وكسَّر وناولهما، فانفتحتْ أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما» (لو 24: 31،30).

+ إذاً، إنْ كانت قلوبنا، أيها الأحبَّاء، فتيلة مُدخِّنة - كتلميذَي عمواس - فالربُّ قادرٌ بنعمته، بكلامه وحضوره، وسرِّ حبِّه؛ أن يُلهب قلوبنا بمحبته، فنصير – بحسب تعبير أنبا بامو - ”كلنا كالنار“. وهـذا هـو هدف مجيء الرب: «جئتُ لأُلقـي نـاراً على الأرض، فمـاذا أُريـد لـو اضطرمَتْ؟» (لو 12: 49)

إذا مَلَكَ في قلوبنا حُبُّ المسيح، وأحرقت ناره كلَّ شوائب خطايانا، إذا عرفنا المكتوب، واستُعلِن لنا فيه ابن الله؛ حينئذ لن نطيق الحياة في عمواس سـاعة واحـدة. مهما كابَدنا مـن مشقَّات في الطريق، ومهما كـان الليل قـد أَرخَى سُدُوله، ومهما كان الظلام بـاقياً؛ حينئذ نُثبِّت وجـوهنا لننطلق إلى أُورشليم في نفس الساعـة، ونُشارِك بـاقي أعضاء الجسد خبرتنا مـع الربِّ: «فقال بعضهما لبعضٍ: ”ألم يكُن قلبُنا مُلتهباً فينا إذ كـان يُكلِّمنا في الطريـق ويُوضِحُ لنا الكُتُب؟“ فقامـا في تلك الساعـة ورجعـا إلى أُورشليم، ووجـدا الأحد عشـر مُجتمعين، هـم والذيـن معهـم» (لو 24: 33،32).

+ أخيراً، أيها الحبيب، افـرح في الـرب، لأن كـلَّ هـذه البركات مُسْتَعلَنَة لنا في المسيح القائم:

- قيامـة المسيح تدحض كل ارتداد إلى الوراء: «وأمَّـا نحن فلسنا مـن الارتداد للهلاك، بـل مـن الإيمان لاقتناء النفس» (عـب 10: 39)، «أنا أَشْفي ارتـدادهم. أُحبُّهم فضلاً» (هو 4: 14).

- قيامة المسيح، هي سـرُّ استعلان وتقصِّي المكتوب. ففي المسيح القائم تكمُل الكُتُب: «أنـه قـام في اليوم الثالث حسب الكُتُب» (1كو 15: 4).

- قيامة المسيح، هي شرارة الروح القدس التي يُشعِل بها كـل القلوب الباردة والغبيَّة والبطيئة في الإيمان بالمكتوب.

- قيامة المسيح، هي سـرُّ قوَّة الإفخارستيا. فنحن في الإفخارستيا نتناول المسيح القائم، فنتشرَّب منه قوَّة الغلبة على الموت والعالم والخطيئـة والشيطان، فهـو «خرج غالباً (بنفسه)، ولكي يغلب (بنا)» (رؤ 6: 2)، «شُكراً لله الذي يُعطينا الغَلَبَة بربِّنا يسوع المسيح» (1كو 15: 57).

- قيامـة المسـيح، هـي سـبيلنا لحيـاة مُستقيمة تبـدأ وتنتهي في أُورشليم مهمـا مررنا على عمواس.

- قيامة المسيح، هي بنك التبريـر، الذي منه نصرف كـل وقـت - على حسـاب دم المسيح - غُفرانـاً ونعمةً وخلاصاً وقداسةً وبِرّاً، فنكون بـلا لوم أمام الآب السماوي: «وأُقيم لأجل تبريرنا» (رو 4: 25).

- قيامـة المسيح، هي تريـاق الأبدية وسِرُّ الخلود. فـالخروف في السماء، رغم أنـه مذبـوح، لكنه قـائمٌ: «الحيُّ. وكنتُ ميتاً، وهـا أنـا حـيٌّ إلى أبـد الآبـديـن! آمين» (رؤ 1: 18).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis