تأملات في
شخص المسيح الحي
- 37 -



المسيح



عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (5)

أولاً: المسيح كمعلِّم ونبي (4)

كيف علَّم المسيح عن الشريعة والإنجيل؟

الرب يسوع المسيح كان آخر الأنبياء وأول كـارز بالإنجيل. وفي خدمته كـان يربط بـين الشريعة (التي تُسمَّى في الطبعة البيروتية للكتاب المقدَّس بـ ”الناموس“) والإنجيل. وكيف كـان هذا؟ فقد أوضح المسيح المتطلِّبات الروحية لتطبيق الشريعة في العهد الجديد، وبيَّن ماذا فعل الله في مواجهة عجز الشريعة عن استيفاء مطالبها من الخطاة!

تعليم المسيح عن الشريعة: لقد علَّم الرب يسوع التوراة (أي الشريعة) بطريقةٍ جديدة، بأنْ شَرَحهـا في جوهرهـا وأعماقهـا، وليس في تفاصيلها الشرعية المعقَّدة، كما وردت في تعاليم الرابِّيين (أي مُعلِّمي الشريعة اليهود)، والتي كان يشرحها الكَتَبَة والفرِّيسيون، ويُدقِّقون في تنفيذ اليهود لها. أمَّـا المسيح فقد كان تعليمه عنها بدخوله إلى جوهرهـا الروحي لإظهار سماتها الأساسية.

+ وقد ظهرت إعادة تفسير الشريعة لأول مرَّة في عظة المسيح على الجبل (إنجيل متى - أصحاحات 7،6،5)، مـا أثـار انتباه واندهاش اليهود السامعين وانبهارهم بالمعاني السامية التي أَظهرها المسيح لأول مرَّة: «فلما أَكمل يسوع هذه الأقوال بُهِتَت الجموع من تعليمه، لأنه كان يُعلِّمهم كمَن له سُلطانٌ وليس كالكَتَبَة» (مت 7: 28). وقد تكرَّر هذا الشرح، وانطباع السامعين به أكثر من مرَّة وبأكثر تفاصيل من خلال تعاليمه على مدى خدمته طيلة السنوات الثلاث التي عاشها على الأرض.

+ وقد كانت كرازته وتعاليمه تستند دائماً على أسفار العهد القديم، من خلال كلمات يقولها تكرَّرت أكثر من مرَّة مثل قوله: «أَمَا قرأتم في الكُتُب (أي أسفار العهد القديم)...» (مت 21: 42).

+ كما كان تعليمه يُركِّز على أسفار (أي كُتُب) العهد القديم بقوله: «حينئذ فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 24: 45).

+ كمـا تكـرَّرت هاتـان الكلمتان: «إنـه مكتوب...» دائماً على فم المسيح كما في (مر 7: 6؛ 9: 12؛ 11: 17؛ 14: 27،21).

+ وقد كان المسيح ينتقد السَّطْحية في فَهْم وشـرح الشريعة، مثل الفهم الشكلي للشعائـر والاحتفالات، وكذلك الجدل العقيم حول أحد بنود الشريعة، مؤكِّـداً على معانيها الأعمق ومغزاها الأخلاقي، أكثر من الجدال العقيم حول كلمة أو حرف في الشريعة أو في تفسيراتها. وهذا يظهر في قول المسيح:

«ما جئتُ لأنقضَ (الشريعة) بل لأُكمِّل»: يقول المسيح في عظته على الجبل: «لا تظُنُّوا أني جئتُ لأنقُضَ الناموس أو الأنبياء. ما جئتُ لأنقضَ بل لأُكمِّل. فإني الحقَّ أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس (الشريعة) حتى يكون الكلُّ (”حتى يتحقَّق كلُّ ما فيها“)» (مت 5: 17).

+ «ولكن لمَّا جاء ملء (أو كمال) الزمان، أَرسل الله ابنَه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت النامـوس، ليفتـدي الذيـن تحـت النامـوس» (غل 4: 5،4).

نهاية أو غاية الشريعة: يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ”إنَّ المسيح في تعليمه للناس، كان يُعلِّم بسلطانٍ، لأنه هو نفسه كان نهاية أي الغاية النهائية للشريعة“(1).

