|
|
|
ثانياً: الأسفار التاريخية
3 - سِفْر راعوث مقدِّمــة:
سِفْر راعوث هو قصة حبٍّ وإخلاص وفداء، وُضِعَت في سياق الفترة المُحزنة لزمن القضاة. وراعوث هي امرأة موآبية، تخلَّت عن تراثها الوثني من أجل أن تلتصق بشعب إسرائيل وإله إسرائيل. وبسبب أمانتها ووفائها في زمنٍ انعدم فيه الوفاء للوطن، كافأها الله بأن أعطاها زوجاً جديداً بدل الذي مات، ورُزقت بابنٍ، وبمكانة متمِّيزة في سلسلة أنساب داود والمسيح.
وجديرٌ بالذِّكْر أنَّ هذا السِّفْر لا يلي سِفْر القضاة في النسخة العبرية للعهد القديم، ولكنه جاء بهذا الترتيب في الترجمة السبعينية.
كاتب السِّفْر:
لم يُذكَر اسم كاتب السِّفْر. إلاَّ أنَّ التقليد اليهودي ينسبه لصموئيل النبي، ولكنه أمرٌ مُستَبعَد حيث إنَّ داود جاء ذِكْره في سِفْر راعوث في (4: 22،17)، بينما صموئيل النبي قد انضمَّ إلى آبائه قبل تتويج داود كملك. ويبدو من أسلوب السِّفْر أنه يرجع إلى مبادئ مرحلة الملكية. وبما أنَّ سليمان بن داود لم يأتِ ذِكْره في سلسلة الأنساب، فقد يدلُّ ذلك على أنَّ سِفْر راعوث قد كُتب في أيام مُلك داود. وعدم معرفة كاتب السِّفْر، على أيِّ حال، لا يُقلِّل من قيمة هذا السِّفْر والعُمق الروحي الذي يتميَّز به وجمال أسلوبه.
تاريخ السِّفْر:
رغم عدم معرفتنا بتاريخ كتابة السِّفْر، إلاَّ أنَّ قصة راعوث نفسها يُرجَّح أنها كانت في الحقبة الأخيرة من فترة سِفْر القضاة (1100 ق.م)، وتُغطِّي حوالي عشرين سنة من الزمن. هذه المرحلة من تاريخ إسرائيل كانت بصفة عامة مرحلة مُقفرة يسودها العصيان وسوء الأخلاق، بينما قصة راعوث تقف مُقابلها كواحةٍ من السمو والصلاح.
موضوع السِّفْر:
شُكِّلَت هـذه القصة القصيرة والمختصرة ببراعة وعناية بواسطة كـاتبها غير المعروف. ويخدم تركيبها الأدبي بضعة موضوعات هامة سامية، وأبرزها هو الفداء. وقد جاء لفظ ”وَليّ“ في هذا السِّفْر ثلاث مرات، وهو يعني: ”الشخص الذي يفتدي أو يُعوِّض أو يَفي“. وهو يعود إلى القانون الذي ذُكِرَ في سِفْر التثنية بخصوص المرأة التي يموت زوجها دون أن تُرزَق منه بولدٍ: «فلا تَصِرْ امرأة الميت إلى خارج لرجلٍ أجنبي. أخو زوجها يدخل عليها... وإنْ لم يرضَ الرجل أن يأخذ امرأة أخيه...» (تث 25: 5-9). وقد تطوَّر هذا القانون في أيام راعوث كما جاء في (راعوث 4: 7): «وهذه هي العادة سابقاً في إسرائيل في أَمْر الفِكاك والمُبادلة، لأجل إثبات كل أَمرٍ. يَخْلَعُ الرجل نَعْله ويُعطيه لصاحبه. فهذه هي العادة في إسرائيل». وهكذا يُصوِّر هذا السِّفْر، على وجه الخصوص، وَضْع ومسئولية ”الوليِّ“ أي القريب أو النسيب الذي يفدي المرأة الأرملة في الميراث. فقد قام ”بوعز“ بهذا الدور بشراء نصيب ”نُعْمِي“ في أرض الميعاد لحفظ ميراثها، واتِّخاذ راعوث زوجة له من أجل أن يحفظ سلسلة الأنسال للأسرة باقياً.
هذا الفداء الزمني الذي قام به بوعز، يُشير إلى الفداء الذي قام به الله للبشرية، والذي بلغ أقصاه في شخص ربنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم، ويُطهِّر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمالٍ حسنة» (تي 2: 14).
وهناك مفتاحٌ آخر لهذا السِّفْر هو ”الإحسان والمعروف“، الذي يعني عهد الوفاء الذي جاءت الإشارة إليه في الآيات (1: 8) عندما «قالت نُعْمي لكَنَّتَيْها: اذهبا ارجعا كلُّ واحدةٍ إلى بيت أُمِّها. وليَصْنَع الربُّ معكما إحساناً كما صنعتُما بالموتى وبي». وفي (1: 16) عندما «قالت راعوث: لا تُلحِّي عليَّ أن أترككِ وأرجع عنكِ، لأنه حيثما ذهبتِ أذهب، وحيثما بِتِّ أَبيتُ. شعبُكِ شعبي، وإلهُكِ إلهي. حيثما مُتِّ أموتُ وهناك أَندفن. هكذا يفعل الربُّ بي وهكذا يزيد. إنما الموت يَفصلُ بيني وبينكِ». وفي (2: 20) «فقالت نُعْمي لكنَّتها (راعوث): مُبارَك هو (بوعز) من الرب، لأنه لم يترك المعروف مع الأحياء والموتى». وفي (3: 10) «فقال (بوعز): إنكِ مُبارَكةٌ من الرب، يا بنتي (راعوث)، لأنكِ قد أحسنتِ معروفكِ في الأخير أكثر من الأول...». فإنَّ راعوث وبوعز قد أعطيا مثالاً عمَّا يجب أن يكون عهد الوفاء والبِر في زمنٍ كان «كل واحدٍ عَمِل ما حَسُن في عينيه» (قض 21: 25). فقد عبَّر هذا السِّفْر عن الوفاء بنفس التعبيرات التي وُصِفَ بها ميثاق العهد بين الله وشعبه.
كذلك أيضاً، فإنَّ العناية الإلهية قد تجلَّت فيه بكل وضوح. فمع أنَّ السِّفْر كان يصف أُناساً عاديين في ظروفٍ عادية، إلاَّ أنهم كانوا مُنقادين بيد الله الخفية، الذي كان يستخدم إيمانهم غير المعتاد ليُعِدَّ الطريق لمجيء داود أعظم ملوك إسرائيل (را 4: 22). لقد جاء اسم الله 23 مرة في هذا السِّفْر الذي لا يزيد عدد آياتـه عن 85 آية. كما أنه لم يكن أيُّ حَدَثٍ في تاريخ شعب الله غائباً أو غير متواجد، لأنه كان دائماً متداخِلاً في سياق السِّفْر.
أقوال آبائية عن السِّفْر:
1. [إذا كُنَّا نعرف أنَّ ثامار قد تضمَّنتها سلسلة أنساب الرب (انظر مت 1: 3) بسبب سرٍّ ما، فإنه ينبغي علينا أن نستنتج أيضاً بدون أيِّ شكٍّ أنَّ راعوث لم تُحذَف (من سلسلة الأنساب) لنفس السبب، الذي يبدو أنَّ الرسول القديس (متى الإنجيلي) كان يقصده بالروح، وهو أنَّ دعوة الأُمم الغريبة (عن شعب الله) سوف تتمُّ من خلال الإنجيل، حسب قول الكتاب: «عالماً هذا: أنَّ الناموس لم يُوضَع للبارِّ، بل للأَثَمَة والمتمردين، للفُجَّار والخُطاة...» (1تي 1: 9). لأنه كيف تزوَّجت راعوث، بينما كانت غريبة (عن شعب الله) برجلٍ يهودي؟ ولأيِّ سببٍ قَبِلَ الإنجيلي ذلك الزواج الذي كان مُحرَّماً تحت حُكْم الناموس، أن يدخل ضمن سلسلة أنساب المسيح؟ فهل انحدر المُخلِّص، إذن، من سُلالة غير شرعية؟ فإننا، ما لم نرجع إلى المبدأ الرسولي بأنَّ الناموس لم يوضع للبار بل للأَثَمَة، فإنَّ سلسلة الأنساب سوف تبدو مُشوَّهة، طالما راعوث كانت غريبة وموآبية، بينما ناموس موسى يُحرِّم الزواج من الموآبيين، واستبعدهم من الكنيسة كما هو مكتوب: «لا (يدخل عمُّوني ولا) موآبي في جماعة الرب، حتى الجيل (الثالث والرابع حسب النص) العاشر لا يدخل منهم أحدٌ في جماعة الرب إلى الأبد» (تث 23: 3). فمِن ثَمَّ، كيف دخلت (راعوث) الكنيسة إلاَّ إذا كان ذلك بسبب أنها صارت مُقدَّسة وطاهرة بسبب أعمالها التي تفوَّقت على الناموس؟