+ أمَّا عبارة: «المسيح غاية الشريعة» (رو 10: 4)، فهي في اللغة الأصلية اليونانية هكذا: +++++ +++ +++++ +++++++، ومعناهـا الحرفي أنَّ المسيح هو ختام (أو نهاية) الشريعة، حسب معنى الكلمة باللغة اليونانية+++++ :

1. أي أنَّ المسيح أصبح هو ”نهاية الجهاد بواسطة الشريعة“ ”مِن أجل البرِّ لكل مَن يؤمن بالمسيح“ (رو 10: 4؛ في 3: 9).

2. إنَّ المسيح جـاء ليُكمِّل ويُحقِّق معنى الشريعة بأن يضع جسده المصلوب والقائم من الموت من أجلنا. فكلُّ شيء عمله المسيح قد حوَّل المطالب الإلهية التي على هيئة شريعة وقوانين، لتتركَّـز الآن في شخصه في حياتـه بـالجسد، وتكتمل بموته وقيامته من بين الأموات، حسب قوله ليوحنا المعمدان: «لأنه هكذا يليق بنا أن نُكمِّل كلَّ برٍّ» (مت 3: 15).

3. إنه أتى ليختم على كلِّ الشعائر والمراسيم القديمة ليَسْمو فوق مادِّية هذه الشعائر والمراسيم التي كانت في العهد القديم (رو 5: 12-20): «من أجل ذلك كأنما بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع...».

4. لقد أتى ليُعيد المعنى الحقيقي والحيوية الأخلاقية للشريعة، وذلك مع ظهور عهد ”شريعة المحبـة“ التي على أساسـها تقوم سلوكيـات وأخلاقيات الناس. فقد حـلَّ عهد العُمق السلوكي الأخلاقي للشريعة، مع بساطة متطلِّبات الوصايا.

+ لكن المسيح لم يُلغِ أخلاقيات الشريعة، بل عمَّق مفهومها، بأنْ جعلها تصدر من داخل قلب الإنسـان، وليس مـن أَمْرٍ ونَهْيٍ وتحت تهديد مَقصلة العقوبات: «الذي ينظر (أي يتأمَّل) في الشريعة الكاملة، شريعة الحريـة، ويُداوم عليها، لا سامعاً ناسياً، بـل عـاملاً بها، فهنيئاً لـه في مـا يعمـل» (يع 1: 25 - الترجمـة العربيـة الجديـدة). وتظلُّ الشريعة بمثابة ”المُربِّي“ الذي يقود المؤمن إلى المسيح، ليُعلِّم الخاطئ خطورة الخطية، ويقوده بالتالي إلى طريق القداسة.

المسيح أَعلَن الإنجيـل، الشريعـة الجديدة، القائمة على محبة الله: ومِن هنا أتى سموُّ شريعة العهد الجديـد، شريعـة الإنجيـل: «لأن الله بموسى أعطانـا الشريعة، وأمَّـا يسوع المسيح فـوهبنا النعمة والحق» (يـو 1: 17 - الترجمة العربية الجديدة).

+ فمحور عمل المسيح، كان إعلان الأخبار المُفرحة عن فدائه للبشر، بموته وقيامته من بين الأموات. فـالمسيح نفسه ووجـوده وسط بني البشر، كان هو بحدِّ ذاته - في شخصه - هذه الأخبار المُفرحة للبشر، لكلِّ نفس على حِدَة!

+ ”الإنجيل“، بمعناه الحرفي، هو الأخبار المُفرحة عن فداء المسيح للبشر بموته وقيامته من الموت، وهو ما لم يكن مُمكناً أبداً قبل موت المسيح على الصليب ثم قيامته مُنتصراً على الموت. وهذا ما جعل المسيح، وهو في مجمع اليهود في الناصرة، وفي بداية كرازته بالإنجيل، ينطق بنبوَّة إشعياء النبي (61: 2،1): «اليومَ قد تمَّ هذا المكتوب على مسامعكم» (لو 4: 21). أما هذا المكتوب، فهو نبوَّة إشعياء النبي: «روح السيِّد الـرب عليَّ (إشـارة إلى المسيح)، لأن الرب مَسَحَني لأُبشِّر المساكين، أرسلني لأَعْصِب (أي لأُعـالج) مُنكسـري القلوب، لأُنـادي للمسبيين بالعِتْق، وللمأسورين (للخطية) بالإطلاق (بإطلاق سراحهم)، لأُنادي بسنة الرب المقبولة (وهي الحياة التي بَدَأَت بمجيء المسيح وإلى الأبد)، وبيوم انتقام لإلهنا (من الشيطان)، لأُعزِّي كلَّ النائحين» (إش 61: 2،1). ثم بدأ الرب يسوع: «يطوف كل الجليل يُعلِّم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضعفٍ في الشعب» (مت 4: 23).

كيف كان نشاط المسيح النبوي التعليمي؟

التعليم، الوعظ، والشفاء: كان أنبياء العهد القديـم يُمارسـون خـدمتهم بـالتعليم، والتنبُّؤ بالمستقبل، وشفاء المرضى، أو ببعض من هذه الأعمال. وهكـذا، وبنفس الطريقة، كـان الرب يسوع يُمارس هذه الأعمال الطيِّبة بين الجموع التي كانت تلتفُّ حوله، كما ورد في إنجيل متى (5: 17؛ 13: 57؛ 24: 9،8 نبوَّات). كما كان يُعلِّم الجموع مثل ما يُسمَّى بالعظة على الجبل (استغرقت 3 أصحاحات 5-7 من إنجيل متى)، مُعْلِناً ومُتنبِّئاً بالمستقبل (كما في مت 24: 1-51). كما كـان مُهتمّاً ومُنشغِلاً بشفاء المرضى، مـا ميَّزه باعتباره الملك والمسيَّا لإسرائيل (مر 1: 3-42؛ مت 9، لو 8: 27-48).

+ أمَّا في مجال التعليم، فكان الرب يسوع يُعلِّم ويدعو الجميع للإيمان بالخلاص.

+ وفي مجال التنبُّؤ، كان يتنبَّأ بأحداث قادمة على الشعب الإسرائيلي (لو 19: 43).

+ أمَّا في مجال الشفاء، فقد أَظْهَر قوَّة الروح القدس في شفاء المرضى: «بـروح الله أُخـرج الشياطين» (مت 12: 28).

+ وفي هذه الخدمات الثلاث، تفوَّق المسيح على أنبياء العهد القديم، ليس فقط في عددها، بل وأيضاً في عُمْقها وقوَّتها.

وهكـذا تجسَّد كلمة الله وتفوَّق على كـلام الأنبياء اللفظي: لقـد حقَّق الرب يسوع خدمـة الأنبياء. فقد بـدأ عمله النبويَّ بتجسُّده المعجزي بولادته مـن عذراء، مُظهِراً محبـة الله الأزلية والأبدية، وذلك من خلال تجسُّد ابن الله.

+ أمَّـا عمله النبويُّ، فبتعليمـه الناس عـن مشورة الله لخلاصهم مـن خلال تجسُّده، ولكن ليس بمجرد الكلام؛ بل باستعلان الله في شخص يسوع المسيح وسط الناس بقيامته من الموت.

+ وعلى المدى الزمني البعيد، اكتملت خدمته النبويَّة بطريقةٍ غير مباشرة، وذلك بتوسُّط الرسل وخُلفائهم المُخْلِصين لمُعلِّمهم الإلهي، وذلك من خلال شهادة كل الذين عاشوا حياتهم مستترة في المسيح، وذلك على مدى أجيال تاريخ الكنيسة وحتى الآن.

+ وقد عبَّر المسيح عن هذه الكنيسة المجاهدة الكارزة بتعبيره الواضح والمُركَّز: «كما أَرسلني الآب أُرسلكم أنا» (يو 20: 21).

+ وفي صـلاة المسيح للآب، قـال: «لأن الكـلام الذي (أنت) أعطيتني قـد أعطيتُـهم» (يو 17: 8).

+ وهكذا صارت خدمة كهنوت المسيح على الأرض قائمة في كلِّ زمان ومكان، وصارت تعاليم القائمين على هذه الخدمة مُطابِقة مع تعاليم المسيح وتعاليم الرسل وتعاليم آباء الكنيسة على مدى الأجيال. وبنفس الطريقة، فإنَّ تعليم المسيح يرتبط بمواهب الروح القدس، للاشتراك في خدمة التعليم، كما في خدمـة أسرار الكنيسة المقدَّسة، مُتمركزة حول سرِّ جسد المسيح ودمه الأقدسين الذي يُعطي ويُجدِّد حياة المسيح في المؤمنين.