لأنه إذا كان الناموس قد وُضِعَ للفُجَّار والأَثَمَة، إذن، فإنه بالتأكيد أنَّ راعوث التي تجاوزت حدود الناموس ودخلت الكنيسة وصارت إسرائيلية واستحقَّت أن تُحسَب بين الأشخاص المُكرَّمـين ضمن سلسلة أنساب الرب، فقـد اختيرت لقرابتهـا في العقل (والأعمال) وليس في الجسد، وأصبحت مثالاً عظيماً يُحتَذَى، لأنها صارت قدوة لنا جميعاً نحن الذين تجمَّعنا من الأُمم لكي ننضمَّ لكنيسة الرب. وينبغي علينا، إذن، أن نحتذي حَذْوَها، تلك التي استحقَّت بأعمالها هذا الامتياز أن تكون مدعُوَّة للدخول في جماعته، كما يُعلِّمنا التاريخ، لكي نحن أيضاً بأعمالنا وما يُصاحبها من حسنات، نُستأهل أن نكون مختارين لنصير أعضاء في كنيسة الرب...
عندما قالت لها نُعمي: «هوذا قد رجعتْ سِلْفَتُكِ إلى شعبها وآلهتها. ارجعي أنتِ وراء سِلْفَتِكِ. فقالت راعوث: لا تُلحِّي عليَّ أن أترككِ وأرجع عنكِ، لأنه حيثما ذهبتِ أذهب، وحيثما بِتِّ أَبيتُ. شعبُكِ شعبي، وإلهُكِ إلهي. حيثما مُتِّ أموتُ وهناك أَندفن» (را 1: 15-17). وهكذا عاد الاثنان إلى بيت لحم. وعندما نما إلى علم بوعز جدِّ داود الأكبر، عن أعمالها وقداستها بخصوص ما فعلَتْ مع حماتها، وكذلك توقيرها للموتى وتعظيمها لله، اختارها لكي تصير زوجةً له](1) - القديس أمبروسيوس.
2. [قصة بوعز تُعلِّمنا أيضاً عن الفضيلة. فهو ليس فقط قد شارَك راعوث في حبوب الحنطة (التي جعلها تلتقطها من حقله) بكل سخاء ورضا، بل إنه واساها (في مُصابها) بكلمات العزاء. فهو لم يكتفِ فقط بأن تُشاركه طعامه، بل أيضاً كان رسول شفقة لها، وهكذا فإنه لم يطلب من شخص آخر أن يكون مُفوَّضاً عنه، ولكنه أعدَّ الدقيق والخبز بنفسه، وقدَّمه لها بكامل حريته](2) – الأسقف ثيئودوريت أسقف قورش (393-466م).
3. [فرَّت نُعْمي من المجاعة إلى أرض موآب، وهناك فَقَدَت زوجها وولديها (بموتهم). وحينذاك، عندما تجرَّدَتْ من عائليها الطبيعيين، أصرَّت راعوث الغريبة الجنس (زوجة أحد ولديها المتوفَّيْن) أن لا تتركها. فانظُر ما أعظم أن تربح وتواسي امرأة لا سند لها. من أجل هذا كوفئت راعوث بأن صارت جدَّة مُتقدِّمة للمسيح](3) - القديس جيروم.
4. [تُحسَب نُعمي الأرملة صغيرة في عينيك، لأنها سندت ترمُّلها بالتقاط الفضلات من الحصاد في حقلٍ لآخر، وأنها إذ كانت مُتقدِّمةً في أيامها كانت تُعان بواسطة كنَّتها (راعوث). إنها لمنفعة عظيمة أن تُعان الأرامل وأن تُدرَّب الكنَّات لكي يَكُنَّ مُعينات وسنداً لكبار السنِّ، وكان هذا مُكافأة لها على تعليمها وتدريبها لهُنَّ. لأن تلك التي علَّمَتْ ودرَّبتْ كنَّتها راعوث لن تكون قط مُعتازة، تلك التي فضَّلت أن تعيش مع حماتها الأرملة عن أن تعود إلى بيت أبيها؛ بل وحتى بعد موت زوجها أيضاً. فإنها قد فضَّلت أن تظلَّ مُعينة لها عند حاجتها، وتواسيها في حُزنها ولا تتركها تمضي وحدها؛ لأن التعليم الصحيح لن يعرف الحاجة قط.
وهكذا فـإنَّ نُعْمي التي فَقَدَت زوجها وولديها، ولم تحظَ بنسل مـن ثمـرة زواجها، لم تفقد الجزاء مقابـل عنايتها وتقواهـا. فقد وجـدت تعزيـة في حُزنها وسنداً في مقرِّها](4) - القديس أمبروسيوس.
5. [إنه حسب الناموس، عندما يموت رجل، فإنَّ امرأته التي ارتبط بها بعقد زواج، تنتقل إلى أخي زوجها أو إلى رجلٍ آخر يكون التالي في القرابة في عشيرته لكي يصير نسل أخيه أو التالي له في عشيرتـه، مُجدِّداً لحياة الأسرة. وهكذا فإنَّ راعوث (التي مات زوجها دون أن تُنجب منه نسلاً)، رغم أنها كانت مـن جنس أجنبي (عن إسرائيل)، قد أَخَذَتْ زوجاً من جنس إسرائيل الذي كان له نَسَب قريب (لزوجها). فمع أنه قد رآها بوعز وأحبها، بينما كانت تلتقط (الحبوب المتساقطة) في الحصاد من أجل معيشتها مع حماتها بما تلتقطه، لم يمكنها أن تصير زوجة لبوعز إلاَّ بعد أن خلعت النَّعْل الذي له حتى تصير زوجته، وذلك حسب الناموس. هذه قصة بسيطة، ولكنها عميقة في معانيها الخفية، لأن هذا الذي تمَّ عمله كان له علامات خارجية لأشياء أكثر عُمقاً.
فإننا إذا امتددنا بالمعنى لكي يُطابق الحرف بالفعل تماماً، فإننا سوف نجد بالكاد الكلمات التي تُعبِّر عن شيءٍ مُعيَّن مُخجل ومُرعب، حتى أننا قد نظنُّه أمراً مُتعمَّداً ينقل لنا فكرة علاقة جسدية عادية. مع أنَّ الأمر عكس ذلك تماماً، فإنها إشارة مُسْبقة لشخصٍ كان مُزمعاً أن يظهر من شعب اليهود، الذي هو المسيح (له المجد) الذي ظهر في الجسد، الذي كـانت مفاهيم الناموس تُشير إليه في مغزاهـا الروحي، بواسطة النَّعْل المخلوع (في زواج البديـل أو الوليِّ)، إذ كـان يُشـير إلى الزواج (الروحي) للمسيح بالكنيسة](5) - القديس أمبروسيوس.
6. [تلك الأشياء التي حدثت لراعوث ينبغي أن يُنظَر إليها كرموز، لأنها كانت من جنسٍ غريب، وعانت من فقر مُدقع؛ ولكن بوعز، عندما رآها، لم يزدرِ بها بسبب فقرها، ولا ارتعب من عدم حشمتها. كذلك أيضاً المسيح قد قَبِلَ الكنيسة، بينما كانت غريبة وفي حال المخاض، وفي حاجة إلى أمورٍ كثيرة من الصلاح. هكذا راعوث لم تكن مُرتبطة بزوجها (الجديد) إلاَّ بعد أن تركت والديها وأُمَّتها وأرض وطنها، فلم يكن أحدٌ قط مثلها أهـلاً لشـرف الزواج منها. هكـذا الكنيسـة لم تَصِرْ محبوبـة لعريسـها قبل أن تـترك كـل عـاداتها السابقة، كمـا يقول النبي: «انْسِ شعبكِ» (مز 45: 10)](6) - القديس يوحنا ذهبي الفم.
(يتبع)
(1) St. Ambrose, Exposition of the Gospel of St. Luke 3 (SC 45: 136-138).
(2) Questions on Ruth, MEIT (Ruth), 33; PG 80:521.
(3) Letter 39,5 (NPNF, 26: 52).
(4) Concerning Widows 6,33 (NPNF, 2, 296,97).
(5) On the Christian Faith 3.69.70 (NPNF, 10: 253).
(6) Homilies on the Gospel of Matthew 3, MEIT (Ruth) 35; (PG 57: 35-36).