الخصوصية الدائمة للعمل النبوي للمسيح:

إنه يمكن تتبُّع الرسالة النبوية منذ وقت معموديته إلى تعليمه للجموع، حتى موته على الصليب، ثم قيامتـه، فصعوده إلى السماء، واستمرار عمله في نفـوس المؤمنين منـذ حلول الروح القدس يـوم الخمسـين على الرسل والتلاميـذ، أول بـاكورة الكنيسة، جسد المسيح على الأرض، وحتى الآن.

+ وقد اختُتِمَت خدمته النبوية على الأرض بالصليب، حيث نَطَقَ كلمة الله القدوس، ولكن بغير كـلام، مـن خلال الأحداث المُفاجئة والتي أحـاطت بموتـه، مثل: انقلاب الطبيعة بالظلمة المُفاجئة، والزلزلة، وتشقُّق الصخور، ثم انشقاق حجـاب الهيكل إلى نصفين (مت 27: 51،45)، ثم انفتاح القبـور وخـروج بعض الموتى مـن قبورهـم وترائيهم وظهورهم للكثيرين (مت 27: 53)، وإظلام الشمس (لو 23: 45).

+ وأخيراً، قيامته، وظهوره للتلاميذ، حيث استمرَّ المسيح في تعليمه وبشارته أثناء ظهوره لتلاميذه (لو 24: 45).

+ وفي سِفْر أعمال الرسل، تسجَّلت تعاليمه وبشارته وآيات قيامته التي وصفت المسيح بأنه «أراهم (أي للتلاميذ) أيضاً نفسه حيّاً بعد تألُّمه ببراهين كثيرة، وهـو يتراءى لهم مدة أربعين يومـاً» (أع 1: 3 - ترجمـة كنيسـة الروم الأرثوذكس بلبنان).

+ ثم إنَّ خدمته النبويَّة استمرَّت في الحياة اليومية للكنيسة بعد صعوده إلى السموات وانسكاب الروح القدس، الذي صار به يُعلِّم الكنيسة مُقدِّماً للجماعة المسيحية العابدة الأولى، خدمته النبويَّة المستمرة، وذلك مع امتداد الكنيسة في جميع أنحاء العالم وحتى اليوم، مُعلِّمة العالم تعاليم المسيح، ومُقدِّمة للمؤمنين الجُدُد جسد المسيح ودمه الأقدسين وباقي أسرار الكنيسة المقدَّسة.

+ وسـيظلُّ استعـلان المسيح للآب مُقدَّماً للكنيسة في كل مكان وزمان، وإلى نهاية الزمن: «لأننا الآن ننظر في مرآة على سبيل اللُّغز، أمَّا حينئذ فوَجْهاً لوجه. إني أَعْلَمُ الآن بعض العلم، أمَّا حينئذ فسأَعْلَمُ كما عُلِمْتُ (من الله)» (1كو 13: 12 - ترجمة كنيسة الروم الأرثوذكس بلبنان).

+ لقد أتى المسيح ليُحقِّق ما قد «كُتِبَ في الأنبياء»، أي أنَّ المؤمنين به «سيكونون مُتعلِّمين كلهم من الله» (يو 6: 45؛ إش 54: 13).

(يتبع)

**************************************************************************************************

اقرأ للأب متى المسكين بمناسبة عيد العنصرة
الروح القدس الرب المحيي (في جزئين داخل كيس واحد) 55 جنيهاً
العنصرة - الروح القدس في حياة الكنيسة 5 جنيهات
الباراكليت - الروح القدس في حياة الناس 11 جنيهاً
الروح القدس في الاستشهاد والرهبنة 3 جنيهات
حلول الروح القدس 4 جنيهات
مقالات قصيرة عن الروح القدس 5 جنيهات
يوم الخمسين وميلاد الكنيسة جنيهان
عمل الروح القدس في العذراء وفينا 3 جنيهات
رسائل في عيدَي الصعود والعنصرة 7 جنيهات
يوم الخمسين في التقليد الآبائي 4 جنيهات
الروح القدس وعمله داخل النفس 13 جنيهاً
مع الروح القدس في جهادنا اليومي 5 جنيهات
المواهب الكنسية 6 جنيهات
تُطلب من:
دار مجلة مرقس
القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 25770614
الإسكندرية:
8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740
أو من مكتبة الدير
أو عن طريق موقع الدير على الإنترنت:
www.stmacariusmonastery.org

**************************************************************************************************

(1) John Chrysostom, Hom. on John, XII; NPNF, 1st Ser., Vol. XIV, p. 41.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis